وسائل «الفصل» الاجتماعي !

أسماء السكاف


ذهبت لزيارة إحداهن مع زوجي وأطفالي، جلس الرجال في مجلس الرجال وجلسنا مع الأطفال في مجلس آخر، وفي خضم حديثنا وانسجامنا بالضحك والأحاديث ولعب الأطفال أخرجت إحداهن هاتفها مبتسمة وبدأت بالتصوير، امتعضت قليلا ونظرت لها بغرابة! ضحكت وقالت: لا تخافي سأصور المجلس والأطفال فقط (سناب)، ولغير العارفين بالتكنلوجيا الحديثة هذا اسم برنامج لنقل حياتك مباشر (لايف) للناس، وأكملنا جلستنا الجميلة التي ما كان جمالها يحتاج إلى توثيق أو إثبات جمالها لغيرنا، هذا من وجهة نظري طبعا، فأنا أؤمن أن اللحظات الجميلة والسعادة الخاصة جمالها بخصوصيتها، فلا حاجة أن نريها أو نظهرها لغيرنا دون هدف، وكلما زادت البرامج وزاد نشر الناس لخصوصياتهم وتفاصيل حياتهم اليومية ازددت قناعة وإيمانا بأنها وسائل تفريق وفصل اجتماعي لا تواصل، فكم من جلسة عائلية وجمعة أسبوعية أفسدها تواصل الموجودين فيها مع من خلف الشاشات، حيث يجلس الأغلب بأجسادهم في مكان وبعقولهم وأبصارهم في مكان آخر، أعجبتني جدة عندما قالت: لا أسمح لهم يوم «الزوارة» بإمساك هذه الشياطين الصغيرة المضيئة بأيديهم، فعند باب البيت صندوق صغير يضع الجميع أجهزتهم النقالة فيه ويدخلون لزيارة عائلية سليمة، ينظرون لوجوه بعضهم بعضا يستمعون لأحاديث بعضهم بعضا ويعرفون أخبار بعضهم بعضا.. وجها لوجه دون الحاجة لرؤيتها من خلف الشاشات كما أصبح العرف الآن، فمع تخمة برامج «الفصل» الاجتماعي أصبح توثيق الحياة بالصور ونقلها مباشرة للناس هو الأساس.

حدث معي موقف رأيته طريفا ومحزنا في آن واحد.. عندما جاءت لزيارتي صديقة لطيفة ويحبها أطفالي ولم يلبثوا أن أحضروا أنشطتهم ومشغولاتهم اليدوية ورسوماتهم وهي تعلق لهم إيجابا وتظهر لهم انبهارها بأعمالهم الجميلة والمبدعة ثم نظرت لي وقالت: لو كنت مكانك لوضعت صور هذه الفنون مع تعليق بسيط بأسلوبك الشيق وجمعت متابعين (فلورز) لا حصر لهم بوقت قصير.. قلت: وماذا سأستفيد، أجابت: متابعين كثر وشهرة وربما عائد مادي، قلت: وسأخسر خصوصية أطفالي والتلقائية والطبيعية والعفوية بأدائهم وإنجازاتهم، فأيهما أكبر وأهم الخسارة أم الربح برأيك، نظرت لي وقالت: رأيك غريب، لم أنظر للأمر بهذه الطريقة، كنت أراه ربحا بحتا.. أتعرفين أن «فلانة» سوقت لحسابها الخاص بالمأكولات بطريقة ذكية وجنت الألوف بوقت قصير، أجبت: لا تسيئي فهمي يا صديقة، أنا لست ضد المشاريع التجارية أبدا، ولكني ضد فكرة التسويق لحياتي وسعادتي مثل ما أرى.. فتلك تعرض هدايا زوجها لها وعبارات الحب والهيام المكتوبة عليها ناسية أو متناسية أن ممن حولها من لم تتزوج أو من فقدت زوجا أو من انفصلت، فلمَ هي بحاجة لاستثارة مشاعرهن بمحاولة تأكيد أو إثبات حب زوجها لها، وأخرى توثق لحظات أمومتها خطوة بخطوة وكأن الأمومة بحاجة لتأكيد وإثبات.. فوقت فطور الأطفال ووقت نزهتهم ووقت لعبهم، بل حتى وقت شجارهم أصبح مسجلا وموثقا، مع أني أجزم أن لو استطاع أطفال العالم التخلص من هواتف والديهم لما توانوا لحظة لأنها شغلتهم عن الأمومة الحقيقية.. في الماضي القريب (أقصد به ما قبل ثورة البرامج التفاعلية وانتشارها) كنت كما غيري متابعين للعديد من الدعاة الذين يمتازون ببساطة وسلاسة وروعة أسلوبهم، كنا نحضر محاضراتهم ونشاهد لهم برامج على التلفاز دون القرب الشديد منهم، فنستفيد دون أن نرى الجانب الآخر لحياتهم الشخصية، أما الآن فقد أنشأ الأغلب صفحات على برامج التواصل صدمت صدمة كبيرة ببعضهم وتمنيت لو أنني لم أتابعهم على برامج التواصل الاجتماعي لتبقى صورتهم كما كانت لدي، فذلك لا يكل ولا يمل عن ذكر محاسنه ومدح نفسه وأبنائه بشكل مبالغ فيه بما يناقض تماما ما كنت أسمعه منه عن مدح الذات وذكر المحاسن بشكل متكرر، وتلك أيضا داعية أسلوبها جاذب ولكنها لا تسأم استعراض أسفارها وطعامها وديكورات منزلها، بل وبعض أزيائها مذيلة الصور بكلمات روحانية ومعان رقيقة تناقض ما نشر في الصورة، حتى بت أرى بعض دعاة التكنولوجيا وجها آخر «للتفاخر الإلكتروني»، ولكن بشكل مثقف، وحسب رأيي فإن خطأهم أكبر، فهم قدوات يقتدي العديد بهم، ويجب أن تكون كلماتهم وانتقاؤهم لما ينشرون موزونا ومدروسا أكثر، لا بهذه العشوائية والتفاخر الذي أصبح المجتمع يزخر ويضج به، وكي لا أكون مجحفة فبالمقابل يوجد البعض من الدعاة والمشايخ والداعيات ممن انتهجوا نهجا بصفحاتهم الإلكترونية سواء بالتذكير أو القصص أو الأحداث والصور التي يحسنون انتقاءها لمتابعيهم فترى صفحته/ها الشخصية جميلة تظهر شخصيته تخبرك أن صاحبها يستحق لقب داعية.. إذ هي مريحة للعين بعيدا عن التفاخر والمباهاة فتسمو بروح متابعها ورائيها وقارئها.. أنا لست ضد التكنولوجيا ولكنني تربيت على عبارة كنت أسمعها من والدي دوما: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود»، قد يقول لي قائل: هذا يتنافى مع قول الله تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11)، سأجيب: مطلقا.. فالتفاخر أبدا ليس شكرا على النعم، فالتحديث بالنعمة يكون بشكر الله عليها ووضعها موضعها لا بالتفاخر فيها أمام من لا يملكها.

