قوارع المواعظ في آيات الطلاق (تأمّلات)
يعقوب بن مطر العتيبي

قال أحدهم ذات يومٍ متعجّباً: فلانٌ إمامُنا يبكي عند كلّ آية!!.
فقلت: ربّما وجد من عظيم التدبّر ما رقّ له قلبُهُ، وهَمَلَت منه عيناه، وإن كانت آيات الوعد والوعيد هي مظنّة البكاء ورقّة القلب، إلا أنّ في آيات الأحكام الشرعية المتضمّنة لصلاح أحوال الأسرة والمجتمع ما يفسّر وصف القرآن بأنه (موعظة) و(يهدي للتي هي أقوَمُ)، ولك أن تتأمّل بعض آيات (الطلاق) على سبيل المثال.
نعم..(آيات الطلاق) التي ربّما ظنّ بعض الناس أنها بمنأى عن الوعظ والتذكير الذي هو مظنّة الخشوع، وما يتبعه من بكاءٍ ووجل قلب، فإذا هي متضمّنة من فواصل الوعظ، وقوارع التذكير ما تلين له الأفئدة.
والآن.. دونك هذه الآيات:
- (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة الطلاق: 229].
تأمّل كيف كانت بداية الآية الكريمة حكماً شرعياً يتعلق بالطلاق والعدد الذي تحصل به الرجعة، وهو حكم فقهي، ولذا فهذه الآية مصنّفة ضمن آيات الأحكام، لكن كانت خاتمتها وعظاً زاجراً لمن يتساهل في هذا الحكم فيحمله عدم خوفه من الله - تعالى -إلى أن يقع في الظلم الذي حرّمه الله - تعالى -على نفسه، وجعله بين عباده محرّما.
- وآيةٌ أخرى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة البقرة:231].
لقد تضمّنت هذه الآية الكريمة حكماً شرعياً جاء في فاتحتِها، وهو إرشاد المطلّق إلى الإحسان في الطلاق، والزجر عن الإمساك ضراراً، أما الخاتمة فكانت ردعاً وزجراً.
بل جاء النصّ صريحاً (يعِظُكُم بِهِ)، ثم جاء التذكير بالتقوى والإشارة إلى ضرورة مراقبة الله - تعالى-.
- وآية ثالثة: -ولا زلنا في الباب نفسِهِ (باب الطلاق)-: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة: 232].
تأمّل كيف كان الحديث عن مشكلة العضل -وهي واحدة من المشكلات الاجتماعيّة التي لا تزال إلى يوم الناسِ هذا-، جاءت الآية الكريمة في بيان النهي عن إحدى صورِ العضل، وكان شأنُها شأنَ سابقاتِها من مخاطبة المؤمنين وتذكيرهم، وقد جاء وعظاً مباشراً مصرّحاً به (يُوعَظُ).
قال أبو حيّان في "البحر المحيط " (2/221): "وذكر الإيمان بالله لأنه - تعالى -هو المكلف لعباده، الناهي لهم، والآمر. و: اليوم الآخر، لأنه هو الذي يحصل به التخويف، وتجنى فيه ثمرة مخالفة النهي. وخص المؤمنين؛ لأنه لا ينتفع بالوعظ إلاَّ المؤمن، إذ نور الإيمان يرشده إلى القبول".
ـ وآيةٌ رابعة: (وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سورة البقرة: 233].
والقضيّة هنا في شأن الوالدات ما عليهنّ وما لَهنّ -مطلّقاتٍ أو غيرهن-، وفي شأن حقّ الطفل، فجاءت الآية خاتمة للتذكير برعاية هذه الحقوق، واستحضار التقوى، وترسيخ جانب المراقبة في أدائها.
- وآيةٌ خامسة: قال - تعالى -: (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [سورة البقرة: 235].
إنّها تربية على استحضار علم الله - تعالى -وإحاطته بسرائر الأمور ومكنونات الصدور، ولو كان المقامُ مقامَ حكمٍ شرعيٍ متعلّقٍ بقضيّة خِطبة المعتدّة.
- وأختم الأمثلة بهذه الآية الكريمة: (وَلِلْمُطَلَّق اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة: 241].
ما أعظم هذا القرآن..!
في جملةٍ يسيرةٍ يقترن الوعظ بالحكم الفقهي؛ ليثمرَ هذا الاقترانُ في نفس المتأمّلِ قاعدةً من أعظم قواعد الإصلاح المجتمعي، بل هي أعظمُها، ألا إنّها ترسيخ الإيمان وتقوية الخوف من الله، لا سيّما في أبواب التعامل وحقوق الناس.
واقرأ سورة (الطلاق) و(النساء) وغيرَهما إن شئت؛ لتدرك كيف كانت هذه الطريقة مطّردةً في آيات (الطلاق)، بل في غيرِها من الأحكام التي يغلب التساهل فيها، ويغيب جانب العدل، ويكون الظلمُ سيّدَ الموقف.
وبعدُ.. فإن أيّ إصلاحٍ -في نواحي الحياةِ جميعِها- لا ينطلق من قواعد الإيمان، ولا يهتدي بهدي القرآن، فليس له نصيبٌ من مقوّمات البقاء، ولا يستحقّ أن تسري الحياة في جسَدِه، وواللهِ لن تغني (النظريات المستوردة) -البعيدة عن هدي القرآن- شيئاً، ولن تثمر إصلاحاً، والواقع خيرُ شاهد.
إذا الإيمان ضاعَ فلا أمانٌ *** ولا دُنيا لمَن لم يُحيي دِيناً
اللهمّ اهدِنا صراطك المستقيم، وانفعنا بالقرآن العظيم، وأعذنا من نزغات الشيطان الرجيم، وصلّ وسلّم على خير خلقك وآله وصحبه أجمعين