الأزواج يختلفون والأبناء يدفعون الثمن!


إحسان عبدالعزيز الدبش


تتنوع درجات الخلاف بين البشر إلى خلافات تبقي على المودة والاحترام بين المختلفين، وخلافات تصل إلى حد البغضاء والعداوات، وما قد ينتج عن ذلك من صراعات تصل إلى حد سفك الدماء وإزهاق الأرواح وتدمير الممتلكات. قال سبحانه وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (البقرة:213)، بيّن الله عز وجل أن من الأهداف الرئيسية لبعث الأنبياء وتنزيل الكتب حل الخلافات بين البشر بكل أنواعها. فهو جل جلاله رب الجميع وعنده الحل لجميع المشكلات. وبيّن سبحانه وتعالى أهمية العدل لحل أي خلاف، وخطورة أن يتحيز الإنسان لغير الحق. قال سبحانه وتعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } (الأنعام 152).
وأعطى للأسرة في القرآن الكريم، بما فيها الخلافات الزوجية، مكانة خاصة في عدة سور. وبيّن، بالتفصيل، كيف يتصرف الزوجان في حال نشوب أي خلاف بينهما. قبل أن يتفاقم ويصل إلى حد الفراق، وأخذ على الزوج «ميثاقا غليظا» (1) لرعاية زوجته. وبيّنت السنة النبوية حق الزوج على زوجته أن تطيعه وتكون ودودة في عشرتها معه. وحث القرآن الكريم على التقوى التي تعتبر القاعدة الأساسية في البناء التربوي للمسلم. وحذر من الظلم الذي قد ينجر إليه الطرفان أو أحدهما. كما أن السيرة النبوية توضح لنا كيف كان رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يتعامل مع زوجاته في حال خلافه معهن، ومن ثم كيف كان رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يعالج الخلاف بين أزواج وزوجات الصحابة رضي الله عنهم.
للخلافات بين الزوجين أثر سلبي قد يصل بينهما إلى حد غير مقبول، والذي لا يقتصر عليهما فقط، وإنما يمتد أثره السيئ إلى الأبناء. هؤلاء الأبناء ينظرون بنظراتهم البريئة إلى صراع الأبوين بدهشة واستغراب وقلق، مستنكرين له بفطرتهم البريئة، وهم لا يدرون ماذا يجري حولهم. فتنعكس تلك الخلافات على نفسياتهم مسببة عقدا نفسية يصعب محوها مستقبلا، مما يؤثر على مستقبلهم. ولا يعلم الأبوان أنهما جناة بحق أبنائهما، بدلا من أن يؤهل هؤلاء الأبناء التأهيل الحسن ليكونوا أناسا صالحين أتقياء، نافعين لأنفسهم ولأبويهم ولأمتهم.
إن تربية الأبناء التربية السليمة في مختلف مراحلهم العمرية، لها أثر كبير في تكوين الشخصية السوية، هذه الشخصية التي يجب أن تبنى على أساس الأفكار الصحيحة، والأخلاق القويمة، النافعة لنفسها، ولأهلها، ولمجتمعها، وأمتها. وأي خلل في الأداء التربوي سيشوه هذه الشخصية، وسينعكس على صاحبها أولا، ثم الوسط المحيط به، القريب والبعيد، ثانيا، بحسب المكانة التي يتبوأها مستقبلا. من أصغر حلقة اجتماعية (قيادة الأسرة) إلى أكبر حلقة (قيادة المجتمع).
فأي تجمع بشري لابد له من رأس يقوده. وفن القيادة ليس أداء إداريا فقط، وإنما أيضا أداء تربوي وأخلاقي ولا يمكن الفصل بينهما، لأن النجاح القيادي يستلزم الخبرة العلمية، والأداء الإداري الناجح، والأداء التربوي والأخلاقي الرفيع.
وقيادة الأسرة في الإسلام يتولاها الأب ثم الأم. كلاهما في موقع المسؤولية عن هذه الأسرة، التي شكلاها بخياريهما. المسؤولية بشكل عام، والمسؤولية التربوية بشكل خاص، والواجبات الملقاة على عاتق الأبوين ليس تأمين الطعام الطيب فقط، وليس اللباس الأنيق فقط، وليس التعليم الجيد إن كانا حريصين عليه فقط، وإنما أيضا التربية الحسنة لأبنائهما. إن ثمار التربية الحسنة يحصدها الأبناء أولا، ثم الآباء والأحفاد، ثم الأقارب، ثم المجتمع، وقد يصل تأثيرها إلى البشرية كافة.
