هل قرأ النبي بالإمالة !
ومن أين جاءت الإمالة إلى الأئمة القراء. (طبعة مزيدة ومنقحة)

الحمد لله رب العالمين, والصلاة السلام على من بعث بالشريعة السمحة رحمة للعالمين, وعلى الآل والصحب الكرام, وعلى كل مؤمن طالب للحق متجرد لما دل عليه الدليل والبرهان.
أما بعد:
فكنت قبل بضع سنوات قد كتبت هذا البحث في بعض المنتديات, وأضعه الآن بطبعة جديدة فيها تنقيح وتهذيب وزيادات مهمة أسأل الله أن ينفع به ويجعله خالصاً لوجه الكريم.

وقد سبق ذكر بحث طويل جداً في بيان أن طريقة أداء التلاوة بجميع أنواعه وتفاصيله ليس مروياً بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وذكرت الدلائل الكثيرة على ذلك, وهو بعنوان "اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ".
والإمالة في الحقيقة نوع من أنواع الأداء فهي داخلة ضمن الموضوع السابق المشار إليه, وإنما خصصت الإمالة بهذا البحث لأهمية مسألة الإمالة.

فهل قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة ؟
وإن كان الجواب بالنفي فمن أين جاءت الإمالة إلى الأئمة القراء رحمة الله عليهم أجمعين.

وسوف أتوقف في هذا البحث مع عدد من المسائل, وهي:
أولاً: هل قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة.
ثانياً: تخريج الأحاديث الواردة في الإمالة.
ثالثاً: لماذا وجدت الإمالة عند بعض القراء.
رابعاً: لماذا أنكر بعض الأئمة والعلماء القراءة بالإمالة.
خامساً: دلائل أخرى تدل أيضاً على أن الإمالة لم تنقل عن النبي.
سادساً: هل الإمالة من الأحرف السبعة ومن القراءات.
سابعاً: هل يصلح لمن لم تكن لهجته الإمالة أن يقرأ بالإمالة.
ثامناً: لماذا أمال حفص في حرف واحد فقط, وهو كلمة (مجراها).
تاسعاً: وقفة مع الهذلي صاحب كتاب "الكامل".
عاشراً: وقفة أخيرة.
والآن إلى بيان هذه المسائل ونستمد من الله تبارك وتعالى العون والسداد:

أولاً:
هل قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة؟
أقول بكل طمأنينة وثقة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بالإمالة البتة لأدلة ثلاثة.
الأول:
أنه لم يثبت أي دليل يدل على قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة كما سيتبين في التخريج بعد قليل.
فلم يرد إلا ثلاثة أحاديث لا يوجد غيرها, وكلها واهية شديدة الضعف.

الثاني:
لو كانت القراءة بالإمالة قد وقعت من النبي محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا بد أن تنقل وتذكر بكل وضوح, فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل كل ما يتعلق بكيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن, فكيف نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ بالإمالة, ثم لا نجد أن أحداً من الصحابة يذكر ذلك ولا ينقله ولا يشير إليه, بل يتنكرون له ويعرضون جميعاً عن ذكره, مع أنه مخالف للهجتهم وما اعتادوا عليه, في الوقت الذي نقلوا فيه أشياء كثيرة في أمر القراءة وغيرها هي دون ذلك في الأهمية بكثير.

إذاً يستحيل أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة ثم لا ينقل الصحابة ذلك ولا يذكرونه.
وفي هذا اتهام للصحابة بالكتمان أو عدم الاهتمام والمبالاة فيما يتعلق بأمر بالدين والقرآن, وهذا تصور خطير يدعو إلى الشك في أشياء كثيرة من أمر القرآن والشريعة أن الصحابة أهملوها فلم ينقلوها, وهو يسهل لكل أمر محْدَث في الدين أن يمرر ويسوغ بمثل هذه الدعوى الخطيرة.

الثالث:
أن طائفة كبيرة جداً من الأئمة وكبار أهل العلم قد تكلموا في الإمالة كما سيأتي ذكره, ولا يمكن أن يقع ذلك منهم لو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ بالإمالة.

وسوف أذكر في المسألة الرابعة من هذا البحث أدلة أخرى كثيرة كلها تدل أيضاً على أن الإمالة لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانياً:
تخريج الأحاديث الواردة في الإمالة.
الحقيقة أنه لا وجود لأي دليل صحيح يمكن أن يستدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالإمالة, إلا بعضاً من الأحاديث الواهية التي ذكرها بعض العلماء, والآن سأذكر تخريجهاً مفصلاً ليتبين أنه لا يصح منها شيء البتة, وأنها واهية شديدة الضعف.
الدليل الأول:
ما روي عن زر بن حبيش أنه قال: (قرأ رجل على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (طه) ولم يكسر, فقال عبد الله: (طه) وكسر الطاء والهاء, فقال الرجل: (طه) ولم يكسر فقال عبد الله (طه) وكسر الطاء والهاء فقال الرجل (طه) ولم يكسر, فقال عبد الله: (طه) وكسر الطاء والهاء, فقال الرجل: (طه) ولم يكسر, فقال عبد الله: (طه) وكسر, ثم قال: والله لهكذا علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هذا الحديث قد أخرجه أبو عمرو الداني في "تاريخ القراء", وابن الجزري في "النشر" (2/31)
من طريق: محمد بن عبيد الله, عن عاصم, عن زر بن حبيش به.
قال ابن الجزري: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وهذا الحديث ضعيف جداً.
فإن محمد بن عبيد الله هذا هو العرزمي, وهو متروك الحديث. انظر: "التهذيب" (9/322)
فلا يصح الاستدلال به لضعفه الشديد.

وأخرجه الفراء في "معاني القرآن" (2/174), والأزهري في "معاني القراءات" (2/141) عن قيس بن الربيع, عن عاصم, عن زر به.
وهذا حديث لا أصل له, كما قال الإمام الكبير أبو حاتم.
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/62): "سألت أبي عن حديث رواه السمري صاحب الفراء، عن الفراء، عن قيس بن الربيع، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {طه}مكسورة.
قال أبي: هذا الحديث لا أصل له"اهـ
وقيس بن الربيع ضعفه وكيع, وأحمد, وعلي بن المديني, وابن معين, والنسائي, والجوزجاني, ويعقوب بن أبي شيبة, وابن سعد, والدارقطني, وغيرهم, وسئل ابن نمير عن قيس بن الربيع؟ فقال: كان له ابن هو آفته, نظر أصحاب الحديث في كتبه فأنكروا حديثه, وظنوا أن ابنه قد غيرها, وقال أبو داود الطيالسي: إنما أتي قيس من قبل ابنه, كان ابنه يأخذ حديث الناس فيدخلها في كتاب أبيه, ولا يعرف الشيخ ذلك. انظر: "التهذيب" (8/391)
وقال ابن حجر في "التقريب" (2/128): صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به.

وأخرجه الحاكم (2/245) عن أبي بكر بن أبي دارم، عن عبيد بن غنام بن حفص بن غياث, عن عبيد بن يعيش, عن محمد بن فضيل، عن عاصم، عن زر به.
وهذا إسناد تالف.
أحمد بن محمد بن أبي دارم رافضي لا يوثق به, كما قال الحاكم. وقال الذهبي: كوفي رافضي كذاب. انظر: "الميزان" (1/139)
وعبيد بن غنام لم أجد أحداً ترجم له قبل الذهبي رحمه الله, فحاله غير معلومة, وإن وثقه الذهبي في "السير" (13/558), وقال فيه مرة: صدوق, كما في "العبر في خبر من غبر" (2/113), وقال: هو راوية الكتب عن أبي بكر بن أبي شيبة.
وعلى أي حال فلا يمكن الاعتماد في أمر خطير كنسبة الإمالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سند فيه رجل رافضي كذاب لا يوثق به, كما قال الحاكم نفسه والذهبي.

وقال الدارقطني كما في "أطراف الغرائب والأفراد" (4/352): (قرأ رجل طه...) الحديث.
غريب من حديث أبي بكر بن عياش, عن عاصم, عن زر.
تفرد به شيخنا أبو إسحاق إسماعيل بن يونس بن ياسين الكاتب, عن أبي هشام الرفاعي, عن أبي بكر بن أبي عياش"اهـ
قلت: أبو هاشم الرفاعي هو محمد بن يزيد, وقد قال فيه البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه, وقال ابن نمير: كان يسرق الحديث, وقال ابن نمير أيضاً: هو أضعفنا طلباً وأكثرنا غرائب. انظر: "الميزان" (4/68)
وإسماعيل بن يونس بن ياسين لا تعرف حاله. انظر: "لسان الميزان" (1/446)

الدليل الثاني:
حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها, وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين).
قال الداني كما في "النشر" (2/30): "فالإمالة لا شك من الأحرف السبعة ومن لحون العرب وأصواتها"اهـ
والحقيقة أن هذا الحديث منكر كما قال الذهبي في "الميزان" (1/553)
وقد أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8/108) (7219), وابن عدي في "الكامل" (2/78), والبيهقي في "الشعب" (2/540), والجوزجاني في "الأباطيل" (723)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" ( 1/ 118) (160)
من طريق: بقية بن الوليد، عن الحصين بن مالك الفزاري، عن أبي محمد، عن حذيفة t, عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإسناده تالف.
قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن حذيفة إلا بهذا الإسناد، تفرد به بقية"اهـ
وبقية بن الوليد يدلس تدليس التسوية, وهو شر أنواع التدليس, ولا بد أن يصرح بالتحديث في كل طبقات السند.
وشيخه حصين بن مالك مجهول, كما قال الجوزجاني.
وقال الذهبي في "الميزان" (1/553): ليس بمعتمد.
وأبو محمد وهو الراوي عن حذيفة مجهول أيضاً.
قال الجوزجاني: هذا حديث باطل, وأبو محمد شيخ مجهول، وحصين بن مالك أيضاً مجهول.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، وأبو محمد مجهول، وبقية يروي عن الضعفاء ويدلسهم.