وأنا أكتب هذه الكلمات لا أدري لم تذكرت مقالة قرأتها بعنوان «الفارغون أكثر ضجيجا» ربما لأنني أرى أن الشخص المنجز ليس بحاجة ليتكلم عن نفسه، والدعاة ليسوا بحاجة ليروجوا لأنفسهم.. والله من وراء القصد. طبعا فأنا لا أتدخل أو أشكك بالنوايا ولكنها أمور ظاهرة نقلت كما رأيت وكما سمعت استياء العديد ممن أثق بآرائهم، فبالأمس قرأت عن امرأة مشهورة على برامج التواصل تنشر تفاصيل حياتها وأزياءها للناس، ذهبت لزيارة مجمع تجاري يرافقها ستة من الحرس الشخصي!! وكيف امتلأت ممرات المجمع بالمعجبين حتى لكأنك تخال أن حدثا مهما يحدث لا مجرد عارضة أزياء و»ماركات» تمر بميوعتها أمام الغادي والرائح، وغيرها وغيرها من الفارغين الأكثر ضجيجا، عدت لبرهة للتاريخ الجميل الذي طالما أحببت العيش فيه وتذكرت كيف كان يستقبل العلماء ويكرمون على بلاط السلاطين وكيف يجلهم ويحترمهم الناس وكيف كان يستقبل حفاظ القرآن ويحتفى بهم كالأبطال والكتاب والمجاهدين وغيرهم ممن يستحقون فعلا، ربما استقبال تلك المرأة ذكرني بما كنت أتخيله عندما أقرأ عن استقبالات كانت تحدث في أيام عز أمتنا، ولكن أيضا في المقابل أرى العديد حولي من الأمهات الواعيات المدركات للأمومة الحقيقية من غير المنجرفات في سيل التفاخر الاجتماعي الذي نشرته وسائل الفصل الاجتماعي.. فالفجر الباسم قادم بإذن الله بشباب وبنات عرفوا الحق واتبعوه ورموا الترهات والسخافات خلفهم كما عبر الشاعر على لسانهم:

أنا مسلمٌ أبغي الحياةَ وسيلةً

للغاية العُظمَـــــــى وللميعــادِ

لرِضا الإله وأن نعيش أعزةً

وَنُعِدّ للأخـــــرى عظيم الـزادِ

أنا مسلمٌ أسعى لإنقاذ الورى

للنـور للإيمــان للإسعـــــــادِ

ويرُوعُنِي هذا البــلاء بأُمتي

لما تَخَلَّتْ عن طريق الهـادي