قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة ، دار عالم الفوائد مكة المكرمة ، (ط1: 2 / 569 - 571) :
(وإذا نظرتَ إلى الأرض كيف خُلِقَت، رأيتَها مِن أعظم آيات فاطرها وبديعها، خَلَقها سبحانه فِراشًا ومِهادًا، وذلَّلها لعباده، وجعل فيها أرزاقَهم وأقواتهم ومعايشَهم، وجعل فيها السُّبل ليَنْتَقِلُوا فيها في حوائجهم وتصرُّفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتادًا تحفظُها لئلَّا تميدَ بهم، ووسَّع أكنافَها، ودحاها فمَدَّها وبَسَطها، وطحاها فوسَّعها من جوانبها، وجعلها كِفاتًا للأحياء تضمُّهم على ظهرها ما داموا أحياءً، وكِفاتًا للأموات تضمُّهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرُها وطنٌ للأحياء وبطنُها وطنٌ للأموات.
وقد أكثرَ تعالى من ذكر الأرض في كتابه، ودعا عبادَه إلى النَّظر إليها والتفكُّر في خلقها؛ فقال تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)} [الذاريات: 48]، {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64]، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20]، {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)} [الجاثية: 3]. وهذا كثيرٌ في القرآن.
فانظر إليها وهي ميتةٌ هامدةٌ خاشعة، فإذا أنزل عليها الماءَ اهتزَّت فتحرَّكت، ورَبَت فارتفعت، واخضرَّت وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيج، فأخرجت عجائبَ النَّبات في المنظر والمَخْبر، بهيج للناظرين، كريم للمتناولين، فأخرجت الأقواتَ على اختلافها وتبايُن مقاديرها وأشكالها وألوانها ومنافعها، والفواكة والثِّمار، وأنواعَ الأدوية، ومراعي الدَّوابِّ والطَّير.
ثمَّ انظر إلى قِطَعِها المتجاورات، وكيف ينزلُ عليها ماءٌ واحدٌ فتُنبِتُ الأزواجَ المختلفةَ المتباينةَ في اللون والشَّكل والرائحة والطَّعم والمنفعة، واللِّقاحُ واحدٌ، والأمُّ واحدة؛ كما قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4].
فكيف كانت هذه الأجنَّة المختلفةُ مُودَعةً في بطن هذه الأمِّ؟ ! وكيف كان حملُها من لقاحٍ واحد؟ ! صُنعَ الله الذي أتقنَ كلَّ شيء، لا إله إلا هو.
ولولا أنَّ هذا من أعظم آياته لما نبَّه عليه عبادَه، وحدَاهم إلى التفكُّر فيه؛ قال الله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7]؛ فجعَل النظر في هذه الآية وما قبلها مِنْ خَلْق الجنين دليلًا على هذه النَّتائج الخمس، مستلزِمًا للعلم بها.
ثمَّ انظرهُ كيف أحكمَ جوانبَ الأرض بالجبال الراسيات الشَّوامخ الصُّمِّ الصِّلاب، وكيف نَصَبَها فأحسنَ نَصْبَها، وكيف رَفَعَها وجعلها أصلبَ أجزاء الأرض؛ لئلَّا تضمَحِلَّ على تطاوُل الزمان وترادُف الأمطار والرِّياح، بل أتقنَ صُنعَها وأحكَم وضعَها، وأودعها من المنافع والمعادن والعيون ما أودعها، ثمَّ هدى النَّاسَ إلى استخراج تلك المعادن منها، وألهمَهم كيف يصنعونَ منها النُّقودَ والحُلِيَّ والزِّينةَ واللباسَ والسِّلاحَ وآلات المعاش على اختلافها، ولولا هدايتُه سبحانه لهم إلى ذلك لمَا كان لهم عِلمُ شيءٍ منه ولا قدرةٌ عليه).