الحكمة من تسلط أهل الباطل على أهل الحق أحياناً
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العقيدة الأصبهانية ص96 :" وسألهم هرقل عن محاربته ومسألته فأخبروه أنه في الحرب تارة يغلب كما غلب يوم بدر وتارة يغلب كما غلب يوم أحد وإنه إذا عاهد لا يغدر فقال لهم: وسألتكم كيف الحرب بينكم وبينه فقلتم إنها دوال يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها قال: وسألتكم هل يغدر فقلتم إنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر فهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون علم أن هذا من علامات الرسل فإن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أنه يبتليهم بالسراء والضراء لينالوا درجة الشكر والصبر كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}.
فمن الحكم تمييز المؤمن عن غيره فإنهم إذا كانوا دائما منصورين لم يظهر لهم وليهم وعدوهم إذا الجميع يظهرون الموالاة فإذا غلبوا ظهر عدوهم قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُم ْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وأمثال ذلك ومن الحكم أن يتخذ منكم شهداء فإن منزلة الشهادة منزلة عليه في الجنة ولا بد من الموت فموت العبد شهيدا أكمل له وأعظم لأجره وثوابه ويكفر عنه بالشهادة ذنوبه وظلمه لنفسه والله لا يجب الظالمين.
ومن ذلك أن يمحص الله الذين آمنوا فيخلصهم من الذنوب فإنهم إذا انتصروا دائما حصل للنفوس من الطغيان وضعف الإيمان ما يوجب لها العقوبة والهوان قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} وقال تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تقيمها الرياح تقومها تارة وتمليها أخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجفافها مرة واحدة".
وسئل صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء؟ فقال: "الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلي الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه رقة خفف عنه وإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ولا يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وأهله وماله حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة".
وقد قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} وفي الأثر فيما روي عن الله تعالى: "يا ابن آدم البلاء يجمع بيني وبينك والعافية تجمع بينك وبين نفسك" وفي الأثر أيضا: "إنهم إذا قالوا للمريض اللهم ارحمه يقول الله كيف أرحمه من شيء به أرحمه" وقد شهدنا أن العسكر إذا انكسر خشع لله وذل وتاب إلى الله من الذنوب وطلب النصر من الله وبرىء من حوله وقوته متوكلا على الله ولهذا ذكرهم الله بحالهم يوم بدر وبحالهم يوم حنين فقال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}.
وشواهد هذا الأصل كثيرة وهو أمر يجده الناس بقلوبهم ويخشونه ويعرفونه من أنفسهم ومن غيرهم وهو من المعارف الضرورية الحاصلة بالتجربة لمن جربها والأخبار المتواترة لمن سمعها ثم ذكر حكمة أخرى فقال {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وذلك أن الله سبحانه إنما يعاقب الناس بأعمالهم والكافر إذا كانت له حسنات أطعمه الله بحسناته في الدنيا فإذا لم تبقى له حسنة عاقبه بكفره والكفار إذا أديلوا يحصل لهم من الطغيان والعدوان وشدة الكفر والتكذيب ما يستحقون به المحق ففي إدالتهم ما يمحقهم الله به" انتهى كلام الشيخ رحمه الله

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في شرح كشف الشبهات ص48 :"
ولا تظن أنه يرد عليه تسليط أهل الشر في هذه الأزمان، فإنه بسبب إضاعته، وإلا دينُ رب العالمين محفوظٌ مؤمِّنٌ بحفظ من يقوم به. ولا تظن أنه يرد عليه إدالة أهل الباطل بعض الأحيان فإنه تمحيصٌ ورفعة وغرور لأهل الباطل"
وقال ابن القيم في النونية:
والحق منصور وممتحن فلا ... تعجب فهذي سنة الرحمن
وبذاك يظهر حزبه من حزبه ... ولأجل ذاك الناس طائفتان
ولأجل ذاك الحرب بين الرسل والـ ... كفار مذ قام الورى سجلان
لكنما العقبى لأهل الحق إن ... فاتت هنا كان لدى الديان
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه/ عبدالله الخليفي