آية على جدار المسجد




عبد الرحمن عبدالوهاب


كانت مسيرة الحياة في قريتنا أشبه بانسياب الماء الجاري في الجدول الكائن أمام بيتنا، ولكن ترى ما هي الأشياء التي تركت بصماتها على الذاكرة؟
تعود بي الذاكرة إلى الوراء حينما كنت في السابعة لتعرض عليَّ بعض الأحداث عن نكسة (67) وكيف أن أصدقاء الوالد كان يجلسون مستندين إلى الجدار الطولي المنخفض أمام الدكان يستمعون إلى الأناشيد العسكرية، وكيف كان الجميع مشدودي الأعصاب، كانت هناك لوحة كاريكاتورية تسخر من أمريكا وإسرائيل ودايان، معلقة على جدار الدكان، كذلك كان هناك خط جميل في غاية التناسق لآية قرآنية كتبها أحد شباب القرية المتعلمين، وكان من حي "المشروع" أخذت طول المسجد من بداية بابه إلى بروز القبلة من الخارج: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} وتحتها كتب اسمه "نبيل"، كنت أرى وأشم من رائحة خطه روح الثورة والحافز الجهادي.
كانت ربما أول آية قرأتها كاملة في سن السابعة، ولذلك لم أنسها، ولن أنسى ذلك اليوم الذي رحت أخط الآيةفيه بألوان الشمع الحمراء على جدران غرفة الجلوس في بيتنا، وكيف أنَّ أختي الكبرى نهرتني عن الكتابة على جدران البيت، ويومها مسحتها من على الحائط بقطعة قماش مبتلة بالكيروسين.
وبقيت آثارها باقية إلى أنَّ تم إعادة دهان البيت..
وذات يوم بينما كنت أفتش في صندوق الذكريات القديم، وهو صندوق يضم أوراقاً مهمة خاصة بالعائلة، منها ما يخص صكوك ملكية وعقود بيع، كانت توجد في هذا الصندوق صورة لشخص يبدو عليه التواضع، وعندما كنت اسأل عن صاحب هذه الصورة كانوا يقولون: هذا "عبده" ابن عمتك حسناء، استشهد في (67).

هذا الرجل لم أكن أعرفه، ولكنني لم أنسه، وكانت آصرة القربي تغلي في عروقي: كيف مات؟ وأين مات؟ بدأت أكره اليهود، وبخاصة عندما أرى ابنته وهي تأتي إلينا في الأعياد، تلك التي بقيت يتيمة، وكان اليهود هم السبب في يتمها.
كانت تترك في نفسي أسىً وحزناً وغيظاً، وهي هادئة منزوية.. بالإضافة إلى أهل قريتي الذين لم يسلموا أيضاً من فقدان فلذات أكبادهم، وكيف أنَّ عائلة واحدة قد استشهد منها اثنان قد تركا حزناً عند أمهم وأبيهم الحاج هاشم سليم، وكيف أنَّ اليهود وأدوا بسمة أمهم وهي تبكي، كنت أسمع بكاءها أثناء ذهابي إلى مدرستي صباحاً.. كيف أن الشيخ "حسن عبدالله" (ذاك الشيخ الوقور الذي كنت أستريح إلى قسمات وجهه الحزين وهو يأتي من حي "التفاتيش" خصيصاً ليصلي في مسجد قريتنا الجامع).. نعم، هذا الحزن على وجهه بصمة من بصمات اليهود على أهلنا وأهل قريتنا.
وها هي حرب (73) تأتي بثقلها النفسي على بيتنا وأهل قريتنا، وأخي محمد أثناء ذهابه في مهمة عسكرية ماراً بقريتنا وهو يلتقي والدي للحظات بسلاحه والشدة "الميري".. كيف كان الحزن يحرق قلبي وتغلي دموعي وأخي يذهب ولا أعرف هل سأراه فيما بعد أم لا، كم كنت أختنق وأنا أودعه في دكان الحاج "محمد محرم" ليركب "الأتوبيس" ليقله للجبهة..
كانت أياماً حُرمنا فيها البسمة، ـ كلما تذكرت أولئك.. أهل قريتي، وأخي وهو يُبعد عني ـ أتذكر الذين فجعوا في أبنائهم، تقفز إلى ذهني الآية المخطوطة على جدران المسجد {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم}.