الأسلوب والأسلوبية
عدنان علي رضا النحوي




1- " الأسلوب والأسلوبية ":
موضوع جديد في ميدان الفكر والأدب، ظهر في الربع الثاني من القرن العشرين، وكان أول من بدأ بها " شارل بـالي " تلميذ " دي سوسير "، ثم انطلقت مذاهبها في تيّارات مختلفة متضاربة مصاحبة لتيّارات الحداثة والبنيوية والتفكيكيّة ومنطلقة منها.

لقد كانت كلمة " الأسلوب " وما يرادفها في اللغات الأُخرى كلمةً واضحة لدى العامة والخاصة، وكان هنالك دراسات وتصوّرات للأسلوب واضحة كذلك مهما اختلفت فيها وجهات النظر، بل أكثر من ذلك، كانت الدراسات حول الأسلوب مفيدة للأديب ولما ينتجه الأديب، مساعدة على نموِّ العطاء والإتقان والإحسان فيه.
وحسب ما أعتقد، فقد جاءت الدراسات الحديثة " للأسلوب والأسلوبية " لتطرحه في متاهة واسعة من مظانّ الفلسفة وسراديبها، دون أن تكون عاملاً مساعداً للأديب أو لعطائه، أو للأدب بصفة عامة، هذا هو الشعور الذي تملكني وأَنا أَدرس هذه القضية في متاهاتها المظلمة.
ومهما يكُـن من وجهات نظر مختلفة حول هذا الموضوع بين بعض الأدباء، إلا أن الذي يجب ألا يُختلَفَ فيه هو رفض ما ورد من إساءة للتصَوُّر الإيماني، والإساءة في تأويلٍ فاسدٍ لبعض الآيات الكريمة.
ولا يختلف اثنان أن " الأسلوب والأسلوبية " كما ظهرت في هذا القرن، هي وليدة الحداثة ومختلف مذاهبها من بنيوية إِلى تفكيكية إِلى غير ذلك.
يَتلقَّى بعضهم ما يَرِدُنا من العالم الغربيّ اللادينيّ والعَلماني، تلقّي القَبول والاستسلام، دون أدنى محاولة للتمحيص والتدقيق، وردّ الأُمور إِلى منهاج الله، وقد بلونا من ذلك كثيراً، ولم يدرك بعض أبناء المسلمين أَنَّ بَيْنَ ما يَردُنا سمّاً زُعافاً طواه الزخرف المُغْري، والأعجب أن أكثر ما أخذناه كان في ميدان فتنة الفكر والخلق، وفساد الممارسة وانحلال القيم، وقليلون أولئك الذين يتساءلون كيف دخلت علينا أنواع الرقص وجنون الغناء ولهيب الفاحشة، ولم تدخل الصناعة التي تعين على حماية ديارنا وأعراضنا وأموالنا؟! كيف دخلت شعارات مساواة المرأة بالرجل ولم تدخل شعارات مساواة الإنسان بالإنسان في ميدان الإنسانيّة وشعارات الديمقراطيّة وحقوق الإنسان؟! كيف جاء طوفان الإعلام يدعو إلى جميع أشكال هذه الفتن، ولم يدع إِلى حق المسلمين بأن يمتلكوا القوة العلميّة والصناعية والعسكرية؟!
كيف رضي بعض المسلمين من خلال دعوة السلم والسلام أن نُلْقِيَ أسلحتنا، ويمضيَ الغربُ يُنمّي أسلحته الفتاكة المبيدة؟!