الدليل الثالث:
قال السخاوي في "جمال القراء" ص (487): روى صفوان بن عسال (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ (يا يحيى) فقيل له: يا رسول الله تميل وليس هي لغة قريش؟ فقال: هي لغة الأخوال بني سعد).
وهذا الحديث لا أصل له, وقد ساقه السخاوي هكذا بلا سند.
ثم إن علامات الوضع والاختلاق تبرق وتلوح عليه. والله أعلم.

الدليل الرابع:
ذكر السخاوي في "جمال القراء" ص (488) أن أبا عبد الرحمن السلمي قال: أقرأني على بن أبي طالب (رأى كوكباً). بالإمالة.
وهذا لا أصل له أيضاً, فقد ذكره السخاوي بلا سند أيضاً.

هذه إذا هي الأدلة التي يستدل بها على ورود الإمالة, وقد تبين أنه لا يصح منها شيء, بل هي واهية.

تنبيهان مهمان:
التنبيه الأول:
إذا قيل: إن الإمالة قد ثبتت بالتواتر, فلو لم يرد أي دليل عليها فالتواتر كاف في ثبوتها, وهو أقوى من ورود النصوص عليها.
فالجواب على ذلك:
أن الإمالة لا شك أنها قد اشتهرت عن بعض القراء وتواترت عنهم.
ولكن سيأتي الكلام على سبب وردوها عن بعض القراء, وبيان أنهم ما قرؤوا بها مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما لسبب آخر.
فورودها عن بعض القراء وتواترها عنهم لا يعني أنهم تلقوها بالإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومسألة تواتر القراءات قد تكلمت عنها في موضوع مستقل بعنوان "تواتر القراءات بين الظن والتوهم والواقع اليقين"
وبينت هناك أن القرآن متواتر, ولا يقول أحد من المؤمنين بغير ذلك.
وذكرت أن القول بأن جميع القراءات المختلفة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم قول يخالفه الواقع اليقين.
ونقلت نقولاً كثيرة عن طائفة من المحققين, كالطوفي, وأبي شامة, وابن تيمية, والقسطلاني, والذهبي, وابن حجر, والزركشي, والشوكاني, وغيرهم.
وكذلك ابن الجزري الذي قال في "النشر" (1/13): "وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم, وقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف".
فانظر كيف أن ابن الجزري رحمه الله قد صرح بتراجعه عن ذلك القول الذي ظهر له فساده.
وابن الجزري أعلم من غيره في هذه المسألة, وهو من أعلم الناس بأسانيد القراء وطرقهم, وهو إمام لكل من أتى بعده من أهل القراءات, فهو الإمام المقلد المعتمد عليه في هذا الشأن لكل من جاء بعده إلى اليوم.

ثم كيف تكون الإمالة قد رويت بالتواتر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا تجد لها عن النبي أو أحد من الصحابة أي ذكر في كتب السنة والحديث كافة !

التنبيه الثاني:
إذا قيل: إن القراءة سنة متبعة كما في المقولة المشهورة عن السلف, فما دام الأمر كذلك فلا يمكن للقراء أن يقرؤوا بشيء إلا إذا كان مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فالجواب عن ذلك:
أن ما اشتهر عن السلف من قولهم: (إن القراءة سنة متبعة) إنما يردون بذلك ما يتعلق بفرش الحروف والإعراب وكيفية نطق الكلمات ونحو ذلك, وليس ما يتعلق بطريقة الأداء.
وقد بينت ذلك بكل وضوح في بحث مستقل بعنوان " هذا مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة) (أدلة وقرائن)
وذكرت على ذلك أدلة وقرائن كثيرة جداً.

ثالثاً:
لماذا وجدت الإمالة عند بعض القراء.
إن الذي اشتهر بالإمالة من القراء هم من وجدوا في بيئة أهلها لهجتهم الإمالة, فإن الإمالة لهجة مشهورة من لهجات العرب, ولها قوانينها وضوابطها.
وكثير من النحاة وأهل اللغة يذكرون في كتبهم أبواب الإمالة وتفاصيلها.
فالأئمة حمزة والكسائي وأبو عمرو البصري هم من اشتهرت عنهم الإمالة, وكلهم كانوا في بيئة يتكلم بعض أهلها بالإمالة كما سيأتي توضيحه.
في حين أن قارئ المدينة نافعاً وقارئ مكة ابن كثير وقارئ الشام ابن عامر لا تكاد تعرف عنهم الإمالة.
فالقراء المميلون إنما قرؤوا بالإمالة موافقة للهجة القوم الذين كانوا يعيشون معهم, والإمالة لهجة مشهورة من لهجات العرب كما سبق.
قال أبو عمرو الداني كما في "النشر" (1/30): "الإمالة والفتح لغتان مشهورتان فاشيتان على ألسنة الفصحاء من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم, فالفتح لغة أهل الحجاز, والإمالة لغة عامة أهل نجد من تميم وأسد وقيس"اهـ

يقول الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف" ص (321): "أشهر من رويت عنهم الإمالة من القراء العشرة هم حمزة والكسائي وخلف, وهم من أئمة القراءة في الكوفة, أما قراء الحجاز أمثال ابن كثير المكي وأبي جعفر ونافع المدنيين فلا تعرف قراءتهم الإمالة إلا نادراً, ومعنى ذلك أن اللغة السائدة في الحجاز والقراءة التي كان قراء مكة والمدينة يقرؤونها هي بصورة عامة الفتح دون الإمالة, أي أن الإمالة لم تكن لغة الذين ولوا نسخ المصاحف"اهـ

وقال الدكتور عبد الفتاح شلبي في كتابه "الإمالة في القراءات واللهجات العربية" ص (159): "ونستطيع أن نستخلص أن المميلين من القراء عاشوا في بيئة عراقية (في الكوفة والبصرة)...
وعلى ذلك نستطيع أن نرجع مذهب كل إمام من هؤلاء الأئمة إلى أحد عاملين أو هما معاً:
الأول: شيوخه الذين قرأ عليهم وأخذ عنهم.
الثاني: البيئات التي توطنوها وما شاع فيها من لهجة الفتح أو الإمالة".
ثم أخذ في تطبيق ذلك على القراء قارئاَ قارئاً.
وقال بعد أن ذكر تواريخ وفيات بعض القراء: "وإنما اهتممنا بتسجيل هذه الحقائق لأننا نريد أن نربط بين البيئات التي عاش فيها هؤلاء الأئمة والقبائل التي استوطنت هذه البيئات ومذاهبها في الفتح أو الإمالة, والأزمان التي تكفي لهذه القبائل أن تتكاثر وتتناسل منذ تأسيس البصرة سنة 14هـ وتأسيس الكوفة سنة 17هـ وتفرغ أفرادها إلى إقراء القرآن في مدة يتلقى بعدها هؤلاء القراء عن شيوخهم المقرئين من أفراد هذه القبائل أو غيرهم".

ومما قاله في أبي عمرو البصري: "والأمر مع أبي عمرو البصري واضح, فهو تميمي أولاً وتظهر عنده ظهوراً واضحاً, ومذهبه في الإكثار من الإمالة يتسق هو وهذه البيئة..."

ومما قاله في حمزة والكسائي: سند حمزة كله شيوخ كوفيون عاشوا في الكوفة.
والكوفة نزل بها رجال من قبيلة أسد التي اشتهرت بالإمالة.
وقد مضت مدة كافية على نزول هؤلاء الأسديين الكوفة, واستيطانهم إياها حتى تكاثروا وسيطرت لهجتهم على لهجة الأعاجم المستعربين والمتفصحين من أمثال الكسائي وحمزة وغيرهم.
والكسائي كان مولى هؤلاء الأسديين وربيبهم.
ثم قال: إذا لحظنا هذه الاعتبارات جميعاً أمكننا أن نفهم سبب إكثار حمزة والكسائي من الإمالة, إذ كان ذلك بهدي من شيوخهما الذين عنهم يقرآن, وبيئتهما التي كانا فيها يضطربان ويعيشان"اهـ
والكسائي رحمه الله قد ذكر أنه أخذ الإمالة عن حمزة.
فحين سئل عن الهمز والإدغام ألكم فيه إمام قال: نعم حمزة كان يهمز ويكسر, وهو إمام لو رأيته لقرت عينك من نسكه. انظر: "السير" (7/90), و"معرفة القراء" (1/263) كلاهما للذهبي.
قال الذهبي: "يريد بقوله يكسر أي: يميل"اهـ

وأما عاصم رحمه الله فوجدت الإمالة في القراءة التي أقرأها لأبي بكر, ولم توجد في القراءة التي أقرأها لحفص.
وسبب ذلك أن عاصماً قد قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي ولم يكن في قراءته أي إمالة.
وقرأ أيضاً على زر بن حبيش, وهو أسدي كوفي, ومعروف أن بني أسد كان في لهجتهم الإمالة, فقد جاءت الإمالة إذاً من قبل زر بن حبيش والله أعلم.