إن المسؤولية الملقاة على عاتق الأبوين في حسن تربيتهما لأبنائهما تتطلب تحصيل العلم التربوي اللازم لتربية الأبناء. وما يحصل عليه الغالبية العظمى من الآباء والأمهات من زاد تربوي حاصل بشكل عفوي، تلقوه إما من أهلهم، وإما من العوامل الأخرى المؤثرة المحيطة بهم، وهذه المصادر يختلط فيها الصحيح بالخاطئ. هذا الزاد التربوي من الآباء والأمهات غير مبني على أساس علمي سليم، بحيث يدرك فيه الأبوان، قبل كل شيء، أنهما قدوة لأبنائهما، وأن عليهما تعديل بعض السلوكيات الخاطئة التي يكونان قد نُشِّئا عليها بشكل عام. ومن ثم فهم كل منهما الآخر، ليعلما كيف يتعامل بعضهما مع بعض. والفهم الجيد لنفسية أطفالهما الذكور والإناث في مختلف المراحل العمرية، والمشاكل التي يتعرضون لها. وبالتالي كيفية التوجيه التربوي اللازم لهم في كل مرحلة من مراح حياتهم. فعلم التربية علم قائم بذاته له أسسه وأركانه وتفاصيله، وكيفية أدائه.
إن الأخطاء التربوية التي يقع فيها الأبوان، والتي تظهر من خلال سلوك شخصي، أو ألفاظ تعبر عن هذا السلوك، أو أن الخطأ التربوي كان من خلال علاقتهما بعضهما مع بعض، والذي يظهر على أشكال مختلفة، كل ذلك ينطبع في نفسية الأبناء، مخيبا آمالهم في عيشهم حياة تنعم بالاستقرار يسودها الحب والوئام والسعادة، مما ينعكس على نفسيتهم بعدم الراحة والاطمئنان. ولا يعلم الأبوان بتصرفهما السيئ هذا أنهما ينسفان كل بناء تربوي سليم يمكن أن يقدماه لأبنائهما. ولو كانا على مستوى من التعلم، وحتى الأخلاق العامة الجيدة، لكن بينهما ليست على المستوى المطلوب.
إن الأب والأم هما بمنزلة المعلمين للأبناء قبل أي مدرسة أخرى. فمواقفهما وآراؤهما يجب أن تكون متناسقة وليست متضادة. فمثلا، لنفترض وجود قاعة يجلس فيها طلاب، وسيحاضر فيهم محاضر ومحاضرة. بدأ كل منهما يلقي المحاضرة المخصصة له، هناك نقاط مشتركة بين المحاضرتين، تناقشا فيها أمام الطلاب، ثم بدآ يختلفان، ثم تصاعد الخلاف بينهما، وتدرج من النظرات الحادة، إلى التلفظ بألفاظ نابية.. أي علم سيتلقاه هؤلاء الطلاب منهما، وأي احترام سينالهما من الطلاب.. سيغادر الطلاب القاعة وهم يقولون لا نريد أن نحترمكما ولا نريد العلم الذي تقدمانه لنا.
إن رد فعل الأبناء لهذا السلوك الخاطئ بين الأبوين، يتفاوت ويتنوع بحسب المرحلة العمرية، ويمكن تقسيمها إلى خمس مراحل:
مرحلة الجنين - مرحلة الرضاعة - مرحلة الروضة - الابتدائي - مرحلة الفتوة (المراهقة).
مرحلة الجنين
إن تأثر الجنين وهو في بطن أمه إما أن يكون سلبيا فيزعجه وقد يمرضه، أو إيجابيا فيسعده ويريحه. فإن كان مما يزعج أثر ذلك على صحته النفسية والجسمية وهو في بطن أمه، وبعد ولادته.
يذكر د. صالح الحويج عن أثر التعصيب على الأم والحامل ما يلي: «إن عصبية الأم لها تأثير مباشر على الجنين، حيث إن الجهاز العصبي في الجنين جزء من الجهاز العصبي عند الأم. كما أن الزوج الغضوب يؤثر على الجنين عندما يكون في رحم الأم وذلك لأن الجنين يتأثر بتأثر الأم» (2).
هذا التوتر والانزعاج «ممكن أن يؤديا إلى حالات غير طبيعية في الجنين وتشوهات كالشرم أو تشقق الشفة والحلق.. وغيرها. وهذه النتائج توصلت إليها د. دوريث هانس من خلال فريق عمل دانمركي أخذ على عاتقه هذه النتائج» (3).
ويذكر د. خالد سعد النجار ما يلي: «الحامل تحتاج أيضا إلى ملاحظة حالتها النفسية. فالتعرض للكثير من المشاكل الأسرية، خصوصا مع شريك العمر، يؤدي إلى إفراز هرمونات معينة تضر بصحتها وتمر إلى الجنين من خلال المشيمة لتؤثر سلبا على تكوينه، وبالتالي تعرض الطفل للقلق والضغط النفسي مستقبلا. هذا ما أكدته د. جانيت ديبيترو (أخصائية النمو) بقولها: «إن الجنين يستجيب للحالة النفسية السلبية للأم التي تؤثر بدورها سلبيا على حالته هو النفسية».
ويؤكد الباحثون أنه إذا تعرض الجنين إلى ضغوط نفسية مستمرة، فالأغلب أنه سيكون طفلا عصبيا، تهدئته صعبة، لا ينام بسهولة، وربما يعاني من نشاط مفرط، وقد يعاني من نوبات مغص. كذلك فإن حركة الجنين تصبح أكثر نشاطا وأقل استقرارا، وكلما زاد الضغط النفسي أصبحت حركة الجنين أقل استقرارا، لأنه بدلا من أن يهنأ بنوم هادئ وآمن، تقوم هرمونات التوتر التي تدخل له من خلال الرحم بإزعاجه».