يُـمَنّيهِمْ عَدوُّ الله مَـكْـراً *** بزُخْرُفِ فتنةٍ وغُرورِ حَالِ ([1])
ويَخْدعُهم بِدَعْوى السِّـلم حِيناً *** وحِينـاً بالفَسَـاد أوِ الضّلالِ
فألْقَـوْا عن كَواهِلهمْ سِـلاحاً *** ودارُوا في هَوى قيلٍ وقالِ
فَفُتِّحتِ القلوبُ لكلِّ غازٍ *** وفتّحـتِ الديـارُ لكـلِّ قــالِ
وفاجَأهم سلاحٌ ذو مَضَاءٍ *** يُقَتِّل باليمين وبالشِّمـالِ
ولقد سعى أَعداء الله إِلى غزو العالم الإسلامي بكلِّ أنواع الأسلحة الفكرية والقتالية والأدبية، ولقد تميّز سلاحهم الأدبيّ المدِّمـر بأنه لا يهاجم الـدين الحق بصورة مباشرة تستفُّز الشعور وتوقظ الغافلين في أغلب الأحيان، كلاّ! إنه يهاجم بأسلوب غير مباشر، ويَسْتَغلُّ شهوات الإنسان وأهواءه ونزعاته المتفلّتة ورغباته المفتونة.
ومن هنا كان خطر الأَدب الزائـف الذي يحمل الفتنة كما تَحْمل الحلوى السمّ.
لذلك كان من أهم أسباب دراستي للحداثة والبنيوية والعلمانية، والأسلوب والأسلوبية هو نزع غطاء الزخرف الكاذب، وكشف الفتنة وسمِّها، من خلال منهاج الله، وبأسلوب الحجّة بالحجة، لا بالمهاترات والصراخ والشعارات.
والقضيّة الثانية التي أُحِبُّ أن أُثيرها، هي أنَّ بعضنا يرَى الغرب العلماني في قمة الصواب، وأن ما يطرحه من نظريات فكرية وأدبيَّة هي ذروة ما يسمونه " الإبداع "! وسَرَتْ هذه الشائعة، حتى توهَّم الكثيرون منا أَنَّنا لا نملك القدرة على طرح نظريات إيمانيّة نابعة من منهاج الله، لنردّ على النظريات العلمانية، والحقيقة التي لا شك فيها أن منهاج الله كنز عظيم لا يفنى، ويمكن أن نَصْدُرَ عنه بأغنى النظريات الفكريَّة والأدبية وغيرهـا، وأغنى المصطلحات، وأقوم المناهج، وأصدق الوسائل، لننهض إلى واجبنا بإنقاذ الإنسان، إنسان اليوم، من مخالب الضواري وأنياب الوحوش الكواسر، المجرمين الظالمين المعتدين في الأرض، أهل الفتنة والفساد:
المجرمون استكبروا في الأرض مَنْ *** سَيَرُدُّ كيدَ المجرمين الجُحَّدِ([2])
فئة معطّرة الفداء غنيّـةٌ *** لله تنهـج بـالسبيـل الأقْـصَدِ
أغنى الحياة بصدقه وولائه *** لله لم يـشـرك ولم يـترَدّدِ
فئة كأنّ المسكَ من أنفاسِها *** ملأ الزّمان وعطَّرَ الأفْق الندي
تمضي فيهتزُّ الربيع بها إذا *** طَلَعَتْ ويغْنَى كلُّ وادٍ أجْرَدِ
بشرى رسول الله آية ربّه *** للعالمين ورحمة للمجْهَدِ
ولا تنحصر الأَحداث بمجرياتها وفواجعها بالمجرمين وحدهم، ولكن النائمين الغافلين، التائهين المستضعفين، مشاركون بذلك، لأنهم لم ينهضوا إِلى مسؤولياتهم، ولا إلى الوفاء بالأمانة التيِ خُلِقوا لها.
إننا ندرس هذه الموضوعات، ونقدمها للقارئ الكريم، ليدرك مدى خطورة تسلل الأفكار العلمانيّة المناهضة للإسلام، ومدى خطورة تقبُّلها من بعض المسلمين، حتى إِذا تجمّعت هذه وتلك، أخذت هذه الأفكار كلها توهن من عزيمة الأمّة ومن ثقتها بربها ومن نهوضها للوفاء بأمانتها التي ستحاسَبُ عليها بين يدي الله.
عند دراسة أيّ أمر أو قضيّة، يجب أن يكون هنالك ميزان نؤمن به ونزن الأمور والقضايا به، ميزان أمين معلن عنه معروف لدى الناس، حتى يعرف الناس منطلقك والأسس التي تبني عليها رأيك.
