الشيخ محمد عياد الطنطاوي

أبوالحسن الجمال









ما كان يتوقع، وهو يخرج من بيته كل يوم في قرية «نجريد» (من أعمال محافظة الغربية في مصر)، إلى الكُتّاب ليحفظ حزبه من القرآن على شيخه، ثم يتجول بعد ذلك في دروب القرية وبين جداولها وحدائقها ونخيلها وأشجارها وريفها الجميل القابع في وسط الدلتا نبع الخير- أن ينتهي به المطاف في سهول مدينة «بطرسبورغ» الروسية.. في هذا الوقت، حيث الفطرة النقية لم تتلوث كما تلوثت الآن، كان الناس يخفون الآلام والأتراح والمتاعب من جراء سياسة الوالي محمد علي باشا، الذي استولى على أراضي الفلاحين وصار المالك الوحيد، واحتكر التجارة والزراعة وكل شيء في مصر، وانتقل الفلاح المصري من تعاسة وسوء حال إلى شقاء تام.. صار الفلاح المصري يعمل أجيرا في أرضه التي كان يمتلكها بالأمس.. وسط هذا الجو المشحون بالآلام كان الناس يهبون أولادهم للعلم الأزهري.


في هذا المناخ ظهر عالمنا الجليل محمد عياد الطنطاوي، الذي انتهى به المقام في بلاد روسيا، وبالتحديد في مدينة «بطرسبورغ» العريقة؛ ليشغل أستاذ كرسي العلوم العربية في جامعتها، وقد شحت الأخبار عنه لولا جهود المخلصين من آل العلم، وعلى رأسهم المستشرق الروسي المحب للعلوم العربية إغناطيوس كرتشكوفسكي (1)، الذي خصه بدراسة صارت مرجعا معتمدا لكل الباحثين والمحبين للشيخ عياد الطنطاوي، ومنهم العلامة أحمد تيمور، والدكتور جمال الدين الشيال، ومحب الدين الخطيب، والعلامة المحقق محمد عبدالغني حسن الذي خصه بأكثر من دراسة في كتبه، وقد علق تعليقات مفيدة على كتاب كرتشكوفسكي، الذي ترجمته الأديبة الفلسطينية الأصل كلثوم عودة (1892-1965م). وقد خلف الشيخ مؤلفات في مجالات شتي في اللغة والأدب والتاريخ، ومن أشهرها كتابه «تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا»، الذي وصف فيه رحلته إلى روسيا منذ أن خرج من القاهرة وسلك طريق الترعة المحمودية، ثم أبحر من الإسكندرية حتى تركيا، ومن تركيا إلى ميناء «أوديسا»، ومنه إلى «بطرسبورغ»، ثم فصل القول عن تاريخ روسيا، ووصف معالمها وثقافتها وعاداتها، وأسهب عند الحديث عن قيصرها بطرس الأكبر، الذي تنسب إليه مدينة بطرسبورغ، التي غير اسمها إلى «ليننغراد» زمن الحقبة الشيوعية، وعند سقوط الاتحاد السوفيتي رجعت إلى اسمها القديم. وقد تلقى عليه العلم زمرة من كبار المستشرقين في الشرق والغرب.


وقد ولد الشيخ محمد بن عياد بن سعد بن سليمان الشافعي سنه 1810م في قرية «نجريد» من أعمال مركز بسيون بمحافظة الغربية، وينتمي أبوه إلى قرية «محلة مرحوم» بجوار مدينة طنطا، وكانت تسبقها في الشهرة قبل أن يأتي طنطا السيد أحمد البدوي، وكانت طنطا تدعى «طنتدتا». كان الأب يعمل ببيع القماش والصابون والبن، وعندما أتم السادسة من العمر تردد على الكتّاب في طنطا، وبعد أن أتم حفظ القرآن، أرسله والده إلى طنطا، حيث حفظ متونا كثيرة جريا على القول السائر «من حفظ المتون حاز الفنون»، منها: «متن المنهج في علم الفقه» و«ألفية ابن مالك»، ثم بدأ في دراسة الشروح والتعاليق على المتون التي حفظها على يدي الشيخ محمد الكومي، والشيخ محمد أبوالنجا، لكن أكثرهم تأثيرا في الطالب الوافد إلى طنطا كان شيخ الجامع الأحمدي الشيخ مصطفى القناوي، الذي أعطاه إجازة تدريس الحديث من الكتب الستة، إضافة إلى موطأ مالك. وفي سن الثالثة عشرة انتقل إلى القاهرة، حيث قام بالدراسة في الأزهر، وقرأ في رحابه على كبار علمائه، منهم: الشيخ حسن العطار (ت1835م)، والذي تولى مشيخة الأزهر فيما بعد، والشيخ محمد بن أحمد البيجوري (ت1869م) وقد ولي المشيخة أيضا، والشيخ برهان الدين إبراهيم السقا (ت1880م)، وقد تولى المشيخة بعد ذلك (2).


