شبهات حول تحويل القبلة


محمود طراد


عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى إلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوْ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ؛ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ؛ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ المَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ؛ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَ الذي مَاتَ علَى القِبْلَةِ قَبْلَ أنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا، لم نَدْرِ ما نَقولُ فيهم؛ فَأَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ وعلا-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. هذه الحادثة هي حادثة (تحويل القبلة) التي استقبلها اليهود والمشركون وتبعهم مجموعة المنحرفين فكريا في هذا العصر بمجموعة من الافتراءات والشبهات، نقف على بعضها بالرد في السطور القادمة -إن شاء الله تعالى.
لماذا التحويل؟
يدعي بعض الناس أن حادثة تحويل القبلة نوع من العبث وإلا فهي نوع من أنواع العنصرية التي يبغضها المسلمون في اليهود، ومع ذلك فإنهم حولوا القبلة إلى مكة ليقوموا بالدور نفسه الذي قام ويقوم به اليهود فما الفرق؟ والحقيقة أن هذا محض افتراء لا صحة له؛ فالحكمة من تحويل القبلة مسطور في الآيات؛ إذ إنها أولاً: اختبار من الله -تعالى- لمن يثبت في اتباعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ممن ينقلب على عقبيه، وفي ذلك يقول الله -تعالى-: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة البقرة: 143).
- ثانياً: أن من تمام النعمة من الله على آخر الأمم التي تعد شريعتها متصلة بشريعة إبراهيم -عليه السلام- ومجددة لها أن تكون قبلتها هي قبلة إبراهيم -عليه السلام-، قال -تعالى-: {ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}.
- ثالثاً: لقد كان مركزية آخر الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - في مكة؛ ولذا كان تحويل القبلة إليها، قال -تعالى-: {لتنذر أم القرى ومن حولها} (الأنعام: 92).
هل تحويل القبلة دليل على التناقض في أفعال الله -تعالى-؟
يدعي المرجفون أن تحويل القبلة دليل على التناقض؛ إذ يقولون: إذا كانت الكعبة أفضل فلم لم يوجه الله -تعالى- المسلمين إليها منذ البداية، وإذا كانت قبلة بيت المقدس باطلة فلم توجهوا إليها قبل ذلك؟ والجواب على هذه الشبهة كالتالي: إن عقيدة المسلم أن علم الله -تعالى- أحاط بكل شيء؛ فلا تضيف له الأحداث علماً ولا يظهر له -سبحانه- مع الأيام شيء كان يجهله، قال -سبحانه-: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}، والله -عز وجل- قد ثبتت له صفات الكمال، ومتى ثبت ذلك علمنا أن النهي عما كان مباحاً وإباحة ما كان منهيا عنه، إنما هو لحكم إلهية اقتضتها الأحوال، والإباحة والنهي كانا في علم الله -تعالى-؛ فهذا ليس تناقضاً ولا اضطراباً في الأمر والنهي، بل هو لاختبار المسلمين: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} البقرة: 143 ومن الأدلة على ذلك أن الله -تعالى- ذكر مقالتهم قبل أن يقولوها لعلمه -سبحانه- بما سيحدث فقال -سبحانه-: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 142).
النسخ دليل على كمال الشريعة
يرفض بعضهم قضية النسخ في الإسلام ظناً منهم أن النسخ يستلزم العلم بعد الخفاء، وهذا محال على الله -تعالى-، بل النسخ في الإسلام دليل على كمال الشريعة وذلك لما يلي: ما جاء نبي من الأنبياء إلا بنسخ شريعة من كان قبله؛ لأن شرائع الأنبياء جاءت مختلفة لاختلاف الأزمنة والأمكنة، وما يصلح لأمة قد لا يصلح لأمة أخرى، والمنسوخ قبل نسخه يكون أصلح وأنفع للأمة في ذلك الوقت حتى يحين وقت آخر؛ فتنتهي الحكمة من العمل به، وتبدأ مرحلة حكم جديد بحكمة جديدة، ثانياً: بالنسبة للنبي الواحد لماذا يأتي بناسخ ومنسوخ داخل شريعته؟ الجواب: أن الأنبياء يثبتون شرائعهم بالتدريج، كمثل أحكام تحريم الخمر وحكم زيارة القبور وغير ذلك.
هل انتهت قداسة بيت المقدس؟
يدعي اليهود أن تحويل القبلة دليل على أنه لم يبق للمسلمين في بيت المقدس شيء، وأن قداسته الإسلامية قد نسخت! ولم يعد للمسلمين علاقة بالمسجد الأقصى، رغم أن اليهود حينما رأوا رسول الله -[- يصلي إلى بيت المقدس فرحوا وقالوا: إنه يريد أن يقلدنا ويتقرب منا، بينما علاقة المسلمين بالمسجد الأقصى لم ولن تنقطع؛ فهو مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي وُثقت رحلته في قول الله -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء: 1)، وهو المسجد الذي جمعه النبي صلى الله عليه وسلم مع المسجد الحرام والمسجد النبوي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، وفيه فضل الصلاة المشهور، كل ما سبق يؤكد أن المسجد الأقصى إسلامي لا يهودي، وأن مزاعم اليهود عن تلك القطيعة بعد تحويل القبلة خرافات وتدليسات.
كيف كان بيت المقدس قبلة اليهود؟
عندما بعث الله -عز وجل- سيدنا موسى - عليه السلام - لم يتخذ اليهود بيت المقدس قبلة بناء على أمر منه تشريعاً من الله -تعالى-، بل علاقتهم ببيت المقدس علاقة ناتجة عن أهوائهم، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا أنهم يحسدوننا على قبلتنا؛ حيث يقول: «إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين»، وهذا يدل على أن الصخرة التي يستقبلونها لم يؤمروا بها من الله -تعالى.
الإمام ابن القيم يؤكد القطيعة بين اليهود وقبلتهم
يؤكد الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- على أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي والتوقيف من الله، بل كان عن مشورة منهم واجتهاد؛ أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق أبداً، وهو مقرون بذلك، ومقرون أن قبلة المسيح كانت قبلة بني إسرائيل، وهي الصخرة، وإنما وضع لهم شيوخهم وأسلافهم هذه القبلة، وهم يعتذرون عنهم بأن المسيح فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام، وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء؛ فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال المشرق على لسان رسوله أبداً، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك.

الفكر الحداثي يروج للخرافة
انتشر في السنوات الأخيرة بعض التصريحات الحداثية التي تشكك في رحلة الإسراء، وأن للآيات الواردة في القصة تأويلات أخرى، وأن المسجد الأقصى لم يكن موجوداً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ليس هو الذي في فلسطين؛ فالرحلة لم تكن إلى الأقصى الموجود الآن، بل على حسب زعمهم كان هناك مسجد في منطقة الجعرانة بالطائف وهو المقصد في الآية، وقد كانت تصريحات الحداثيين العرب ترديدا لما قاله أستاذ صهيوني في جامعة دار إيلان كان قد صرح بذلك عام 2009 أمام الكينست الإسرائيلي.