إنّ الميزان الذي نزن به الأمور ليحكم على هذه القضية أو تلك بأنها حق أو باطل هو ميزان المنهاج الربّاني، فهو وحده الميزان الحق الأمين، وهو الذي يجب أن تردّ الأمور كلها إليه، صغيرها وكبيرها. وهو الميزان الذي لجأنا إليه لندرس قضيَّـة " الحداثـة " كلها ومذاهبها و" البنيويّـة " و " التفكيكيّة "، وكذلك " الأسلوب والأسلوبية "، وكذلك العلمانيّة، وسائر القضايا التي تعرَّضنا لها بالدراسة والتحقيق والتدقيق.
إِن أَعداء الإِسلام لم يتركوا أَسلوباً لمحاربة الإِسلام إِلا لجؤوا إِليه، سواء أكان الأسلوب مباشراً أو غير مباشـر، وهذا أسلوب غير مباشر حين يستخدمون الأدب، ويُطلقون منه مذهباً بعد مذهب، ليدعو كلُّ مذهب إِلى صورة من صور التحلُّل من أسس وقيم، وإِلى التفلّت منها، لتتفجّر الشهوات وتتدفّق، ولتصبح خَدراً يسيل مع الدم في العروق.
ولا نستطيع إلا أن نعترف بأنهم حققوا نجاحاً كبيراً في واقع العالم الإسلامي، نجاحاً يكشف عن نهج عام وخُطّة شاملة، يُخفونها أول الأمر ثمّ يكشفون منها شيئاً فشيئاً، على قدر ما أصاب الخَدَر من النفوس والقلوب، وما كان سبب نجاحهم إلا قوّة الجهد الذي بذلوه للفتنة والفساد، وغفوة المسلمين غفوة كبيرة.
ومهما يكن، فيظل واجب المؤمن أن يتصدى للدفاع عن دينه وإسلامه، لاجئاً إلى الله - سبحانه وتعالى -، يستمد منه العون والقوة.
إنه دين الله، وإنّ الله ناصر دينه، ولكنها فترات ابتلاء وتمحيص قد تطول وتمتدّ على حكمة لله بالغة وقدر غالب، لتقوم الحجّة على كلّ إنسان يوم القيامة، أو تقوم له.
ويجب أن نعلم، كما بيَّنَّا في أكثر من كتاب، أنه ما من مذهب أدبيّ إلا وكان وراءه مذهب فلسفيّ يغذّيه ويدعمه، فكم من نزعة فساد انتشرت في الأرض عن طريق مذهب فاسد في الأدب.
تدعو " الحداثة " إلى عزل المؤلف عن كلمته وما ألفه، وتجعل هذا العزل أو تسميه موت المؤلّف. وبذلك خالفوا المبدأ العظيم في الإسلام من أن كلّ إنسان مسؤول عن عمله وعن كلمته، كما جاء في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((...وهل يكبّ النَّاس على وجوههم)) أو ((مناخرهم في جهنّم إلا حصائد ألسنتهم)) [الترمذي: 41/8/2616].
وعن طريق الأدب المنحَلِّ ومذاهبه نشروا الفاحشة بألوانها، واستخدموا بعض الألفاظ في غير معناها، فحين دعوا إِلى " تحرير المرأة " دَعَوْا في الحقيقة إلى تقييدها بالشهوات الماجنة أو الأهواء المتفلتة، وجَرّدوها من عفَّتها حتى تكون عبدة لا حرّيّة لها، وأطلقـوا شهوات الشباب حتى سقط الكثيرون في حمأة الرذيلة، حتى صاروا عبيداً لها.
2- لماذا ندرس الأَسلوب والأسلوبيّة من حيث إِنها مذهب غربيّ؟!
لماذا ندرس الأسلوب والأُسلوبية من حيث إنها مذهب غربيُّ، ولماذا ندرس سائر المذاهب الأدبية والفكرية في الغرب؟!.
ندرس ذلك لنعـرفَ أحدَ المنافذ التي يأتي الخطرُ منها على العالم الإسلامي، ولنعرف ما نأخذ وما ندع، لنحميَ أمّتَنا ودينَنا ونوفّرَ أسبابَ النهوضِ من الكبوةِ التي وقع فيها المسلمون اليوم.