بعد أن انتهى من دراسته في الأزهر بدأ في تدريس تفسير القرآن والمنطق بالجامع الأزهر، ولكنه كان مولعا بعلوم اللغة وآدابها، فبدأ يعطي دروسا في الشرح والتعليق على كتب الشعر والأدب، وبسبب هذا العشق صار لا يضاهيه أحد في هذا المضمار، ينقل الدكتور محمد عيسى صالحية في مقدمة تحقيقه لكتاب «تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا» أن الطنطاوي «اتهم بترويج البدع، إذ انصرف إلى الشعر والأدب بدلا من الانصراف إلى مباحث الفقه والحديث، حتى تمنى البعض موته حين أصيب بطاعون سنة 1836م، المرض الذي عاناه مدة عشرة أيام بلا نوم، وغاب عنه الإحساس والإدراك حتى سلمه الله وانفتحت البثور ثم تعافى بعد أسبوعين. وفي هذا يقول حين أشيع خبر موته شعرا:


تمنى أناس أن أموت وإن مت


فتلك طريق لست فيها بأوحد


وإن أظهروا موتي فليس بمنكر


إذا أظهر الشيطان موت محمد (3)»


توطدت صلته بأعلام عصره في مصر قبل سفره وبعده. وبالرجوع إلى أوراقه، نجد أنه كان يراسل هؤلاء ويطلعهم على أخباره وأعماله في روسيا، منهم الشيخ الأشموني، ومحمد قطة العدوي (رائد فن التحقيق ومن أوائل أعلامه في مصر، حيث حقق عشرات الكتب بمطبعة بولاق الأميرية، ومن أعماله تحقيق خطط المقريزي، وألف ليلة وليلة، وخزانة الأدب)، ومن الذين راسلهم وصادقهم: عبدالسلام الحلبي الترمانيني، وعبدالهادي نجا الإبياري، وسرور الدمنهوري، ورفاعة رافع الطهطاوي (رائد النهضة العلمية)، ويوسف الصيداوي.. وغيرهم (4).


وقد كان مشغولا بأتراح وطنه وتمنياته له بالرقي والتقدم، مثلما تمنى صديقه رفاعة، الذي تعلم في باريس، ولاحظ الفروق الحضارية والبون الشاسع بين مصر والغرب، الذي وصفه في رحلته «تخليص الإبريز». كتب إلى صديقه رفاعه الطهطاوي هذه الرسالة: «أنا مشغوف بكيفية معيشة الأوروبيين وانبساطهم وحسن إدارتهم وتربيتهم، خصوصا ريفهم، وبيوته المحدقة بالبساتين والأنهار إلى ذلك مما شاهدتهم قبلي بمدة في باريز، إذ بطرسبورغ لا تنقص عن باريز في ذلك، بل تفضلها في ذلك كاتساع الطرق، وأما ما قبل البرد فلم يضرني جدا، إنما ألزمني ربط منديل في العنق ولبس فروة إذا خرجت، وأما في البيت فالمدافئ متينة معدة لإدفاء الأرض ولطالما أنشدت قرب النار:


النار فاكهة الشتاء فمن يرد


أكل الفواكه في الشتاء فيصطل (5)».