وقد روي عن حفص كما في "غاية النهاية" (1/346) أنه قال: "قلت لعاصم: أبو بكر يخالفني, فقال: أقرأتك بما أقرأني عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه, وأقرأته بما أقرأني زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه ".
هكذا إذاً الأمر واضح, فأصل هذه الإمالة في قراءة هؤلاء القراء إنما كانت موافقة للهجة أقوامهم وبيئاتهم التي عاشوا فيها.

رابعاً:
لماذا أنكر بعض الأئمة والعلماء القراءة بالإمالة.
من المعروف والمشتهر جداً أن كثيراً من العلماء الكبار قد استنكر قراءة من قرأ بالإمالة.
وقبل أن أذكر أقوال هؤلاء العلماء الكبار أنبه على أمر مهم جداً لا يكاد أحد من القراء أو الدارسين أو غيرهم يتوقف معه أو يتأمله.
ألا وهو أن الذين استنكروا طريقة أداء حمزة للقراءة جمهرة كبيرة من أئمة السلف, كما ستلحظ هذا بعد قليل.
وهذا يدل على أن الأمر ليس أمراً هيناً أو شيئاً يمكن أن يتغاضى عنه, فإنهم قد أنكروه بعبارات في غاية القسوة والصراحة والتبرؤ.
إن الأمر إذاً لا ينبغي أن ينظر إليه نظرة عابرة, بل يستحق الدراسة المتجردة الواعية الصادقة التي يقصد من ورائها بيان الحقيقة كما هي مهما كانت تلك الحقيقة فيها مرارة أو تتعارض من مفاهيم أو تصورات سابقة.
فالأمانة العلمية أن تُبْحَثَ المسائل بتجرد دون أي دافع خفي أو شهوة لانتصار رأي لمجرد عصبية الانتماء.

والآن إلى ذكر أقوال هؤلاء الأئمة:
قال الذهبي في "السير" (10/170): "ولقد عومل حمزة مع جلالته بالإنكار عليه في قراءته من جماعة من الكبار".
فقد كره أحمد قراءة حمزة والكسائي, لما فيها من الكسر (أي: الإمالة) والإدغام، والتكلف، وزيادة المد. انظر: "المغني" (1/492)
"وقال الفضل بن زياد: إن رجلاً قال لأبي عبد الله: فما أترك من قراءته؟ قال: الإدغام والكسر, ليس يعرف في لغة من لغات العرب.
وسأله عبد الله ابنه عنها فقال: أكره الكسر الشديد والإضجاع.
وقال في موضع آخر: إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به.
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة؟ قال: أكرهه أشد كراهة, إنما هي قراءة محدثة, وكرهها شديداً حتى غضب.
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال: أكرهها أشد الكراهة قيل له: ما تكره منها قال: هي قراءة محدثة ما قرأ بها أحد.
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها, وقال: كرهها ابن إدريس, وأراه قال: وعبد الرحمن بن مهدي, وقال: ما أدري إيش هذه القراءة, ثم قال: وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب". انظر: "إغاثة اللهفان" (1/161)
وقال الاثرم: قلت لأبي عبد الله: إمام كان يصلي بقراءة حمزة، أصلي خلفه؟ قال: لا يبلغ به هذا كله, ولكنها لا تعجبني قراءة حمزة". انظر: "المغني" (1/492)

وقال أبو بكر بن عياش: قراءة حمزة عندنا بدعة.
قال الذهبي في "الميزان" (1/606) تعليقاً على قول أبي بكر بن عياش: "يريد ما فيها من المد المفرط، والسكت، وتغيير الهمز في الوقف, والإمالة وغير ذلك".

وقال ابن مهدي: لو صليت خلف من يقرأ قراءة حمزة لأعدت الصلاة.
وكذلك قال ابن عتيبة أيضاً.
وعن أبي بكر بن عياش قال: قلت لحمزة: ما هذه القراءة فما كان له حجة.
وقال يزيد بن هارون: إذا رأيتم من يقرأ قراءة حمزة فاعلموا أنه يريد الرئاسة.
وقد أرسل إلى أبي الشعثاء بواسط: لا تقرئ في مسجدنا قراءة حمزة.
وعن ابن أدريس أنه قال لحمزة: اتق الله فإنك رجل تتأله, وليست هذه القراءة التي تقرؤها يعني الهمزة والإضجاع بقراءة ابن مسعود ولا غيره.
فقال له حمزة: أما إني أتحرج أن أقرأ بها في المحراب, ولإن رجعت من سفري لأتركها.
فكان ابن إدريس يقول: ما أستجيز أن أقول لمن يقرأ بقراءة حمزة صاحب سنة.

وقال سفيان: ما ابتلي العباد ببلية أعظم من رأي وقراءة حمزة.
قال ابن قتيبة: من العجب أن حمزة يقرئ بطريقة ويكره الصلاة بها.
قال وكان ابن عيينة يأمر بإعادة الصلاة لمن قرأ بها, ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين, منهم بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل.
وقال يعقوب بن شيبة: كان كثير من أهل العلم يجتنب اختيار حمزة للقرآن لإفراطه في الكسر (أي: الإمالة) وغيره, وسألت ابن المديني فجعل يذم قراءة حمزة, وقال: لم يقرأ على قراءة عبد الله, وإنما هذه القراءة وضعها هو, ولم يكن من أهل العلم, وما زلنا نرى الرجل يقرأ قراءة حمزة فإذا اتبع العلم تركها, وما زلنا نسمع أصحابنا ينكرون قراءة حمزة.

ثم قال ابن المديني: وإنما نزل القرآن بلغة قريش, ولغة قريش التفخيم, وسمعت بشر بن موسى يحدث علي بن المديني قال: حدثني نوفل. فقال ابن المديني: نوفل ثقة. قال: سمعت عبد الله بن إدريس يقول لحمزة: اتق الله فإنك رجل متأله, وهذه القراءة ليست قراءة عبد الله ولا قراءة غيره. فقال حمزة: أما إني أتحرج أن أقرأ بها في المحراب. قلت: لم؟ قال: لأنها لم تكن قراءة القوم. قلت: فما تصنع بها إذاً؟ قال: أما إني إن رجعت من سفري هذي لأتركها. فسمعت ابن إدريس يقول: ما أستجيز أن أقول لمن يقرأ لحمزة: إنه صاحب سنة.
وقال سفيان بن عيينة: لا تصلوا خلف من يقرأ بقراءة حمزة. انظر: "معرفة القراء الكبار" (1/255- 262) طبعة دار عالم الكتب. تحقيق: الدكتور قولاج.

وقد كان يزيد بن هارون يكره قراءة حمزة كراهية شديدة, وينهى عنها.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو كان لي سلطان على من يقرأ قراءة حمزة لأوجعت ظهره وبطنه.
وقال الساجي: قد ذمه جماعة من أهل الحديث في القراءة, وأبطل بعضهم الصلاة باختياره من القراءة.
وقال الساجي أيضاً والأزدي: يتكلمون في قراءته وينسبونه إلى حالة مذمومة فيها.
وقال الساجي: سمعت سلمة بن شبيب يقول: كان أحمد يكره أن يصلي خلف من يقرأ بقراءة حمزة.
وقال ابن دريد: أني لأشتهي أن يخرج من الكوفة قراءة حمزة.
وكذا جاء عن عبد الله بن إدريس الأودي وغيره التبرم بقراءة حمزة.
وقال حماد بن زيد: لو صلى بي رجل فقرأ بقراءة حمزة لأعدت صلاتي
انظر: "الميزان" (1/605), و"التهذيب" (3/27)

وقال الهذلي المتوفى سنة (465) هـ في كتابه "الكامل" ص (308): "رأيت قوماً زعموا أن القرآن لم ينزل بالإمالة, وإنما نزل بالتفخيم، ولما انتقلت الصحابة من المدينة ومكة إلى العراق، وأخذوا بلغة أهل الأنبار حتى أن رجلاً سمع ابن أبي وقاص بعد قدومه إلى القادسية يقرأ (موسى) و(عيسى) و(يحيى) بالإمالة فقال: إن أبا إسحاق جاور أهل الأنبار, وأن أبا حاتم عاب إمالة حمزة والكسائي وقال: إن القرآن لم ينزل هكذا, وقصد بذلك رد قراءة أهل الكوفة, وأن اليزيدي جالس الكسائي بعد انفصاله عن أبِي عمرو فسمع هاشم البربري يقرأ عليه ويمل إمالة مفرطةً فقال: أقل من هذا يا أبا معاوية, فقال هاشم: أما سمع يا أبا الحسن قول اليزيدي فقال: أكثر من هذا على رغم، والعجب من أبي خيثمة حين قال: إن الله لم ينزل القرآن بهذا اللغة حتى عاب الأعمش وأصحابه, وحكى حديث أهل مكة حين قدم هارون الكسائي ليصلي بهم فقرأ سورة (والنجم) فأمال فتفرقوا من خلفه وشغبوا عليه وذكر قصة فيها طول, ونحن نحترز عن التطويل في هذا الكتاب".