العالم الإسلامي اليوم متأخّر من حيث القوةُ الماديةُ والصناعيةُ والعلميةُ بالنسبة لما وصل إليه الغرب. والغربُ متخلف تخلّفاً مريعاً بالنسبة للتصوّر الإيماني الإنسانيِّ الرّباني، ويمكن أن يعيش الإنسان بغير صناعة متطورة، ولكن لا يستطيع أن يعيش دون أخلاق ورسالة تحمل الأخلاق، ويكون الواقع أسوأ بكثير على الإنسان في الأرض، حين يتوافر لدى أمة من الأُمم جبروتُ القوةِ الماديةِ من صناعة وسلاح، وتتجرّدُ من قوَّةِ الأخلاق ورسالتها، فتضطرب الموازين، ويمتدُّ الظلم، والعدوان والمجازر. فمن يوقف ذلك، والسلاح يدفعه والموازين مضطربة والأخلاق ورسالتها مطويّة.
يجب أن نأخذ من غيرنا ما تحتاجه الأُمَّة المسلمة اليوم من صناعة وعلوم تطبيقية في مسيرة نهضتها الإِيمانيّة في مختلف ميادين الحياة، نريد ذلك لأننا نؤمن أن لنا نحن الأمةَ المسلمةَ رسالةً في الحياة: أمانةً حملناها، وعبادةً خُلِقْنا لها، وخِلافةً جُعلت لنا، وعمارةً للأرض بحضارة الإيمان أُمِرْنا بها.
إنها رسالة وأَمانة وإِننا محاسَبون عليها بين يدي الله يوم القيامة، وإنها هي محورُ العهد مع الله، العهد الذي أَخذه اللهُ من بني آدم ومن ذريَّاتهم كلِّهم في عالم الغيب، ثم تأكَّد العهد مع كلِّ أُمة وكلِّ رسول. إنهـا مسؤوليّة عظيمة، وشرف عظيم لمن يقوم بها، وظلم وجهالة لمن يتخلّف عنها.
(إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) [الأحزاب: 72].
وحتى ننجح بالأخذ عن غيرنا يجب أن نلتزم بأربعة شروط رئيسة:
أولاً: أن يكون لدينا ميزان أمين دقيق نحدّد به ما نأخذ وما ندع، وهذا الميزان الذي لا ميزان لنا سواه هو منهاج الله - قرآناً وسنّة ولغة عربيّة -، ميزاناً يجب أن يملأ نورهُ قلوبَ المسلمين إيماناً وعلماً ثمّ ممارسة.
ثانياً: أن لا نقف عند الأخذ فحسب، فمسؤوليتنا تفرض علينا أن نعطي ونقدّم حين نأخذ، فإن كان لدى بعض الأمم قوة العلم الدنيوي والصناعة والسلاح، فإن لدينا وحدنا العلمَ الحقَّ والنظرة الأمينة والتصور الكامل الشامل للكون، والموت والحياة، والإنسان، وما سخَّره الله للإنسان.
ثالثاً: أن نعي الواقع الذي نعيشه لا من خلال الخوف والوهم والظنّ، ولكن من خلال منهاج الله.
رابعاً: أن يدرس ذلك المختصّون المؤمنون الذين لا يُفْتَنون بإذن الله وهم يأخذون ما نحتاجه من غيرنا.
فإذا توافرت هذه الشروط الأربعة أصبح ما نأخذه من غيرنا يطابق قوله - سبحانه وتعالى -: (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين) [النحل: 66].
نعم! نريد أن نأخذ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، ولا نريد أن نأخذ الفرث والدم مما هو متوافر لدى غيرنا، ومما هو غصّة وفتنة وضلال.
الخير الحق ملك للناس جميعاً، لا يحلُّ لأحد أن يحجزه، ولا يحقّ لشعب أن يدّعي أنه صاحب حضارة خاصة به وحده، إلا حضارة الإيمان التي بناها المسلمون المؤمنون الممتدون مع الرسل والأنبياء، والذين ختموا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فهم وحدهم الذين بنوا حضارة الإيمان، حضارة التوحيد، حضارة الخير الحق.
