سجون الأكاذيب



أحمد عباس




الخروج من أسر الروح وأسر القلوب وأسر العقول لابد أن يسبق الهروب من أسر الزنازين والسجون، لأن سجن القلب هو السجن الحقيقي فكم من إنسان أمضى سنوات من حياته داخل الزنازين ولكنه لم يشعر للحظة بفقدان الحرية وكم من إنسان لم يدخل سجون البشر يومًا لكنه عاش عمره كله أسيرًا فاقدًا للحرية الحقيقية.

إن الحرية الحقيقية هي الخلاص من انبطاح القلب أمام الأكاذيب، لأن الكذب هو السجن الذي يمكن أن يعيش فيه القلب سنوات طويلة بدون أن يدرك أنه أسير، فهو يعاني من الحزن والألم كل لحظة ولكنه لا يستطيع أن يرى حدود سجنه ولا يتصور ضيق الأسر الذي يحيط به بسبب هذا الكذب.

والذي يتأمل في دعوة الأنبياء للناس من أجل هدايتهم إلى طريق الله يجد أن كل رسل الله تعالى جاءوا من أجل تحرير الناس من سجن الأكاذيب، فكل مجموعة من البشر يمكن أن تتعرض للاستخفاف بفعل فكرة معينة أو حالة معينة تسيطر عليهم وتتملكهم وتنفذ إلى عمق وجدانهم بحيث لا يستطيعون أن يستخدموا عقولهم في تفنيدها والحكم على صدقيتها وتطابقها مع الواقع، وهنا يرسل الله تعالى رسله لكي يحاولوا أن يخلصوا هؤلاء الناس من أسر هذه الفكرة أو تلك الحالة القائمة على سلسلة من الأكاذيب المركبة.

ويحدث أن تنتفض القلوب في وقت ما بسبب ضيقها من استمرار الكذب واستمرار الاستخفاف واستمرار الاستغفال، فالقلوب بطبيعتها الفطرية خلقت متحررة من كل سجن وقيد وعندما تتزكى وتسمو وتطهر نفسها من المخاوف والمطامع والأحقاد والرغبة في الانتقام، عندما تفعل ذلك تشعر بتوق هائل للتحرر من كل من يقسو عليها أو يتجاهل إحساسها، وكذلك العقول تنتفض ضد كل من يحاول أن يواصل الكذب عليها والاستخفاف بقواعد المنطق ومناقضة الحقائق التي يشهد بها الواقع.

هذه الانتفاضة ضد الكذب هي ثورة للحرية لكنها ثورة ضمائر قبل أن تكون ثورة أجساد وسلوكيات، ثورة ضد الكذب والاستخفاف والاستعباد والتناقض، انحياز الضمير الإنساني للصدق والوضوح والشفافية هو في حقيقة الأمر انتفاضة تتجاوز كل الأسوار وكل القيود، والضمير الذي لا يريد أن يعيش يومًا بيوم وهو يختار هذا الانحياز للصدق وحده ويهرب من كل محاولة لاستغلاله والتلاعب به وغشه هو ضمير اختار أن يعيش وهو أسير حبيس.

ما الذي فعله فرعون لمحاولة التصدي لدعوة نبي الله موسى عليه السلام؟ لقد وصفه الله تعالى بأنه استخف قومه فأطاعوه وهو ما يعني أن فرعون حاول أن يسجن عقول أتباعه داخل مجموعة من الأكاذيب عن أهداف نبي الله موسى وأخيه هارون ومقصدهما الحقيقي من وراء الدعوة وغير ذلك من الأكاذيب التي تناقض الواقع ولكنها ترمي إلى سجن العقول ومنعها من التفكير الصحيح المبني على البرهان والمنطق واستخدام المعطيات في الوصول إلى النتائج.

هذا الاستخفاف الذي يحاول النيل من العقول والقلوب ليس مقصورًا على فرعون ولا على أي طاغية في أي زمن أو عصور من العصور ولكن هذا الاستخفاف يمكن أن يقع حتى في صورة فكرة أو حالة أو قناعة والهدف دائمًا واحد هو أسر البسطاء والمتحمسين داخل أسوار سجن الكذب والتناقض العالية.