وقال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (2/131) : "ولهذا كره الإمام أحمد رضي الله عنه وجماعة من السلف قراءة حمزة لما فيها من طول المد والكسر والإدغام ونحو ذلك, لأن الأمة إذا أجمعت على فعل شيء لم يكره فعله, وهل يظن عاقل أن الصفة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وتواترت إلينا يكرهها أحد من المسلمين"اهـ

وقال الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد الخشاب رحمه الله: وقد كره بعض الأئمة ممن لا يختلف في ورعه، وعلمه قراءة حمزة بن حبيب لإفراط مده، قال: وكأنه رأى أن تكلف ذلك شاق بعض المشقة، والقرآن قد يسره منزله سبحانه. انظر: "جمال القراء" ص (514)

وقال ابن قتيبة رحمه الله المتوفى سنة (276) هـ في كتابه "تأويل مشكل القرآن" ص (110):
"وقد كان الناس قديماً يقرؤون القرآن بلغاتهم كما أعلمتك ثم خلف قوم بعد قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة ولا علم التكلف، فهفوا في كثير من الحروف وزلوا وقرؤوا بالشاذ وأخلوا.
منهم رجل - يعني الإمام حمزة المقرئ المعروف رحمه الله - ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقربه من القلوب بالدين, لم أر فيمن تتبعت وجوه قراءته أكثر تخليطاً ولا أشد اضطراباً منه، لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره، ثم يؤصل أصلاً ويخالف إلى غيره لغير ما علة, ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة.
هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه في المد والهمز والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلمين على المركب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله، وتضييقه ما فسحه.
ومن العجب أنه يُقرئ الناس بهذه المذاهب ويكره الصلاة بها ! ففي أي موضع تستعمل هذه القراءة إن كانت الصلاة لا تجوز بها ؟!

وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه أو ائتم بقراءته أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين منهم بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل.
وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقهم، وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها، فإذا رأوه قد اختلف في أم الكتاب عشراً وفي مائة آية شهراً وفي السبع الطول حولاً، ورأوه عند قراءته مائل الشدقين دار الوريدين راشح الجبينين توهموا أن ذلك لفضيلة في القراءة وحذق بها.
وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خيار السلف ولا التابعين، ولا القراء العالمين، بل كانت قراءتهم سهلة رسلة, وهكذا نختار لقراء القرآن في أورادهم ومحاريبهم"اهــ

وقال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/161, 162) : "قال الخلال في الجامع: عن أبي عبد الله إنه قال: لا أحب قراءة فلان يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة وكرهها كراهية شديدة, وجعل يعجب من قراءته, وقال: لا يعجبني, فإن كان رجل يقبل منك فانهه.
وحكى عن ابن المبارك, عن الربيع بن أنس: أنه نهاه عنها".

ومن خلال نقل هذه الروايات عن هؤلاء الأئمة في إنكارهم للإمالة وغيرها يتبين بوضوح ما يلي:
أولاً:
تأكيد ما نحن بصدده من بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بالإمالة, وأنها لم تنقل عنه البتة, إذ كيف يجمع هؤلاء الأئمة الكبار على إنكار شيء قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ به.

ثانياً:
أن هؤلاء الأئمة يفضلون قراءة العامة التي كان الصحابة رضي الله عنهم قد تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والتي كان رسول الله يقرأ بها في الصلاة وغيرها, وكان أهل المدينة لا يعرفون غيرها, وهي خالية من اللهجات الغريبة المشتملة على الإمالة أو غيرها.
كما قال أبو عبد الرحمن السلمي كما في "المرشد الوجيز" ص (68) : "كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه"اهـ

ثالثاً:
تأكيد من بيناه سابقاً من أن صفات الأداء كلها كالإمالة أو غيرها ليست منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما هي من تأثير لهجات القراء ومشايخهم, إذ كيف يجمع هؤلاء الأئمة الكبار على إنكار شيء قد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

رابعاً:
تأكيد من بيناه سابقاً من أن صفات الأداء ليست من الأحرف السبعة وليست من القراءات, وإنما هو اختلاف طبيعي بين البشر في كلامهم وفي قراءتهم.

خامساً:
تأكيد هؤلاء الأئمة على عدم المبالغة والزيادة في القراءة على ما تقتضيه الطبيعة, وأن الزيادة في الإمالة أو الإدغام أو المد مرفوض, وهذا ما يفهم من بعض الروايات التي ذكرتها عن أولئك الأئمة.

تنبيه:
ادعى بعض الناس أن الإمام أحمد رجع عن كراهته لقراءة الإمالة, واستدل بما جاء في "طبقات الحنابلة" (1/325) عن محمد بن الهيثم قال: سألت أحمد ما تكره من قراءة حمزة؟ قال: الكسر والإدغام فقلت: له حدثنا خلف بن تميم قال: كنت أقرأ على حمزة فمر به سفيان الثوري فجلس إليه وسأله عن مسألة فقال: له يا أبا عمارة أما القرآن والفرائض فقد سلمناها لك. قال: أحمد أنتم أهل القرآن وأنتم أعلم به.
قال أبو يعلى: ظاهر هذا الرجوع عن الكراهة والذي عليه أصحابنا الكراهة.
وأخذ بظاهر هذا ابن مفلح فقال في "الفروع" (1/422) : وعن أحمد ما يدل على أنه رجع عن الكراهة.

وأنبه هنا إلى أمرين:
الأول: أنه كما سبق ليس الإمام أحمد وحده هو من كره الإمالة, فقد كرهها جمع كبير من علماء الأمة المحققين, كعبد الرحمن بن مهدي, وأبي بكر ابن عياش, والحكم بن عتيبة, ويزيد بن هارون, وعبد الله بن إدريس, وسفيان بن عيينة, وعبد الله بن قتيبة, وبشر بن الحارث, ويعقوب بن شيبة, وعلي بن المديني, والساجي, والأزدي, وابن دريد, وحماد بن زيد, وغيرهم.

الثاني: أن ما نقله محمد بن الهيثم ليس صريحاً في رجوع الإمام أحمد عن كراهته للإمالة, بل هو كلام عام يفيد أن الإمام أحمد يوافق سفيان الثوري في أن حمزة رحمه الله من أئمة القراءة, ولكن هذا لا ينفي النقد.
فإن قوله: (أنتم أهل القرآن وأنتم أعلم به) حق, فإن حمزة والقراء السبعة هم أهل القرآن وهم أعلم به, لكن لا ينافي ذلك تخطئة شيء من الأداء عند الإمام حمزة أو غيره, وهو ما صرح به الإمام أحمد مراراً, حتى جاء في "طبقات الحنابلة" (1/208) أن عبد الرحمن المتطبب قال: قلت: لأحمد إني صليت اليوم خلف من يقرأ قراءة حمزة فأعدت الصلاة؟ قال: فقال: لي ما عليك مأثم.
وهذا ما فهمه أصحاب الإمام أحمد, ولذلك قال ابن مفلح كما سبق: والذي عليه أصحابنا الكراهة.

وكذلك ذكر بعضهم دليلاً على رجوع الإمام أحمد ما ورد في "طبقات الحنابلة" لأبي يعلى (1/179) في ترجمة الطيب بن إسماعيل المقرئ "أنه سأل الإمام أحمد ما تكره من قراءة حمزة قال: الكسر والإدغام, فقلت: له (بسم الله الرحمن الرحيم) أين الألف واللام؟ فقال: إن كان هكذا فلا بأس".
وهذا لا يدل على رجوعه, وإنما قال: لا بأس بهذا الإدغام الذي لا يستطيع أحد إلا أن يقرأ به, ولا يمكن أن ينكره أحد.

تنبيه آخر:
روى ابن مجاهد في "السبعة" ص (76) عن علي بن الحسن قال: قال محمد بن الهيثم: واحتج من عاب قراءة حمزة بعبد الله بن إدريس أنه طعن فيها، وإنما كان سبب هذا أن رجلاً ممن قرأ على سليم حضر مجلس عبد الله بن إدريس فقرأ، فسمع ابن إدريس ألفاظاً فيها إفراط في الهمز والمد وغير ذلك من التكلف المكروه، فكره ذلك ابن إدريس وطعن فيه.
قال محمد: وهذا الطريق عندنا مكروه مذموم، وكان حمزة يكره هذا وينهى عنه، وكذلك من أتقن القراءة من أصحابه.
وأخرجه أبو عمرو الداني في "التحديد" ص (87)
وذكره ابن الجزري رحمه الله وتبعه غيره من أن ذلك محمول على أن تلك القراءة التي أنكرها الأئمة إنما هي قراءة بعض تلاميذ حمزة.
وفي ذلك يقول ابن الجزري في "غاية النهاية" (1/357) : "وأما ما ذكر عن عبد الله بن إدريس وأحمد بن حنبل من كراهة قراءة حمزة فإن ذلك محمول على قراءة من سمعا منه ناقلاً عن حمزة, وما آفة الأخبار إلا رواتها, قال ابن مجاهد: قال محمد بن الهيثم: والسبب في ذلك أن رجلاً ممن قرأ على سليم حضر مجلس ابن إدريس فقرأ فسمع ابن إدريس ألفاظاً فيها إفراط في المد والهمز وغير ذلك من التكلف فكره ذلك ابن إدريس وطعن فيه"اهـ

والواقع أن ما جاء في الرواية التي أخرجها ابن مجاهد والداني, وذكرها بن الجزري فيه نظر بيِّن وغير صحيح.
فإن الذين تكلموا في أداء حمزة جماعة كثيرة من الأئمة, ولا يمكن أن يتفقوا كلهم على هذا التسرع وعدم التثبت, والقول بذلك قدح في أولئك الأئمة الكبار, بل إنكار أولئك الأئمة كلهم يدل على أن الأمر مشهور جداً عن حمزة رحمه الله.
ويؤكد هذا ما رواه يعقوب بن شيبة قال: سمعت بشر بن موسى يحدث علي بن المديني قال: حدثني نوفل. فقال ابن المديني: نوفل ثقة. قال: سمعت عبد الله بن إدريس يقول لحمزة: اتق الله فإنك رجل متأله, وهذه القراءة ليست قراءة عبد الله ولا قراءة غيره. فقال حمزة: أما إني أتحرج أن أقرأ بها في المحراب. قلت: لم ؟ قال: لأنها لم تكن قراءة القوم. قلت: فما تصنع بها إذاً ؟ قال: أما إني إن رجعت من سفري هذي لأتركها. فسمعت ابن إدريس يقول: ما أستجيز أن أقول لمن يقرأ لحمزة: إنه صاحب سنة. انظر: "معرفة القراء الكبار" (1/262) طبعة دار عالم الكتب. تحقيق: الدكتور قولاج.
ويؤيده أن أبا بكر بن عياش قال: قلت لحمزة: ما هذه القراءة فما كان له حجة. انظر: "معرفة القراء الكبار" (1/258)