اشتغل بتدريس اللغة العربية وآدابها للأجانب، فعمل في المدرسة الإنجليزية في القاهرة.


ونتيجة للحركة العلمية في مصر في عهد محمد علي، واتجاه محمد علي لجذب العقول الأوروبية للعمل بمختلف الوظائف بمصر، بدأت تفد إلى مصر مجموعات من المستشرقين في مختلف المجالات. ولحاجتهم إلى تعلم العربية بدأت علاقة الشيخ عياد بمجموعة من المستشرقين بغرض تعليمهم اللغة العربية، أشهرهم الفرنسي فرنيل صاحب «الرسائل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، الذي قدم إلى مصر عام 1831م، والفرنسي بيرون (طبيب بقصر العيني) وله كتاب حول علم الخيل وأنسابها، والألماني فايل مؤرخ الخلافة ثم مدرس الآداب الشرقية في جامعة هايدلبرغ، والألماني برونر، والإنجليزي إدوار وليم لين مترجم كتاب ألف ليلة وليلة (6).


رحلة بلا عودة إلى روسيا



كان لاحتكاك الشيخ المستمر بمن يفد على مصر من المستشرقين والأعلام، أن كون له تلاميذ ومريدين من أنحاء العالم القديم، كان منهم المستشرقان الروسيان موخين، الذي كان يعمل مترجما للقنصلية في إسطنبول سنة 1840م، والذي كان قد قرأ شيئا من المعلقات عليه، أما الثاني، ويدعى فرنيل، فقد توطدت صلته بالشيخ الطنطاوي، الذي قدمه إلى القنصل الجنرال الكونت ميدن، الذي عمل سفيرا لروسيا في فارس بعد ذلك، وحيث إن معلم اللغة العربية البروفيسور يوليان سينكوفسكي بالقسم التعليمي التابع لوزارة الخارجية الروسية قد ترك عمله، فكلف وزير الخارجية الروسي قنصله العام في الإسكندرية بالبحث عن معلم مناسب من علماء العرب، وقد وقع اختيار القنصل عليه نتيجة الترشيح منهما، وقد حث محمد علي باشا (والي مصر) الطنطاوي على تعلم اللغة الروسية وإتقانها (7).


ويروي الشيخ الطنطاوي القصة كاملة، وبمنتهى البساطة، في كتابه «تحفة الأذكياء» يقول: «ومن حيث إن سعادة الوزير الروسي مفتن بإحياء مدرسته «مدرسة الألسن الشرقية» فلهذا لما توجه جناب الكونت ميدن إلى الديار المصرية كلفه بالتفتيش على معلم عربي للمدرسة. ومن حيث أني تعرفت بجنابه بواسطة المسيو فرنيل الذي طالع معي كتبا عربية أدبية وتاريخية، واكتسب في هذا اللسان مهارة المعية، بسبب كثرة صحبة العرب، طلب مني الذهاب. وبعدما رضيت، استأذن لي جناب الكونت من حضرة الباشا عزيز مصر وممدنها، وحامي ذمارها ومؤمنها، فأذن لي وطلب حضوري. فمثلت بين يديه، فأمرني بالجلوس، فامتثلت أمره المأنوس، ثم حضني على تعلم لسان الروسيا، ووعدني بالإكراء إذا تعلمته، لأنه مشغوف بجلب الألسن الغريبة إلى بلاده. ولذلك ترى في مدارسها نجابة التلاميذ، خصوصا في اللسان الفرنساوي، وكتب لي مرسوما..» (8).


وقد غادر الطنطاوي القاهرة عام 1840م، وكان السفر عن طريق النيل إلى الإسكندرية، ومن هناك ركب الباخرة، وقد وصل إلى أوديسا على ساحل البحر الأسود يرافقه تلميذه السابق موخين، ومن هناك غادر إلى كييف، ثم واصل رحلته بعد ذلك ليصل إلى سانت بطرسبورغ في مايو سنة 1840م من ذلك العام كان قد غادر مصر في مارس من السنة نفسها. فيكون قد قضى في طريقه نحو سبعين يوما.


