الأدب والعقيدة
وليد قصاب



إنَّ الذي لا شَكَّ فيه هو أن الصِّلَة بين الأدب والعقيدة صِلَة قديمة حديثة، ولكنَّها أجلى ما تكونُ عليه
في الإسلام؛ إذ لم يَعرِف دينٌ من الأديان أو مذهبٌ من المذاهب البشرية - علاقةً وَشِيجة بينه وبين الأدب كما عَرَف ذلك الإسلام؛ ذلك أن معجزة هذا الدين الكُبرَى هي معجزة أدبيَّة، تَمثَّلت في القرآن الكريم، قمَّة الرَّوْعَة البيانيَّة، وذِرْوَة الارتِقاء الفني التعبيري، وبذلك نَبَّه الإسلام منذ لحظة نزوله الأولى على دور الكلمة في بناء الإنسان والكون، وعلى أثرها في تكوين المشاعر والأحاسيس، وفي صياغة وجدان الناس، وتشكيل الرُّؤَى والتصوُّرات، ونشْر القِيَم والأفكار والرسالات.
ولا ينبغي أن يمرَّ المسلم مُرورًا سريعًا على هذه الواشِجَة القويَّة التي أقامَهَا الإسلام بين العقيدة والكلمة في أشكالها المختلفة التي يمكن أن تخرج عليها، ولا أن يغفل عن هذه الدلالة، أو لا يتوفَّر على درسها الدرس الكافي.
لقد مَضَى الإسلام بعد ذلك في نصَّيْه الأساسَيْن الكبيرَيْن: القرآن والسنَّة، يستخدم نماذج مختلفة للكلمة في التعبير عن رسالته، وفي تبليغ دعوته، وإيصال صوته إلى الأفئدة والضمائر والعقول، استخدَم القرآن الكريم الموعظة، والمَثَل، والحوار، والحكمة، والقصة، والمناظرة، والتاريخ، وغير ذلك، وصاغَ الكلمة في هذه الأنماط جميعها، وفي كثيرٍ غيرِها صِياغَة فنيَّة مؤثِّرة، لم يرقَ إليها - ولا يمكن أن يرقَى - أيُّ أديبٍ في القديم والحديث.
ثم استحكمت الواشجة بين الأدب والدين أكثر وأكثر في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد كان - عليه السلام - في ذروة سنام القوم فصاحةً، وكان كلامه نماذج عُليَا في التعبير الأدبي الراقي، استعمَلَ أشكالاً كثيرة من التعبير؛ كالمَثَل، والخطبة، والحكاية، والموعظة المباشِرة وغير المباشِرة، والرمز والكناية، وأنماط لا حَصْرَ لها من تصريفات القول، وأساليبه المختلفة، وكان - عليه السلام - من الفصاحة والبلاغة بموضع يجعله مُهيَّئًا للتعامُل مع القرآن الكريم - النص المعجِز - تفسيرًا وتوضيحًا وتبليغًا، بمستوى فنيٍّ عالٍ يَلِيق بالمكانة الأدبية البلاغية للكتاب المنزل.
ثم كان الشعر العربي - ولا سيَّما القديم منه - عاملاً أساسيًّا في إثبات إعجاز القرآن الكريم وفهمه، حتى أُثِرت المقولة المشهورة: "إذا استعصَى عليكم شيءٌ من كتاب الله فالتَمِسوه في الشِّعر".
ثم خرجت علوم آداب العربية كلها من مشكاة هذا الكتاب العزيز، كانت البلاغة ذات غرض ديني، هو فهم أسرار القرآن الكريم التعبيرية، والوقوف على عَجائبه وطاقاته الأسلوبية؛ لإدراك إعجازه وتميُّزه.
وكان وضع النحو والمعاجم، وجمع شَوارد اللُّغة، ولَمْلَمَة أشعار العرب في دَواوين ومَجامِيع ومُصنَّفات - لهذه الغايَة العقَدِيَّة.
كان ذلك كلُّه من جَذْوَة القرآن وإليه؛ لحماية ألسِنَة الناس من الخطأ في كتاب الله، والاستِعانة على فهْمِه وضبْطِه، وكان الاستشهاد باللغة والشِّعر ممَّا لا يَستغنِي عنه مفسِّر ولا محدِّث، ولا فقيه ولا قاضٍ ولا مُفْتٍ، ولا خطيب ولا طالب علم.
وهكذا قامت الواشجة القويَّة المكينة بين الدين والأدب على نحوٍ لم يُعرَف في أيِّ دينٍ من الأديان، أو عقيدة من العقائد.