وحين اختصّت هذه الأمة المسلمة الممتدّة ببناءِ حضارة الإِيمان والتوحيد، فإنها كذلك ساهمت بالحضارة الماديّة من علوم تطبيقيّة وصناعة، لتسخّرها في طاعة الله، ولتكون جزءاً لا ينفصل عن حضارة الإِيمان والتوحيد، ولتكون هذه الحضارة الإيمانيّة حضارة ممتدة شاملة لجميع ميادين الحياة.
وأما المجرمون المفسدون في الأرض فقد اختصوا بأن يساهموا في الحضارة الماديّة ليعزلوها عن الإيمان والتوحيد، حتى أصبحت حضارة مادية علمانية، ساهم في بنائها التاريخ البشريّ كله.
وما بناه الإنسان من علوم وصناعة، فإِنما ذلك فضلٌ من الله، هداهم الله به إليها، فكفروا به وبفضـل الله، وعزوا ذلك لأنفسهم فتنة وضلالاً وابتلاءً من الله، لتقوم الحجة عليهم يوم القيامة.
ولقد جعل الله الكون مفتوحاً لعباده كلهم، للتقيّ والفاجر، ليسيروا في آفاقه حيث تقوم آيات الله البيّنات، يراها المؤمن فيزداد إِيماناً، ويراها الكافر فيأخذه الكبر والغرور، ويحسب أنه هو صانعها ومبدعها.
الإنسان بحاجة اليوم إلى حضارة الإيمان والتوحيد، لينطلق بها المؤمنون المتقون، فيصلوا ما انقطع منها فترة من الزمن، ويمضوا على صراط مستقيم يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، ومن الموت إلى الحياة.
ولفظة الحضارة كلمة جرت على ألسنة الناس، دون أن يكون لها معنى محدّد في القلوب والوعي، فمن الناس من يحسب الحضارة عمائر وشوارع، أو يحسبها مجرَّد علم وصناعة وسلاح، أو أيّ نشاط مادي يوفّر للإنسان متعته ورفاهيته.
أما حضارة الإيمان والتوحيد، فإنها تشمل ذلك كله، تشمل كل نشاط مادّيّ في الحياة يوجهه الإيمان والتوحيد، حتى يرتبط النشاط بهما، تترابط عناصر النشاط كلها لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، من الفتنة والكفر والجهل والظلام إلى الإيمان والعلم والنور، من العلمانيّة والجاهليّة، إلى الإيمان والحق.
3- لمحة سريعـة عن الغزو العَلماني اللاديني للعالم الإسلامي:
إننا نلمس اليوم تسلل التصورات الوثنيّة والعلمانيّة إلى العالم الإسلامي في ميادين مختلفة من الحياة: الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الأدبيّة، إن هذا التسلل بدأ منذ عهد بعيد، ولكنه اشتدّ اليوم وبرزت مظاهره وامتدت، ولقد سقط في حمأة الفكر العلماني كثيرون، ولم يكن لهم بادئ الأمر صولةٌ وجولة، ولكنهم اليوم امتدوا وانتشروا وعلت منابرهم.