ومما يدل على أن هذه الطريقة في الأداء هي اجتهاد من حمزة رحمه الله أنه كان يكره الصلاة بها كما ذكر الإمام ابن قتيبة رحمه الله.
ولذلك ذكر تلميذ الإمام حمزة وهو محمد بن الهيثم النخعي الكوفي رحمه الله كما في "غاية النهاية" (2/359) أنه صلى خلف شيخه حمزة, فكان لا يمد في الصلاة ذلك المد الشديد ولا يهمز الهمز الشديد.
فهذا يدل على أن حمزة رحمه الله كان في غير الصلاة يمد ذلك المد الشديد، ويهمز الهمز الشديد, وأن تلميذه محمد بن الهيثم كان يعرف هذا عنه.
وأما ما ذكره الذهبي رحمه الله في "الميزان" (1/605) , وفي "السير" (7/91) من أن الإجماع قد انعقد بأخره على تلقي قراءة حمزة بالقبول.
وقاله أيضاً في "معرفة القراء" (1/255) وقال: وإن كان غيرها أفصح منها وأولى.

أقول: قول الذهبي رحمه الله لا يمكن أن يلغى به انتقاد جماعة من الأئمة من أمثال يزيد بن هارون, وعبد الرحمن بن مهدي, وأحمد بن حنبل, وسفيان بن عيينة, وعبد الله بن إدريس الأودي, وأبي بكر بن عياش, وابن دريد, وحماد بن زيد, والأزدي, والساجي, وابن قتيبة وغيرهم.
ولكن الذهبي رحمه الله أراد بكلامه ذلك أن الأمر قد استقر على قبول قراءة نافع في الجملة, أي في الحروف, وهذا هو الواقع, فإن حمزة رحمه أحد القراء المشهورين الذين أخذت عنهم القراءة, ولكن لا يلزم من هذا أن تفاصيل الأداء التي انتقدها عليه أولئك الأئمة تكون مقبولة فضلاً عن كونها مجمع على قبولها.

ثم وجدت الذهبي رحمه الله قد صرح بما ذكرت أنه أراد بكلامه, فقد قال في "السير" (8/473) : "قلت: مرادهم بذلك ما كان من قبيل الأداء، كالسكت، والاجتماع في نحو: شاء، وجاء، وتغيير الهمز، لا ما في قراءته من الحروف، هذا الذي يظهر لي، فإن الرجل حجة ثقة فيما ينقل"اهـ
قلت: وحاشا هؤلاء الأئمة الكبار والأعلام الأطهار أن يتنكروا لشيء منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويذموه ويتبرؤوا منه, وفي ذلك أوضح الدلالة على أن كثيراً من صفة أداء التلاوة إنما هو اجتهاد واختيار من القراء عليهم رحمة الله, وليس مأثوراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خامساً:
دلائل أخرى تدل أيضاً على أن الإمالة لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
مما يؤكد أن الإمالة ليست مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أدلة ونقول وقرائن كثيرة منها:
أولاً:
قال ابن الجزري في "النشر" (2/82) : "قيل للكسائي: إنك تميل ما قبل هاء التأنيث, فقال هذا طباع العربية.
قال الحافظ أبو عمرو الداني: يعني بذلك أن الإمالة هنا لغة أهل الكوفة وهي باقية فيهم إلى الآن.
قال ابن الجزري: قلت: والإمالة في هاء التأنيث وما شابهها من نحو (همزة، ولمزة، وخليفة، وبصيرة) هي لغة الناس اليوم والجارية على ألسنتهم في أكثر البلاد شرقاً وغرباً وشاماً ومصراً, لا يحسنون غيرها ولا ينطقون بسواها, يرون ذلك أخف على لسانهم وأسهل في طباعهم, وقد حكاها سيبويه عن العرب".

ثانياً:
قال أبو عمرو الداني كما في "جمال القراء" ص (488) : "الفتح والإمالة فيما اختلف القراء فيه لغتان مشهورتان مستعملتان فاشيتان على ألسنة القراء، والفصحاء من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم.
والفتح عند علمائنا الأصل، والإمالة فرع داخل عليه، ودليل ذلك من خمسة أوجه...
فهذا كله يدل على أن الأصل الفتح، وإنما عدل عنه من اختار الإمالة من القراء والعرب رغبة في أن يتناسب الصوت بمكانها ولا يختلف، فيخف على اللسان ويسهل في النطق".

ثالثاً:
أخرج ابن أشته عن ابن أبي حاتم قال: احتج الكوفيون في الإمالة بأنهم وجدوا في المصحف الياءات في موضع الألفات, فاتبعوا الخط وأمالوا ليقربوا من الياءات. انظر: "الإتقان" (1/314)

رابعاً:
قال أبو عبيد كما في "جمال القراء" ص (491) : "واحتجوا في الإضجاع بالخط، فقالوا: رأينا المصاحف كلها بالياء في هذه الحروف، ثم قال: والذي عندنا في ذلك أنه يلزم من أضجع إتباعاً للخط أن يضجع على والى ولدى, لأنهن جميعا كتبن بالياء, وليس أحد يتكلم بهن بالإضجاع..."اهـ
وكان السخاوي قد نقل قول أبي عمرو الداني بعد أن ذكر الفتح والإمالة: وعلماؤنا مختلفون في أي هذه الأوجه أوجه من طريق النظر وأولى من جهة القياس.
فقال بعضهم: أوجهها وأولاها الفتح إذ هو الأصل، وممن ذهب إلى ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام".

خامساً:
أن الكسائي رحمه الله سئل عن الهمز والإدغام ألكم فيه إمام قال: نعم حمزة كان يهمز ويكسر, وهو إمام لو رأيته لقرت عينك من نسكه. انظر: "السير" (7/90), و"معرفة القراء" (1/263) كلاهما للذهبي.
قال الذهبي: "يريد بقوله يكسر أي: يميل"اهـ
قلت: فالسائل حين أنكر عليه هذا الأمر غير المعروف لم يستدل على الإمالة بشيء إلا أن حمزة كان يكسر, وهو إمام لو رأيته لقرت عينك من نسكه.
ولو كانت الإمالة ورادة عن النبي صلى الله عليه وسلم لصرخ في وجه السائل بذلك.

سادساً:
قال ابن الجزري في "النشر" (2/35): "وأما فائدة الإمالة فهي سهولة اللفظ, وذلك أن اللسان يرتفع بالفتح وينحدر بالإمالة, والانحدار أخف على اللسان من الارتفاع فلهذا أمال من أمال".

سابعاً:
قال ابن تيمية رحمه الله كما في "جامع المسائل" (1/113): "وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغ للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته".

تنبيه:
قد زعم بعضهم أن هذا الكلام الذي نسب لابن تيمية ليس كلامه إنما هو ينقل كلاماً لغيره, فإنه قال قبل ذلك: "والقول الثاني قول من يجوز أن تكون هذه قراناً وإن لم ينقل بالتواتر.
وكذلك يقول هؤلاء في كثير من الحروف التي يقرأ بها في السبعة والعشرة لا يشترط فيها التواتر.
وقد يقولون: إن التواتر منتف فيها أو ممتنع فيها, ويقولون: المتواتر الذي لا ريب فيها ما تضمنه مصحف عثمان من الحروف.
وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة ومثل الإمالة والإدغام فهذه مما يسوغ للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم... " الخ.

قلت: هذا الزعم خطأ وبعيد عن التحقيق, والصواب أنه كلام شيخ الإسلام قطعاً, ويدل على ذلك أمور:
الأول: أن الذي أوقع في اللبس أن ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما ينقل أقوال الناس ثم يعقبها مباشرة بكلامه دون فاصل, أو يذكر الأقوال ثم يزيدها توضيحاً وشرحاً وبياناً واستدلالاً, وذلك لسعة علمه واطلاعه وتبحره, ولا يفصل بين كلامه وكلام غيره.
كقوله مثلاً: "ولهذا نص الأئمة على ذلك وقالوا: الصورة هي الرأس لا يبقى فيها روح فيبقى مثل الجمادات, وهذا التصوير ليس فيه غش ولا تلبيس, فإن كل أحد يفرق بين المصور وبين المخلوق".
أو كقوله: "طائفة من الكوفيين وغيرهم استحبوا للمتوضئ والمغتسل والمصلي ونحوهم أن يتلفظوا بالنية في هذه العبادات, وقالوا: إن التلفظ بها أقوى من مجرد قصدها بالقصد, وإن كان التلفظ بها لم يوجبه أحد من الأئمة, وأهل المدينة لم يستحبوا شيئاً من ذلك وهذا هو الصواب".
وغير ذلك كثير في كلامه رحمه الله

الثاني: أنه رحمه الله عندما يذكر الأقوال يكثر من قوله: (قالوا) (ويقولون)
فإنه هنا قال: منهم من (يقول): هذه تشهد بأنها كذب.
(قالوا): وكل ما لم يقطع بأنه قرآن فإنه يقطع بأنه ليس بقرآن.
(قالوا): ولا يجوز أن يكون قرآن منقولاً بالظن وأخبار الآحاد.
(قالوا): وهذا مما تحيله العادة، فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل القرآن...
ثم قال: والقول الثاني: (قول) من يجوز أن تكون هذه قراناً وإن لم ينقل بالتواتر.
وكذلك (يقول) هؤلاء في كثير من الحروف التي يقرأ بها في السبعة والعشرة، لا يشترط فيها التواتر.
وقد (يقولون): إن التواتر منتف فيها أو ممتنع فيها.
و(يقولون): "المتواتر الذي لا ريب فيها ما تضمنه مصحف عثمان من الحروف".
ولو كان ما بعد هذه الجملة من كلام أصحاب ذلك القول لقال: (ويقولون): إن كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة ومثل الإمالة... الخ.
خاصة أن هذا الكلام مهم جداً وخطير, فلو كان لا يقره وهو ليس من كلامه لقال: (ويقولون) ولا بد.
ومما يؤيد ذلك أيضاً قوله: (بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته) وواضح جداً أن هذا من كلامه رحمه الله.