ابتدأ الطنطاوي عمله بإلقاء محاضراته في «كلية اللغات الشرقية» (9) بجامعة سان بطرسبورغ في أوائل أغسطس من ذلك العام، وكان للعلماء والمدرسين العرب في معاهد الاستشراق والجامعات الروسية شأن كبير في إعداد أجيال المستعربين الروس في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، منهم علامتنا الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810-1861م) أستاذ مادة اللغة العربية وتاريخ العرب في جامعة بطرسبورغ (موضوع دراستنا)، والدمشقي مرقص (1846-1911م)، والأُستاذ قلزي (1819-1912م)، والأُستاذ فضل الله صروف (1826-1903م)، والأُستاذ عطايا (1852-1924م)، والعلامة الفلسطيني بندلي الجوزي (1871-1942م) أستاذ مادة اللغة العربية في جامعتي قازان وباكو، وصاحب عشرات الدراسات التاريخية والأبحاث العلمية في مجال الآداب العربية، والبروفيسورة الفلسطينية كلثوم عودة فاسيليفا (1892-1965م) أستاذة مادة اللغة العربية في جامعة ليننغراد والأكاديمية الدبلوماسية في موسكو ومؤلفة كتب تعليم اللغة العربية وتاريخ الأدب العربي.. وغيرهم الكثير (10).


وظل يعمل في التدريس خمسة عشر عاما لم يغادر فيها روسيا منذ قدومه إليها إلا مرة واحدة عام 1844م، زار خلالها القاهرة وطنطا، واهتم بجمع المخطوطات الشرقية واصطحب معه زوجته علوية وابنه أحمد، وقد ذاع صيته في المجتمع الروسي فنشرت صحيفة «أخبار بطرسبورغ» مقالة بعنوان «شارع نيفا». ورد فيها: «تسألونني من يكون ذلك الرجل الوسيم، الذي يرتدي لباسا شرقيا وعمامة بيضاء، وله لحية سوداء كالفحم، وعيون متقدة يشع منها البريق، ويعبر وجهه عن النباهة وهو المسمر البشرة، ولكن ليس من شمس سان بطرسبورغ الباهتة. لقد التقيتم به مرارا وهو يتمشى في شارع النيفا بكل زهو وفخار وخاصة عندما يكون الطقس لطيفا. وبالطبع فأنتم تتشوقون لمعرفة ذلك الشخص الغريب.. إنه الشيخ محمد عياد الطنطاوي الذي وصل للتو من شاطئ النيل؛ ليشغل مكان أستاذ اللغة العربية في معهد اللغات الشرقية في وزارة الخارجية الروسية».


ويضيف الكاتب: «يمكنكم الآن تعلم اللغة العربية من دون مغادرة بطرسبورغ». وكاتب المقالة هو الشاب -حينها- ب. سافيلييف، تلميذ المستعرب سينكوفسكي، والذي أصبح فيما بعد عالما في الآثار والمنمنات (11).


لم يقتصر دور الشيخ الطنطاوي على التدريس فقط، بل إنه عين مستشارا في الدولة الروسية، وقلده القيصر وسام ستانيسلان ووسام القديسة حنة، بسبب امتياز التلاميذ في البحث.. كما قلده القيصر خاتما مرصعا بالألماس الغالي. جمع الطنطاوي في تدريسه بين الطرق العملية والنظرية، فمن جهة كان يدرّس قواعد اللغة، ويشرح أمثال لقمان، ويقرأ قطعا من مؤلفات تاريخية، ومن مقامات الحريري، كما كان يدرّس الترجمة من الروسية إلى العربية، والخطوط الشرقية، وقراءة المخطوطات، والمحادثة باللغة العربية، وزاد على ذلك عام 1855م تدريس تاريخ العرب (12).


عانى الشيخ الطنطاوي في سبتمبر 1855م شللا أصاب أطرافه السفلى، ثم امتد هذا إلى يديه. ومع ذلك، فقد ظل يعمل، بقطع النظر عن الصعوبات المرضية، متسلحا بإرادة حديدية، لكنه خضع للضعف العام الذي ألم بجسمه إلى أن استعفي من الخدمة في 31 يناير عام 1861م، ووري الثرى في مقبرة فولكوفو الإسلامية. وكتب على شاهد قبره: «هذا مرقد الشيخ العالم محمد عياد الطنطاوي. كان مدرس العربية في المدرسة الكبيرة الإمبراطورية بسانت بطرسبورغ المحروسة. وتوفي في 29 أكتوبر 1861م» (13).