ولأن القرآن الكريم نزل باللغة العربية، ولأن النبي - عليه السلام - عربي؛ ارتَبَطَ الإسلام بهذه اللغة ارتِباطًا وثِيقًا، حتى لا يُتَخيَّل إسلامٌ من غير عربيةٍ، ولا عربيةٌ من غير إسلامٍ، وكان هذا بُعْدًا آخر يُضاف إلى العربية وآدابها.
وقد أُثِر عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - قوله: "ما أردت بتعلُّم العربية والأخبار إلا الاستعانة على الفقه"[1].
كما أُثِر عن الإمام الشافعي قوله: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لترْكهم لسانَ العرب وميْلهم إلى لسان أرسطوطاليس"[2].
وهكذا تبدو العلاقة بين الأدب والدين في الإسلام علاقة شديدة الوضوح، جليَّة لا خَفاء فيها، ويبدو من غير الطبيعي تغييب هذه العلاقة، أو التَّشكيك فيها، أو التهوين من قيمتها.
إن الأدب الإسلامي إذًا أدب عَقَدِيٌّ؛ أي: هو مُرتَبِط بالعقيدة الإسلامية؛ يصدر عنها، ويغترف من نبْعها، والعقيدة الإسلامية مفهوم شامل للكون والحياة والإنسان، تشمل كلَّ صغيرة وكبيرة، وتنعكس على أنشطة الإنسان جميعِها، فهي ليسَتْ مَقصورة على الشعائر الدينية: من صوم، وصلاة، وجهاد، وما شاكَل ذلك، بل هي تصوُّر كامل شامل لكلِّ شأنٍ من شؤون الحياة، وكلِّ أمرٍ من أمور الإنسان،
ومن ثَمَ فلا خطر أن تَغتال العقيدة الفن، أو تقصَّ من أجنحته. والأدب الإسلامي في هذا ليس بدعًا؛ فكلُّ أدبٍ يصدُر عن عقيدة، وإذا كانت الآداب الحديثة اليوم قد استدبرت المعتَقَدات الدينية والشرائع السماوية، وتنكَّرت لدين الله وكتبه ورسالاته، واستبدلَتْ بها شرائع وفلسفات وعقائد من صُنْعِ الإنسان، بحيث إن الصلة بين الآداب الحديثة والأديان السماوية هي صلة مُنقَطِعة أو شبه منقطعة، فإن الأدب الإسلامي يُعِيد هذه الصلة، ويُرجِع الكلمة إلى رِحاب الدين محضنها الأوَّل.
إن الأدب الحديث يتحدَّث اليوم عن العقيدة تحت أسماء متعدِّدة، فيُعبِّر عنها بـ(الأدب والأيديولوجيا) ولا سيَّما في المراحل المتأخِّرة من تاريخ الحضارة الغربية؛ عندما راح الإنسان يبحَث عن بدائِل للدين في الفلسفات البشرية التي اتَّجه أغلبها إلى المادَّة.
وإنَّ المذاهب الغربية جميعها - ابتِداءً من الكلاسيكيَّة وانتِهاءً بآخِر مذهبٍ أدبي - قد صدرَتْ عن مُعتَقدٍ ما، أو مفهومٍ حياتي خاصٍّ، بل نحن نذهب إلى أبعد من ذلك، فنجد مذهب (الفن للفن) نفسه تعبيرًا عن تصوُّر فكري مُعيَّن.
وعلى الرغم من أن الآداب الغربية بصورة عامَّة قطعت الصلة بالأديان السماوية، واستبدلَتْ بها - كما ذكرنا - عقائد بشريَّة؛ فإننا لا نعدم أصواتًا دعَتْ إلى ربْط الأدب بدين سماوي؛ كإليوت الذي كان كاثوليكيًّا مُتعصِّبًا كما رأيناه، وكان يشكو من الأدب الغربيِّ الحديث؛ لا لأنه مُنافٍ للأخلاق فحسب، وينكر أهمَّ المعتقدات وأكثرها جوهريَّة؛ بل لأنه كذلك ينحو إلى تشجيع قُرَّائه على انتِهاب ما يستطيعون انتهابَه من الحياة.
ـــــــــــــــ
[1] انظر: "سِيَر أعلام النُّبَلاء"؛ للذهبي: 10/ 75.
[2] انظر: كتاب "صَوْنُ المنطق واللسان"؛ للسيوطي: ص14.