الثالث: أننا إذا اعتبرنا هذا القول من كلام أصحاب ذلك القول فمتى ينتهي كلامهم إذاً, ولماذا لا يكون الكلام الذي بعد ذلك من كلامهم أيضاً.

الرابع: أنه على افتراض أنه تابع لقول القائلين فإن ابن تيمية رحمه الله واضح أنه يعرض هذا القول مقرراً له مؤيداً مرجحاً, فهو كلامه إذاً.

ثامناً: (من الدلائل التي تدل على أن الإمالة لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم).
أنه من المعلوم أن القراء قد اختاروا قراءاتهم من أحرف كثيرة قبلهم.
"قال نافع: قرأت على سبعين من التابعين فما اجتمع عليه اثنان أخذته, وما شك به واحد تركته, حتى ألفت هذه القراءة, وقرأ الكسائي على حمزة وغيره فاختار من قراءة غيره نحواً من ثلاثمائة حرف, وكذا أبو عمرو قرأ على ابن كثير وخالفه في نحو ثلاثة آلاف حرف اختارها من قراءة غيره". انظر: "القواعد والإشارات" للحموي ص (37)
وقد يكون بعض أولئك القراء الكثر ممن يميل بلهجته وطبيعته فأخذت عنه الإمالة.

تاسعاً:
تذكر كتب القراءات أن قتيبة بن مهران ممن أخذ القراءة عن الكسائي, وانفرد عنه بإمالات رويت عنه من طريق: أبي بكر المطرز, ومن طريق: أبي علي النهاوندي.
وقد تكلم العلماء في تلك الإمالات المروية عن قتيبة.
قال الهذلي في "الكامل" ص (315): "اعلم أن قتيبة حين دخل أبو علي النهاوندي بغداد بروايته حكى لأهل بغداد ما له نبرة, ولم يعتبر الموانع وغيرها, فاختاروا منها اختياراً فسموه: (إمالة قتيبة)، وتركوا ما كان منها بشعاً في اللفظ وهو صحيح في العربية".
وقال الذهبي في "معرفة القراء الكبار" (1/356): "هو صاحب الإمالات المنكرة".
وقال عنه كما في بعض النسخ "له إمالات مزعجة معروفة"اهـ
وقال الأندرابي في "الإيضاح" ص (603): وقال الشيخ أبو الحسن علي بن محمد الفارسي: "أنا أظن أن إمالة هذه الحروف ونحوها من عادة الكوفيين في كلامهم وألفاظهم، لا أن قتيبة رواها عن الكسائي أنه اختارها في القرآن، وإن كانت إمالتها جائزة في اللغة العربية، والله أعلم بذلك"اهـ

وقد دافع بعضهم عن هذه القراءة التي تكلم فيها الهذلي والفارسي وغيرهما وممن دافع عنها أبو عمرو الداني وابن الجزري.

قلت: فهذا مما يدل على أن الإمالات إنما هي اختيار من بعض القراء رحمهم الله, باعتبار أنها من لهجات العرب المعروفة, وبعضها من عادة بعض الكوفيين في كلامهم وألفاظهم كما قال الفارسي.
فإذا كان ابن قتيبة بهذه المنزلة من الكسائي وأنه من أكثر الناس ملازمة له ومع ذلك تكلم الناس في إمالاته وأنها من اختياره ووضعه وسموها (إمالة قتيبة) فماذا يعني هذا ؟
إنه يؤكد بكل وضوح ما ذكرته من أن تلك الإمالات لم تكن منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا أصحابه رضي الله عنهم, وإنما هي من اجتهادات بعض القراء ولهجاتهم رحمة الله عليهم أجمعين.

ومما يؤكد ذلك أنه لم يرد أي دليل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الإمالة, وليس لها أي ذكر في كلام النبي أو كلام الصحابة, وهم الذين نقلوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم, ولا يمكن أن تكون هذه القراءة موجودة ولا يأتي لها أي إشارة أو ذكر لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم كما سلف.

عاشراً:
أن جميع صفات الأداء ومنها الإمالة ليست مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرت على ذلك خمسة عشر دليلاً في موضوع بعنوان "اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم "

سادساً: هل الإمالة من الأحرف السبعة ومن القراءات.
الأقرب أن الاختلاف في جميع طرائق الأداء كالإمالة والإدغام والترقيق والتفخيم والتغليظ والتسهيل والاختلاف في المدورد وغيرها ليس من الأحرف السبعة ولا من القراءات.
وذلك أن الأحرف السبعة فيها إبدال للكلمات أو الحروف من أصلها, أو تغيير للإعراب, أو اختلاف في اللفظ من غيبة وخطاب أو تذكير وتأنيث أو تخفيف وتشديد, أو تقديم وتأخير, أو إسناد الفعل إلى متكلم أو غائب أو مخاطب أو غائب أو إلى معلوم أو مجهول.
أو الاختلاف في الأسماء في الإفراد أو الجمع, أو اختلاف اللفظ في الأسماء مثل (البخل) و(الطير) و(جبريل) و(ميكائيل) وغير ذلك من أنواع الاختلاف.

أما الاختلاف في الأداء فهو اختلاف طبيعي في طريقة الكلام بين البشر, فلا بد أن يوجد بينهم هذا التفاوت والاختلاف في الكلام وفي القراءة, فستجد منهم من يميل لأن لسانه لا يعرف إلا الإمالة فلا يقدر إلا عليها, وستجد من يرقق أو يغلظ أو يفخم بعض الحروف, وستجد من يدغم ومن يمد ويغن وستجد الروم والإشمام وتسهيل الهمز, وستجد ضم ميم الجمع وصلتها وهكذا سائر صفات أداء القراءة.
كما أنك لو كتبت كلاماً فقرأه مصري وشامي وعراقي ويمني ونجدي فإن الكلام واحد والحرف واحد, ولكن طريقة كل واحد في النطق ستختلف اختلافاً كبيراً في قراءة ذلك المكتوب.

ومن الأدلة على أن صفات الأداء والتي تسمى بالأصول ليست من الأحرف السبعة ولا من القراءات أن ابن قتيبة ومكي بن أبي طالب وغيرهما حين ذكروا وجوه الاختلافات السبعة في القرآن لم يذكروا أي شيء يتعلق بالاختلاف في الأداء, كصلة الهاء والإمالة والإدغام والمدود وغير ذلك.

وقد نص ابن تيمية رحمه الله على أن الاختلاف في الأصول داخل في حرف واحد من الأحرف السبعة, إذ هذه الصفات المختلفة لا تخرجه عن كونه لفظاً واحداً.
قال ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (13/392) :"وأما ما اتحد لفظه ومعناه وإنما يتنوع صفة النطق به كالهمزات والمدات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها ونحو ذلك مما يسمى القراءات الأصول فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى, إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً.
ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه أو اختلف معناه من المترادف ونحوه, ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها".
وقد ذكرت هذه المسألة بشيء من البسط في موضوع "تحرير مسائل الأحرف السبعة"

سابعاً:
هل يصلح لمن لم تكن لهجته الإمالة أن يقرأ بالإمالة.
بعد ذكر هذه الأدلة والقرائن الكثيرة على أن الإمالة ليست منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما هي اختيار لبعض القراءة موافقة لبعض اللهجات العربية فينبغي أن يعلم أن المتعين والواجب على المسلم أن لا يقرأ بالإمالة إذا كانت ليست من لهجته, وذلك لأمور ستة:
أولاً:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ حرفاً واحداً بالإمالة كما سبق, فقد كان عليه الصلاة والسلام يقرأ بالحرف الذي نزل به جبريل عليه السلام وهو حرف قريش, ولم يكن في قريش الإمالة البتة.
فيا أخي المسلم ألا يغريك بترك الإمالة ما علمت من أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف الإمالة ولا يقرأ بها.
أتختار طريقة قوم لهجتهم الإمالة وتفضلها على لهجة النبي صلى الله عليه وسلم.
أعندك الشمس تجري في محاسنها ** وأنت منشغل الألحاظ بالقمر
أمَّا إن كانت لهجتك الإمالة فهي لهجتك لا تقدر على غيرها, ولا يسوغ أن تحاول تغييرها أو تعديلها.