مؤلفاته وآثاره



أثرى الشيخ عياد الطنطاوي المكتبة العربية بالعشرات من الكتب والأبحاث، تنوعت بين اللغة والأدب والشعر والتاريخ وتقويم البلدان والبلاغة، ألف بعضها قبل سفره إلى روسيا، وألف الأخرى في «بطرسبورغ»، يأتي على رأسها كتابه الفريد «تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا»، ويعتبر أهم مؤلفاته، وهو يتكون من قسمين واضحي الفرق: الأول هو رواية الرحلة وأخبارها من القاهرة إلى «سانت بطرسبورغ». أما القسم الثاني، الذي يتناول فيه روسيا، فقد اعتمدنا طبعة مؤسسة الرسالة التي حققها الدكتور محمد عيسي صالحية سنة 1992م، وله «أحسن النخب في معرفة لسان العرب» كتبه باللغة الفرنسية، وهو كتاب أكسب الطنطاوي شهرة واسعة في كل أوروبا، «ترجمة تاريخ روسيا الصغير» لأوسترالوف، «قاموس عربي فرنسي» طبع في قازان سنة 1849م، كما ترجم الباب الأول من كلستان لسعدي الشيرازي، و»مجموعة الحكايات وملاحظات في تاريخ الخلافة والشرق الإسلامي، وقواعد اللغة العربية» (وهو مكتوب بالروسية)، ومجموعة أمثال عربية مترجمة إلى الروسية، وله مؤلفات أخرى مازالت مخطوطة ومبعثرة في كل مكتبات روسيا وأوروبا، وقد أحصاها الأستاذ المستشرق إغناطيوس كرتشكوفسكي في رسالة بعث بها إلى الأستاذ أحمد تيمور باشا؛ استدراكا منه على مقاله المنشور في مجلة المجمع العلمي العربي عام 1922م. ومن هذه المؤلفات نذكر: «حاشية على الأزهرية» كتبه بخط يده عام 1253هـ، «نظم التصريف للزنجاني» 1255هـ، و«منتهى الآراب، في الجبر والميراث والحساب» كتبه 1295هـ بخط يده، و«الحكايات المصرية العامية»، و«مسودات لتاريخ العرب»، وكتاب «لذيذ الطرب بنظم بحور العرب»، وسوف يصدر بتحقيقنا (14).


عياد الطنطاوي أديبا وشاعرا



لم يُجمع شعره إلى الآن، ولم يدرس بما فيه الكفاية، ولم يتعرض له من درس أدبنا العربي في المراجع العديدة. وقد نظم الطنطاوي شعرا بأسلوب عصره، يعتمد على المحسنات البديعية واللفظية، ويفتقر إلى الصور والأخيلة، وقد وجدنا له قصائد في كتاب «أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء»، وله نماذج في كتاب «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي»، وله نماذج في كتاب «أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث» (15)، وله قصائد مخطوطة محفوظة بمكتبة ليننغراد، ومنها شعر المديح، والرثاء، والوصف وتقريظ بعض كتب شيوخه نظما: ومنها قصيدة «هنئت بالعيد»، وهي مهداة إلى الشيخ إبراهيم البيجوري (شيخ الأزهر)، وفيها يقول:


