حنان في حزم



من رحمة الله بالصغير أن فطر قلوب الآباء والأمهات على الرحمة والحنان والعطف والشفقة، مما يحمي الصغير، ويدفع هؤلاء الكبار إلى بذل أقصى ما يستطيعون في سبيل راحته وتحقيق سعادته. وجعل في بسمة الطفل أمام أبويه تعويضاً لهما عما وجداه من مشقة وعناء.
فالأم تسهر على ولدها المريض وتحرم نفسها النوم والراحة، وهما ضروريان لاستمرار الحياة، فإذا بزغ الصبح ووجدت معالم الصحة على وليدها زال عنها كل ألم، وفارقها الإحساس بالتعب. ويخرج الأب مجهداً يبذل أقصى ما في وسعه لتدبير كل ما يسعد أولاده وأهله، فإذا عاد من عمله ووجد بسمة السعادة على شفاههم زال عنه كل ما يجد من آلام.
هذه حكمة الله ورحمته. غير أن بعض الآباء يستبد به الحنان حتى يجره إلى ارتكاب المحرمات في سبيل إرضاء ولده، فقد يتجه البعض إلى الغش أو الرشوة أو التعامل بالربا أو بيع المخدرات؛ ليوفر لابنه أسباب سعادته كما يراها هو، فيكون هذا الحنان سبباً لشقاء الأب في الدنيا والآخرة، بل قد يكون سبباً أيضاً لانحراف الولد الذي تغذى من الحرام ونبت لحمه من سحت.
ولهذا حذرنا القرآن الكريم من التمادي في هذا الحب، فيتحول الولد حينذاك إلى عدو لأبيه، وتتحول الزوجة إلى مصدر لسيئاته وذنوبه، فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
ويذكر القرآن أن هذه العاطفة لدى كل البشر حتى إنها عرضت لنوح ـ عليه السلام ـ وهو من أولى العزم من الرسل - ذلك أنه حين جاء الطوفان ونصح ابنه أن يكون معه في سفينته عصاه، واتبع الغاوين في تصوراتهم أن الجبال هي الأضمن للنجاة وأخذ نوح ينادي ابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.
وهنا يدعو نوح ربه ويسأله عن وعده الذي أعطاه له أن ينجيه وأهله فقال: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
كما يذكر القرآن قوة هذا الحب وشدة هذا الحنان عند يعقوب ـ عليه السلام ـ لدرجة أنه جعله يفقد نور عينيه حزناً على فراق ولده يوسف ـ عليه السلام ـ قال تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}.
وهكذا يحذرنا القرآن من أن تؤثر علينا هذه العاطفة فتجرنا إلى معصية الله، أو إلى العدوان على الغير أو إلى التعصب والوقوف إلى جانب الأبناء ولو كانوا مخطئين. لذلك نرى رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول عن ابنته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ: "والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ويذكرنا القرآن دائما بأن الأولاد لن يغنوا عن آبائهم شيئاً من الحساب أمام الله. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.
فليكن التوازن والعدالة هما الميزان الذي يسير عليه الآباء، حنان في غير تعصب، وعطف في غير تدليل، وحب في غير معصية. فتلك هي سياسة الإسلام وفيها النجاة والفوز بإذن الله تعالى.
منقول