ويتابع عن النكد الزوجي وعلاقته بالذكاء فيقول: «الذكاء تختلف معدلاته من بيئة إلى أخرى، تماما مثل البذرة التي تغرس في الأرض وتسقى بماء عذب، فإنها تنبت وتعطي حصادا طيبا، بينما بذرة أخرى مشابهة لو غرست في أرض سبخة، وسقيت بمياه ذات ملوحة مرتفعة، فإنها لا تعطي حصادا مشابها. وكذلك الحال بالنسبة إلى عقلية الطفل الذي يوجد مع أبوين متفاهمين يكرسان أوقاتهما لابنهما، ويساعدانه في دراسته بصورة إيجابية، بينما طفل آخر يعيش مع أبوين متشاكسين، وعلى قدر من الرعاية يحتاج إليها طفلهما.. فمن هنا فإن ذكاء الطفل الأول ينمو ويرتفع ويتقدم وتتعدد أبعاده، بينما ذكاء الطفل الثاني يخبو ويتقدم ببطء شديد» (4).
مرحلة الرضاعة
ولاشك أن بانتقاله إلى الوسط الخارجي ستكون هناك بعض المؤثرات الإضافية عليه، لأننا نلاحظ أن الطفل يملك أحاسيس سليمة تجاه تعامله مع الآخر ولو لم يتكلم. فمثلا، إن عبست في وجهه تجده يغير قسمات وجهه، وقد يبدأ بالبكاء، والعكس إذا داعبته يبتسم.
مرحلة الروضة
تأثراته بالوسط المحيط به أكبر من المرحلتين السابقتين. فهذه المرحلة أقرب إلى مرحلة الابتدائي في سنواتها الأولى. وقد لوحظ أن الصراخ الشديد الناجم عن التعصيب يسبب له عاهة في النطق (تأتأة)، نتيجة الرعب الذي يتعرض له من صراخ أبويه وشجارهما معا. وإن استمرار التوتر بشكل مستمر سيصيب الطفل بالخجل والتردد وعدم الإقدام.
مرحلة الابتدائي
أي خلل في تربية الأبوين لأبنائهما سينعكس عليهم صحيا ونفسيا وتربويا وتعليميا واجتماعيا في مرحلة الطفولة وما بعدها. فمن الناحية الصحية والنفسية نتيجة للقلق الذي يعيشه الأبناء من شجار الأبوين، وافتقاد السكينة يصيب الطفل بألم متقطع في الرأس والبطن، بالإضافة إلى التخلف الدراسي والميل إلى العزلة، وقد يتطور إلى الاكتئاب، أو الهرب من البيت في السنتين الأخيرتين من الابتدائي، ليقضي أغلب وقته في الشارع معرضا للفساد الخلقي والتأثر برفاق السوء.
مرحلة المراهقة
شجار الأبوين في هذه المرحلة يظهر عدم الاستجابة لنصائحهما مهما كانت قيمة، أو الهروب من البيت في أقرب فرصة، باحثين عن أصدقاء يعيشون معهم بشكل آمن، ولاشك أن هؤلاء الأصدقاء سيؤثرون على أخلاق ومستقبل هؤلاء الأبناء الهاربين من أسرهم، هروب نفسي ومكاني، ولو كان هذا الهروب هروبا جزئيا يوميا حتى يأتي وقت نوم الأسرة. ويطمئن الابن الهارب أن الجميع قد ناموا، يستيقظ الأب النائم القلق على تأخر ابنه ليستقبله زاجرا له بدرس جديد عن مفاسد التأخر عن البيت حتى آخر الليل، والأم إن استيقظت تسمع ما يجري بين الابن وأبيه متجاهلة ذلك. والابن يهز رأسه من دون أن يجيب أحدهما الآخر. ثم ينصرف الجميع إلى النوم. ولم يدر الأب والأم أنهما السبب في هجر الابن للبيت.
يمكن أن نوجز الأثر السيئ الذي يتركه شجار الأبوين على الأبناء حاضرا ومستقبلا بما يلي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإصابات التي ذكرت في بعض المراحل والمذكورة في الجدول التالي تتفاوت حدتها ونوعيتها بين الأبناء.
الهوامش
1-وقد ورد شرح الميثاق الغليظ في تفسير الطبري: 8/127، ما يلي: عن قتادة قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } (النساء:21). والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد كان في عقد المسلمين عند نكاحهم: «آلله عليك لتمسكنَّ بمعروف أو لتسرحن بإحسان».
2 - المقال بعنوان: نحو طفولة سعيدة: الصحة النفسية للجنين. من موقع المستشار.
3- عن موقع د. غادة حرفوش.
4- المقال بعنوان: النكد الزوجي تدمير لصحة الحامل، عن موقع إسلام ويب.