ثانياً:
أنه ليس من العقل ولا من المستساغ أن المسلم يتكلم أو يقرأ بلهجة غيره, ولو فعل العاقل ذلك في الكلام العادي لعد عيباً وخارماً للمروءة فكيف بقراءة كلام الله عز وجل.
ومن أعظم نعم الله على العبد أن منحه العقل الذي يدله على معرفة الأشياء والحقائق, فكيف يتكلف المسلم وهو يقرأ كتاب ربه أن يقرأ بلهجة ليست له وإنما هي لقوم آخرين.

وبيان ذلك أن القبائل العربية التي كانت تميل في كلامها لم يكونوا يقصدون هذه الإمالة, وإنما هي من صميم لهجتهم دون أن يشعروا.

يقول الدكتور عبد الفتاح شلبي في كتابه "الإمالة في القراءات واللهجات العربية" ص (137) : "فمما لا شك فيه أن الإمالة من الوجهة التاريخية ومن الوجهة اللهجية أمر لا مفر من وجوده أو عدمه".
ثم نقل عن الدكتور إبراهيم أنيس قوله: "لا تعدو الإمالة أن تكون عادة ككل العادات اللغوية يتوارثها الخلف عن السلف دون شعور بها".
ثم قال: "أما المتقدمون من النحاة والمؤلفون القدامى في القراءات فقد رأوا ما يقرر الدكتور أنيس".
ثم نقل قول سيبويه: "هي من لغته التي توارثها ولا يمكن أن يجري على لسانه غيرها"اهـ
إذاً هي لهجة خاصة لقوم معينين, فكيف يأتي إنسان لا يتكلم بالإمالة فيتعلمها ويتدرب عليها ليقرأ بها القرآن!

ثالثاً:
على فرض أن القراءة بالإمالة مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم, فلا شك أنه إنما رخص بها تيسيراً وتسهيلاً على من كانت لهجته كذلك, وليس المقصود أن يتعلمها من لم تكن من لهجته.
فإنه من المعلوم أن الحكمة من اختلاف القراءات ونزول القرآن على سبعة أحرف إنما هو دون شك التخفيف على العباد, كما نص على ذلك في الأحاديث الصحيحة الصريحة.
قال ابن قتيبة رحمه الله في "تأويل مشكل القرآن" ص (94): "فكان من تيسيره أن أمره بأن يقرأ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم... ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلاً وناشئاً وكهلاً لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة, فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعاً في اللغات، ومتصرفاً في الحركات، كتيسيره عليهم في الدين".

وقال ابن حجر في "الفتح" (9/27): "نقل أبو شامة عن بعض أهل الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب, ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة".

ومما لا شك فيه أبداً أن تعلم الإمالة ومعالجتها فيه تشديد وتكلف ومشقة أكيدة على من لم يكن يميل بطبيعته.
ومن يتكلف تعلمها والقراءة بها وهي ليست من لغته ولهجته فقد عكس القضية, فإنها رخصة لمن لا يستطيع النطق بغير الإمالة تسهيلاً عليه, فإذا أتى من يتكلف تعلمها بكل مشقة وعسر كما هو الحال فإنه قد شدد على نفسه ووضع التعسير موضع التيسير والضيق موضع السعة.
ثم إنه يكون بذلك قد عارض مراد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أراد التسهيل على الأمة.
فما أبعد الشقة بين (هون على أمتي), وبين من يروم تعلم الإمالة فيتمرن عليها بكل عسر ومشقة.
فيا أيها العاقل الفطن ما لك وللإمالة لست من أهلها, هي لأهلها ما دخلك بها.

قال الزرقاني في "مناهل العرفان" (1/162) : "الترقيق والتفخيم والهمز والتسهيل والإظهار والإدغام والفتح والإمالة ونحوها ما هي إلا أمور دقيقة وكيفيات مكتنفة بشيء من الغموض والعسر في النطق على من لم يتعودها ولم ينشأ عليها".

وقد حكى أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني كما في "الخصائص" لأبي الفتح ابن جني (1/385) قال: "قرأ عليَّ أعرابي بالحرم (طيبى لهم وحسن مئاب) فقلت: طوبى, فقال: طيبى, قلت: طوبى, قال: طيبى, فلما طال علي الوقت قلت: طو طو, فقال: طي طي".
ولم يفارق الأعرابي لغته إلى متابعة أبي حاتم.

رابعاً:
أن القارئ إذا قرأه بالإمالة وهي ليست من لهجته فإن تفكير القارئ سينصرف لا محالة إلى محاولة النطق الصحيح للإمالة, وسيكون في غفلة تامة عن تدبر المعنى, فما فائدة القرآن إذاً, وهل أنزل من أجل تحقيق الإمالة!
وكذلك إذا قرئ بالإمالة على من ليست من لهجتهم فإن قلوبهم ستنصرف إلى النظر في كيفية النطق وإلى الإمالة, وسيكون ذلك من الأسباب الصارفة عن التأمل والتدبر في الآيات.

وقد اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الانشغال بمثل ذلك سبب للغفلة عن حقائق القرآن وحائل للقلوب عن فهم مراد الرب.
قال رحمه الله كما في "الفتاوى" (16/50): "ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها... فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه".

خامساً:
أن معرفة تفاصيل أحكام الإمالة مما يشق على المتلقي, وهي مما يصعب ضبطه, فلا ينبغي الانشغال بذلك عن التلاوة والانتفاع بها.

ومما يؤكد أن أحكام الإمالة مما يصعب معرفته على المتلقي أن ابن غلبون المتوفى سنة (389) هـ ألف كتاباً في الإمالة اسمه: "الاستكمال لبيان جميع ما يأتي في كتاب الله عز وجل في مذاهب القراء السبعة في التفخيم والإمالة وما كان بين اللفظين".
وبين في مقدمته سبب تصنيفه لهذا الكتاب فقال: اعلم أيها الناظر في كتابي هذا - نفعنا الله وإياك - أني نظرت إلى الطالبين القراءات، والمتبعين الروايات، والمواظبين على التلاوات, فرأيتهم يختلفون في باب التفخيم والإمالة، وذلك في الأكثر منهم، إلا من عمل على الأصول، ونسق على ما في الفروع من ذلك, واختلاف الطائفة الأولى، والكثير منهم من يأتي إلى الإمالة الفاشية إذا لم يكن عنده فيها أصل فيفخم.
ومنهم من يأتي إلى التفخيم الذي لا خلاف في تفخيمه فيميله لقلة علمه بالأصل في ذلك.
ومنهم من يشك فلا يدري لقلة علمه: هل الفعل أو الاسم مفخم أو ممال".

أقول: إنما حصل ذلك من أولئك الطالبين القراءات، والمتبعين الروايات، والمواظبين على التلاوات لمشقة معرفته وصعوبة ضبطه مع انعدام فائدته, ولأن الاهتمام به مضيع للأوقات ومشغل عن تدبر الآيات.
وفيه نقل للطالبين من السهولة والسعة إلى التضييق والتشديد الذي تنصرف به العقول إلى الألفاظ وتهجر المعاني والتدبر.

سادساً:
أن الإمالة قد تكون مبدلة للمعنى في سمع السامع إذا كان ليس من أهل الإمالة, والأمثلة على ذلك كثيرة, وأكتفي بأمثلة يسيرة.
فقد سمعت أحد القراء المشهورين الكبار يقرأ قوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) فقرأها هكذا (وجيء ربك والملك) فتغير المعنى وصار الله تعالى هو المأتي وليس هو الذي يجيء.
ومثل ذلك قوله تعالى: (وجاءت سيارة)
أو (وجاءت رسلهم)
أو (وقد خاب من افترى)
أو (ولو شاء ربك) وغيرها.
فإن الفعل ينقلب من الماضي إلى ما لم يسم فاعله, فيتغير المعنى بذلك.

والخلاصة أن يقال: إن من كانت لهجته الإمالة لا يطاوعه لسانه إلا على النطق بها فإنه مرخص له أن يقرأ بها وليس المطلوب أن يقرأ بسواها, بل لا يشرع له أن يزول عن لغته ولا أن يعدل لسانه.
وعلى العكس من كانت لهجته استقامة اللسان فلا يشرع له أن يميل لسانه فيتكلف شيئاً ليس عنده فضلاً عن المشقة والتكلف وإضاعة الجهد وتغيير المألوف السهل, واستبداله بالغريب المستغرب.
قال أبو شامة في "المرشد الوجيز" ص (97) : "لا يكلف أحد إلا قدر استطاعته، فمن كانت لغته الإمالة، أو تخفيف الهمز، أو الإدغام، أو ضم ميم الجمع، أو صلة هاء الكناية، أو نحو ذلك فكيف يكلف غيره؟ وكذا كل من كان من لغته أن ينطق بالشين التي كالجيم في نحو (أشدق) والصاد التي كالزاي في نحو (مصدر)، والكاف التي كالجيم والجيم التي كالكاف ونحو ذلك، فهم في ذلك بمنزلة الألثغ والأرت، لا يكلف ما ليس في وسعه" انتهى كلامه.

فإن قال قائل: أليس عاصم رحمه الله قد أقرأ أبا بكر بن عياش القراءة التي قرأها على زر بن حبيش, وفيها كثير من الإمالة.
فلو كان الأمر كما زعمت وادعيت لاكتفى عاصم بالقراءة التي هي خالية من الإمالة, وهي القراءة التي قرأها على أبي عبد الرحمن السلمي.

فجواب ذلك أن عاصم رحمه فيما يظهر قد ترك القراءة التي أقرأها أبا بكر, ولذلك اشتهرت عنه قراءة حفص الخالية من الإمالة.
فقد اعتمد القراءة الأخرى التي قرأها على أبي عبد الرحمن السلمي, وهي التي أقرأها لحفص.