بدأ الغزو أول الأمر بالجيوش والسلاح، والاحتلال والعدوان، والإِرهاب والفتك، وكان يستخدم الحركات التنصيرية التي يدّعي أنه لا يؤمن بدينها ممهِّدةً لجيوشِه الزاحفة، وكان يستغل المستشرقين والضعفاء، ويستغل الإعلام، وأخذ يهدّم في حصون الأمة حصناً حصناً بشكل عدائي سافر، ومع المقاومة التي كان يلقاها في مختلف بقاع العالم الإسلامي لجأ إلى أُسلوب خفيّ غير مباشر يستغل فيه الأدب والكلمة، والفكر والفلسفة، في إطار مغرٍ من الزخرف والزينة، تحت شعارات مغرية كذلك ولكنها مضلِّلة، مثل الحرّية، الإنسانيّة، العـدالة، المساواة، حقوق المرأة، حقوق الإنسان، وسحق المرأة وإلقائها في وحول الجريمة المدَبَّرة، وجريمة سحق الشعوب كذلك، ولقد أثَّر زخرف الشعارات وأثر إعلامها الهادر حتى خدّر الكثيرين، وجاء الأدب الزائف يحمل الزخرف الزائف ليتابع نشر الفتنة والفساد بصورة هادئة غير مباشرة، وكانوا يهدفون من ترويج الأدب الزائف الواهي إلى عدة أمور في وقت واحد: أولاً إِبعادِ المسلم عن لغته العربيّة الأصلية وآدابها، ونشر اللهجات العامية واللغات الأجنبية، ثم إبعاد المسلم عن كتاب الله وسنة نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، ثم إبعاده عن تراثه الصادق الصافي بمحاولة طمسه بالشبهات، ولقد أصابوا في ذلك نجاحاً ملحوظاً، حتى إنك ترى أن اللهجات العامية طغت، واللغات الأجنبية امتدت، وكذلك آدابها وتصورها، وهجر الملايين من المسلمين كتاب الله وعمّ الجهل باللغة العربية وبالكتاب والسنة القطاع الأعظم من المسلمين في الأرض.
وسهّل امتداد جريمة الآدابِ الغربيّةِ بأسلوبٍ ناعمٍ هادئٍ ما كان يثيره إِعلامهم ومن سقط من المسلمين في ضلال دعوتهم من أنه لا علاقة بين الأدب والدين، وإِنهم لكاذبون، وإنهم ليعلمون أنهم كاذبون مفترون خادعون، فصدّق الفريةَ الكثيرون وبرزت التبعيّة الأدبيّة تحمل الضلال والسمّ الزعاف.
إنهم يعلمون أن كل مذهب أدبيّ ظهر عندهم كان وراءه فكر وفلسفة تدعمه وتغذّيه، فالكلاسيكيةُ كان وراءها الوثنيةُ اليونانيّة والرومانيّة، والرومانسية كان وراءها الفلسفةُ المثالية، والمذهب الوجودي كان وراءه الفلسفة الوجودية، وكذلك الواقعية وسائر المذاهب الأدبية، وإِنهم ليعلمون أن الإسلام فكر مشرق قادر على أن يدفع أدباً ينبع منه، إنهم يعلمون كل ذلك، ولأنهم يعلمون ذلك فقد كانوا يخافون الإسلام والأدب الذي يمكن أن ينبع منه نظريةً ونصّاً، والذي يلتزم الإسلام التزام وعي وقدرة وصدق.
إنهم يخافون ذلك خوفاً شديداً، لأنهم عرفوا من خبرتهم الطويلة في صراعهم مع الإسلام، أن الإسلام هو الدين الوحيد في الأرض الذي لا يمكن مساومته على حقٍّ أو دفعه إلى باطل، مادام أبناؤه مستمسكين به صادقين واعين عاملين باذلين، إِنهم يدركون أنه الدين الوحيد الذي يَجْمع أبناءه أمةً واحدةً لا يَحلُّ لها التفرُّق والصراع: (فاستمسكْ بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) [الزخرف: 43]، (والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين) [الأعراف: 170].
ولكن " فوكوياما "، في كتابه " نهاية التاريخ والرجل الأخير "، يُطمئن الغرب على ديمقراطيّته التي يرى أنها هي نهاية التاريخ البشريّ، يطمئنهم بأنه مع أن الإسلام يملك من المقومات ما يؤهله لمصارعة الديمقراطية، إلا أنه لا خوف من ذلك، فالمسلمون ممزّقون لا أمل بلقائهم أبداً، ولكننا نقول له: الله أكبر، وسيلتقي المؤمنون على قدر من الله غالب، ووعد صادق، وعلى المؤمنين المتقين أن يهبّوا ليصدقوا الله ويوفوا بعهدهم مع الله.
ـــــــــــــــ ـــــــ
(1) من قصيدة " كوسوفا " في ديوان: عبر وعبرات للمؤلف.
(2) من ملحمة الإسلام في الهند.