أثغور غيد أم ثغور زهور


بسمت لنـا عـن لؤلؤ منثور


أم مطرب يشدو بلحن معربا


قـانـون أفراح عـن السنطير


أم فاح عـرف الـمسك أم ضاع السنا


مـن صندل العطار والكافور


أم بعـد طـول عبـــــــــــــ ــوسه متبسم


ورد الريـاض على كـنــــــــــــ ار غدير


أم عـم بشر السعـد بـالـبشـري لنـــــــا


مـن مـنذ بشرنـا وفـود بشـــــــــــــ ير


أم سر تقـديـم الأفـاضل جهـــــــــــبذ ا


من بعـد طـول الـحـزن بـالـتأخـــــــ ـير


بحـر سفـائن عـلمه مشحــــــــــــ ـــونة


ببـدائع الـتحقـيـق والـتحـبـــــــ ـــير


قـد ثقف الطلاب مـنه كـامـــــــــــ ـــل


آثـاره تـروي عـن ابن أثـــــــــــــ ـير


مـن لا يشق غبـاره عـن أعـيـن الــــــــ


أعـدا ولا فـي حـلـبة قـــــــــــد جوري


ببـديع مـنطقه وحسن بـيــــــــــــ ــانه


تبـدو الـمعـانـي فـي لـبـاس حـــــــرير


فـاقصد حمـاه وُلـذْ بـه إن أعضلـــــــــت


شُبَهٌ فـمـا يُنـبـيكَ مـثل خبــــــــــــي ر


كما له قصيدة في رثاء الشيخ محمد الترمانيني يقول فيها:


مـا لـي لاهٍ بـاللاحـيــــــ ـــــــــــن


وغرابُ الـبـيـن يـنـاديـنــــــ ــــــــي


وصروف الـبـيـن تحـاربنــــــــ ــــــــي


بحسـام أزرق مسنــــــــــــ ــــــــــون


أنجـوم الفضل قـد انكدرت


فخبـا مـنهـا نـور الـدين


أم روض الفضل غدا زل


ذاوي زهـر وريـاحـيــن


أنهـار رباه غائضة


والـدوح بـغـير أفـانـيـن


لا بـل قـلـبـي جزع مـن فَقْـــــــــــ ـــ


ـدِ محـمد الـتِّرْمـانـيـ نــــــــــــــ ــي


وله نظم ضمنها في كتبه منها «حاشية على متن الزنجاني في الصرف المشهور بمتن العزي»، قال في أولها موريا بالمتن المذكور:


الصرف زين أهله


وهو لهم مثل الكنز


قالوا لم تقرؤه


قلت لأجل «العز» (16)


وفي حاشيته على رسالة شيخه إبراهيم الباجوري يقول مادحا ومقرظا:


إن علم الكلام أفضل علم


فيه وصف الإله والرسل يسرد


فإلى هذه الرسالة يمم


فهي حازت لما عليك تأكد (17)


وفاته



وبعد حياة حافلة من العلم والسفر، توفي الشيخ محمد عياد الطنطاوي، واختلف الناس في تحديد تاريخ وفاته، ولكن الأستاذ كرتشكوفسكي حقق هذا التاريخ وأثبته في الثاني والعشرين من ربيع الثاني عام 1278 للهجرة، الموافق 29 أكتوبر 1861م استنادا إلى رواية أمين فكري التي نقلها عن المستشرق جواتالد، ودفن في مقبرة تترية في قرية فولكوفا بالقرب من بطرسبورغ، وكان قد اصطحب معه زوجته وابنه، وبقيا بعده فيها إلى أن توفيا ودفنا مثله بمدافن المسلمين في بطرسبورغ. وقد صور كرتشكوفسكي ما كتب على شاهد مقبرته وهذا نصه العربي: «البروفيسور ذو كرسي في جامعة سان بطرسبورغ ومستشار الدولة، وقد توفي رحمه الله في 27 أكتوبر – تشرين الأول 1861م وهو يناهز الخمسين من عمره» (18). رحمه الله رحمة واسعة.