ويقرر هذا الدكتور عبد الفتاح شلبي في كتابه "الإمالة في القراءات واللهجات العربية" ص (166) حيث يقول: "لماذا اشتهر عن عاصم غير المأثور عنه؟ لماذا اشتهر عنه القراءة بعدم الإمالة مع أن المروي عنه في قراءة أبي بكر الإكثار فيها؟
ليس لدينا للرد عن هذا السؤال والتعليل إلا ما يذكر في مثل هذه الحالات من أن القارئ له قراءتان, قديمة عدل عنها, والأخرى جديدة اختارها ورواها كثير من الرواة عنه.
ويفسر ذلك ما روي عن الكسائي, قال أبو الحارث: كان يقرأ (نخرة) ثم رجع إلى (ناخرة).
وإلى جانب ذلك فإنه كان أسبق قراء العراق, فقد سبق كلاً من حمزة الكوفي وأبا عمرو البصري بنحو ربع قرن, وسبق الكسائي الكوفي بنحو ستين عاماً, فلعل القبائل العربية المميلة النازعة إلى العراق لم تكن قد تمت سيطرتها اللغوية في عهد عاصم, ولعلها لم تكن قد تناسلت وتكاثرت بحث تجعل عاصماً يثبت على الميل الذي رواه عنه أبو بكر, فكانت قراءته أقرب إلى قراءة أهل المدينة...
ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا جعل ابن حنبل قراءة عاصم تالية لقراءة أهل المدينة عندما سأله ابنه عبد الله أي القراءات أحب إليك؟ قال: قراءة أهل المدينة, فإن لم يكن فقراءة عاصم"اهـ

ثامناً: لماذا أمال حفص في حرف واحد فقط, وهو كلمة (مجراها) في سورة هود.
قراءة حفص عن عاصم قد خلت خلواً تاماً من الإمالة إلا في موضع واحد
في حين أن قراءة أبي بكر عن عاصم قد كثرت فيها الإمالة.
والسبب في ذلك أن عاصم بن أبي النجود لم ينتهج منهج الاختيار عند قراءته عن شيوخه, بل نقل القراءة كما تلقاها تماماً.
وكان عاصم قد قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي ولم يكن في قراءته أي إمالة, وهي القراءة التي أقرأها لحفص.
وقرأ أيضاً على زر بن حبيش, ووجد فيها إمالة كثيرة, وهي القراءة التي أقرأها لأبي بكر.
والسبب في ذلك أن زر بن حبيش أسدي كوفي, ومعروف أن بني أسد كان في لهجتهم الإمالة.
وقد روي عن حفص كما في "غاية النهاية" (1/346) أنه قال: "قلت لعاصم: أبو بكر يخالفني, فقال: أقرأتك بما أقرأني عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه, وأقرأته بما أقرأني زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه ".

ويبرز السؤال هنا:
لماذا أمال حفص في موضع واحد فقط, وما الغرض من ذلك.
وقد سبق أن حفص أخذ قراءة عاصم التي قرأ بها على أبي عبد الرحمن السلمي, عن علي.
وأبو عبد الرحمن السلمي وعلي بن أبي طالب لا يعرف عنهما الإمالة في القراءة, ويبعد جداً أن تخلو قراءتهما من الإمالة تماماً ثم توجد في موضع واحد فقط.
فما السبب يا ترى في إمالة حفص في هذا الموضع بالذات؟
الذي يبدو والله أعلم أن هذه الإمالة الفريدة قد تسربت إلى قراءة حفص من الإمالات التي في قراءة أبي بكر.
فإما أن تكون تسربت من قراءة عاصم نفسه حين أقرأ حفصاً.
أو أن حفصاً قد استحسنها في هذا الموضع فقرأ بها ممالة.
وأياً كان الأمر فالذي ينبغي الجزم به أن قراءة أبي عبد الرحمن السلمي التي تلقاها من علي وعثمان ليس فيها إمالة البتة لا في (مجراها) ولا غيرها.
ومن المعلوم أن القرآن أنزل بلغة قريش والإمالة ليست من لغة قريش.
وعلى هذا فالأحسن والأفضل والأجمل والأوضح في المعنى أن يقرأ القارئ هذا الموضع من قراءة حفص دون إمالة.

تاسعاً:
وقفة مع الهذلي صاحب كتاب "الكامل".
قال الهذلي المتوفى سنة (465) هـ في كتابه "الكامل" ص (308) بعد أن ذكر أن من القدماء من أنكر أن القرآن نزل بالإمالة.
"والجملة بعد التطويل أن من قال: إن الله لم ينزل القرآن بالإمالة أخطأ وأعظم الفرية على الله وظن بالصحابة خلاف ما هم عليه من الورع والتقى, وكيف يظن بهم ذلك ولم يتركوا فعلاً من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قولاً ولا حركة إلا نقلوه وبينوه, إذ هم حجة الشريعة... وأنى يظن بهم ذلك وهم أمناء الأمة، وفصحاؤها وحفاظ الدين والشريعة, كيف وقد قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ولو جاز أن يدخل في القرآن ما ليس فيه لجاز أن يزاد فيه وينقص, ولو جاز ذلك لتبدلت الشريعة ووصفت هذه الأمة بما وصف به اليهود والنصارى من تبدل التوراة والإنجيل, كيف وقد اجتمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على الأخذ والقراءة والإقراء بالإمالة... وهذه الحروف وأشباهها مشهورة فكيف الإمالة مع طولها لو كانت محدثة لأنكرها الصحابة والتابعون إلى يومنا هذا, ولم نقصد ذكر أحد ممن رد الإمالة لئلا يقال أخذنا في الطعن على المتقدمين" اهـ

أقول: قول الهذلي رحمه الله: "وكيف يظن بهم ذلك ولم يتركوا فعلاً من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قولاً ولا حركة إلا نقلوه وبينوه, إذ هم حجة الشريعة... وأنى يظن بهم ذلك وهم أمناء الأمة، وفصحاؤها وحفاظ الدين والشريعة"
جوابه: أن هذا القول الذي استدل به على أن القرآن نزل بالإمالة هو في الحقيقة دليل على النفي, فإنه إذا كان الصحابة رضي الله عنهم لم يتركوا فعلاً من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قولاً ولا حركة إلا نقلوه وبينوه فكيف لا يأتي للإمالة ذكر البتة عن الصحابة لا فعلاً ولا قولاً ولا ذكراً ولا إشارة.
إن هذا كما سبق من الأدلة على أن الإمالة ليست منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: (ولو جاز أن يدخل في القرآن ما ليس فيه لجاز أن يزاد فيه وينقص)
فجوابه: أن صفة الأداء والتلاوة يختلف فيها الناس بطبيعتهم ولا يقال: إن من قرأ بالإمالة أو بأي لهجة أخرى إنه قد زاد في القرآن, والإمالة لهجة من لهجات بعض العرب كما سبق, وأما أن ينسب ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنى يثبت ذلك.

وأما قوله: (كيف وقد أجمعت من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على الأخذ والقراءة والإقراء بالإمالة).
فجوابه أن يقال: أين هذا الإجماع من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومه رحمه الله, وقد أنكر القراءة بالإمالة جماعة كثيرة جداً من كبار علماء وأئمة الأمة كما سبق.
وكيف يقال بالإجماع من لدن الصحابة والتابعين على القراءة بالإمالة ثم لا نجد نصاً واحداً صحيحاً يؤيد أنهم قرؤوا بالإمالة أو أقرؤوا بها !
باستثناء من كانت لغتهم ولهجتهم الإمالة.

عاشراً:
وقفة أخيرة.
اعلم أيها المسلم العاقل أن كثرة الشيء وفشوه واشتهاره لا يدل بالضرورة على صحته وصوابه, وقد تفشو بعض القراءات في كثير من البلاد ويحكم العلماء عليها بالخطأ والمنع.
هذا ابن الجزري رحمه الله يذكر أن القراءة بالفتح الشديد قد فشا في أكثر البلاد ثم يحكم أنه ممنوع منه في القراءة.
قال ابن الجزري في "النشر" (2/30): "ينقسم الفتح إلى شديد ومتوسط, فالشديد هو نهاية فتح الشخص فمه بذلك الحرف, ولا يجوز في القرآن بل هو معدوم في لغة العرب, وإنما يوجد في لفظ عجم الفرس ولاسيما أهل خراسان, وهو اليوم في أهل ماوراء النهر أيضاً, ولما جرت طباعهم عليه في لغتهم استعملوه في اللغة العربية وجروا عليه في القراءة, ووافقهم على ذلك غيرهم وانتقل ذلك عنهم, حتى فشا في أكثر البلاد وهو ممنوع منه في القراءة كما نص عليه أئمتنا".

قلت: انظر كيف فشا في أكثر البلاد مع أنه ممنوع, وهذا يدل على أنه لا عبرة بانتشار الشيء واشتهاره.

وأخيراً أتمنى من كل من يستعظم هذا القول ويستنكره أن يجهد نفسه في البحث عن رواية واحدة ثابتة فيها أن صحابياً تعلم الإمالة أو تمرن عليها أو أقرأها أو قرأ بها حين علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها أو أقرأ بها فإن لم يجد ولا إخاله يجد فلم الاستنكار والاستعظام إذاً !
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يجعلني وإياكم من الهداة المهتدين الباحثين عن الحق بدليله وأن يبرأنا جميعاً من التقليد والتعصب إلا للحجة والبرهان إنه رحيم قريب مجيب.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم ومحبكم صالح بن سليمان الراجحي
Alrajhi.sr@gmail.com