وقفات تدبرية مع آية من آيات الصيام


الشيخ مشاري بن عيسى المبلع



الحمد لله مولانا الكريم، وأفضل الحمد ما حمد به الكريم نفسه، فنحن نحمده به، ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ [سبأ: 1، 2].

فإن ثمة عبادة هي من أجل العبادات، وثمة قربى هي من أعظم القربات، خصوصا في شهر تنزل الذكر الحميد، وتتابع أنعام العزيز المجيد، طاعة أنزل القرآن من أجلها، وفصل الفرقان بسببها، إنها عبادة التدبر، وهنا أعني تدبر القرآن الكريم.

القرآن الكريم لا ينفع قارئه إلا إذا كان يعمل به، ولا يمكن أن يعمل به إلا إذا تدبره، ولا يمكن أن يتدبره إلا إذا فهم معانيه، وهذا هو الذي نريد أن نقف عنده هنا.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل والرضا والتفويض، والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله. وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة، والتي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها.. فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن. ا.هـ

فلنعش متدبرين لجزء يسير من آيات الكتاب المجيد، فنتدبر آية من الآيات التي تتحدث عن الصيام. يقول الله جل ذكره: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ [البقرة: 183] ، الله - جل جلاله - يبدأ هذه الآية الكريمة بترقيق الحكم الصادر بالتكليف القادم وهو الصيام فكأنه يقول: "يا من آمنتم بي وأحببتموني لقد كتبت عليكم الصيام". وعندما يأتي الحكم ممن آمنتَ به فأنت تثق أنه يخصك بتكليف تأتي منه فائدة لك. فلم يقل الله: يا أيها الناس، بل قال: ﴿ يا أيها الذين ءامنوا ﴾، فهل استشعرتَ هذا المعنى وأنت تسمع هذه الآية من قبل؟

ثم يقول الله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 183]، وفي هذا تسلية لأهل الإيمان الذين ناداهم الله في أول الآية بأنهم ليسوا وحدهم في هذا التشريع، بل سبقتهم بهذا الأمم من قبلهم؛ فيكون وقع الأمر بالصيام على نفوسهم أخف إذا علموا ذلك. فهل استشعرت هذا المعنى وأنت تسمع هذه الآية من قبل؟.

ثم قال الله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾فما دخل التقوى بالصيام؟! فعل الطاعة وترك المعصية هذه هي النتيجة المرجوة ممن صام حقًا، ولذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الشاب الذي لم يجد قدرة على الزواج، بالصوم فقال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [رواه مسلم] وكأن الصوم يشذب القوة المادية في جسم الشاب. ومن ثم فإن تقليل الطعام يعني تقليل وقود المادة، فيقل السعار الذي يدفع الإنسان لارتكاب المعاصي. والصيام في رمضان يعطي الإنسان الاستقامة لمدة شهر، ثم بعد ذلك يلحظ الإنسان حلاوة الاستقامة فيستمر بها بعد رمضان.

وهنا سؤال: هل شرع الله لنا صيام رمضان ليحرس لنا الدين فنحافظ فيه على الصلاة والزكاة وغيرهما من الطاعات؟ أم شرع لنتدرب فيه على صفاء النفس، ونستشعر لذة العبادة، ونتذوق فيه حلاوة الأنس بالله؟

أجيب فأقول: إنما اصطفى الله رمضان من بين الشهور ليحس المسلم بلذة العبادة، فيجعل عامه كله رمضان، فإذا فتر المؤمن بعد أحد عشر شهرا فستعيد نفسه لذة العبادة حتى يلقى الله وهو لم يزل في لذة من العبادة، فيحصل بعد ذلك على أعظم لذة وهي رؤية الله تبارك وتعالى، نسأل الله ألا يحرمنا منها.