الهوامش



1-المستشرق إغناطيوس كراتشكوفسكي (1883-1951م)، مؤسس مدرسة الاستعراب السوفيتي، أسدى قسطا عظيما في الاستعراب العالمي بما ترك من أبحاث ودراسات علمية رائدة في مجال الأدب العربي القديم والحديث، وتحقيق وترجمة المخطوطات العربية والإسلامية، وتدريس علوم اللغة العربية وآدابها والقرآن الكريم وترجمة معانيه إلى اللغة الروسية، وإشرافه على تنظيم وإدارة عشرات المؤتمرات والجمعيات والحلقات والدوريات العلمية الروسية والدولية. الجدير بالذكر أن الأكاديمي كرتشكوفسكي كان عضو شرف في المجامع العلمية في سوريا وإيران وبريطانيا.. وغيرها. هذا وترك العلامة كرتشكوفسكي تراثا غنيا ضم 450 دراسة ومقالا في مختلف حقول علم الاستشراق، وإليه يعود الفضل في تعريف روسيا والغرب بالأدب العربي الحديث، ولاحقا واصل المستعربون السوفييت رسالة الرواد الأوائل بنجاح شامل.


2- إغناطيوس كراتشكوفسكي «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي»، ترجمة السيدة كلثوم عودة، مراجعة وتحقيق عبدالحميد حسن، محمد عبدالغني، الناشر: المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بمصر عام 1964م، ص27؛ أحمد تيمور باشا، «أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث»، دار الآفاق العربية 2002م، ص45-51.


3- محمد عياد الطنطاوي «تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا»، تحقيق محمد عيسى صالحية، مؤسسة الرسالة، 1992م، ص11-13.


4- «تحفة الأذكياء»، مرجع سابق، 1992م، ص10.


5- أنور الجندي «أعلام لم ينصفهم جيلهم»، القاهرة، سلسلة كتب ثقافية، د.ت، ص17.


6- أحمد تيمور، أعلام النهضة مرجع سابق، ص 50؛ ولويس شيخو «الآداب العربية في القرن التاسع عشر»، ج1/85.


7- «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي» تأليف إغناطيوس كرتشكوفسكي، مرجع سابق.


8- «تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا»، تحقيق محمد عيسى صالحية، مؤسسة الرسالة، 1992م، ص57-58.


9- أنشئ قسم العلوم الشرقية في كلية الفلسفة (1835م)، وضم ست كراسي هي: 1- كرسي اللغة العربية وآدابها، وترأس هذا الكرسي حتى عام1847م البروفيسور يوليان سينكوفسكي وعاونه في تدريس مادة اللغة العربية وآدابها المستعربون: فولكوف (ت1846م) وموخلينسكي (1808-1877م)، وكاظم بيك (أول عميد لكلية اللغات الشرقية)، وبعد اعتزال البروفيسور يوليان سينكوفسكي التدريس دعي العلامة المصري الشيخ محمد عياد الطنطاوي للإشراف على تدريس مادة اللغة العربية وآدابها، وقبل ذاك ومنذ عام 1840م كان الشيخ الطنطاوي يشغل منصب أستاذ في قسم اللغات الشرقية التابع للدائرة الآسيوية بوزارة الخارجية الروسية. 2- كرسي اللغة الفارسية وآدابها.3 - كرسي اللغة التركية وآدابها، أدرج تدريسها في لائحة النظام الداخلي للجامعات الروسية عام1835م. 5- كرسي اللغة الجورجية وآدابها، بدأ تدريس هذه اللغة عام 1841م. 6- كرسي اللغة الأرمنية وآدابها، شرع في تدريس هذه اللغة عام 1845م، وتشير المصادر إلى أن لائحة النظام الداخلي للجامعات الروسية عام 1835م لم تتضمن تدريس اللغتين الجورجية والأرمنية.


10- تاريخ الاستغراب الروسي، منتديات ستار تايمز، الحلقة الأولى.


11- جريدة أخبار روسيا، http://www.russiannewsar.com/


12- «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي» مرجع سابق، ص28.


13- «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي»، مرجع سابق، ص78.


14- أحمد تيمور، مرجع سابق، ص48.


15- أنور الجندي، مرجع سابق، ص18؛ أحمد تيمور، مرجع سابق، ص47.


16- أحمد تيمور، مرجع سابق، ص46.


17- أحمد تيمور، مرجع سابق، ص46.


18- إغناطيوس كرتشكوفسكي «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي»، مرجع سابق، ص 9؛ وأمين فكري «إرشاد الإلباء إلى محاسن أوروبا» مطبعة المقتطف، 1892م، ص609-610.