تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: النحو العربي نشأته ومدارسه وقضاياه.

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي النحو العربي نشأته ومدارسه وقضاياه.

    النحو العربي
    نشأته ومدارسه وقضاياه [1]
    "الملخص":نسعى مِن خلال هذا البحثِ الموجَز إلى تقديم نظرة مُوجَزة حول نشأة علمٍ جليلٍ من العلوم العربية، ألا وهو علم النحو، وواضعه ومدارسه، وأبرز النحاة عبر التاريخ، وأبرز القضايا النَّحوية، وأثناء الخوض في هذا الموضوع تبادرت إلى الذهن أسئلة من قبيل:
    لماذا وُضِع النحو؟
    ومَن واضعه؟
    وما أبرزُ المدارس النَّحْوية؟
    وما أهمُّ القضايا النَّحْوية؟
    والغاية مِن جمع هذه المادة وتصنيفِها بهذا الشكل المبسَّط، هي جعلُ هذه المعلومات والمعارف في متناوَل المتلقِّي البسيط والمتعلِّم، حول نشأة علم النحو العربي، وأرجو أن أكون مُوفَّقًا في اختيار الموضوع وتصنيف محاوره.
    مقدمة:
    كان العربُ يستعمِلون لسانَهم عن سليقةٍ لم يحتاجوا معها أن يُبينوا قواعدَ نظمِه، وبعد مجيء الإسلام ومخالطتِهم الأعاجمَ مالت ألسنتُهم إلى اللحن، والخروج عن أصول الكلام التي ورِثوها عن أسلافهم، فتسرَّب اللحن إلى لسانهم!
    وحرصًا منهم على الحفاظِ على لسانهم المُبِين الذي اختاره الله عز وجل لسانًا للقرآن ووعاءً للرسالة الخاتمة - عمِلوا على وضعِ نحوٍ ينحوه كلُّ دخيل على اللسان ويلتزمه أبناء العربية.
    يقول ابن خلدون في هذاالشأن: "إنَّه لَمَّا فسَدت مَلَكة اللسان العربي في الحركات المُسمَّاة - عند أهل النحو- بالإعراب استنبطت القوانين لحفظها كما قلناه، ثماستمر ذلك الفساد إلى موضوعات الألفاظ،فاستُعم ل كثيرٌ مِن كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميولًا مع هُجْنَة المُستَعرِبين في اصطلاحاتهم المخالِفةِ لصريح العربية، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللُّغوية بالكتابوالتدوين ، خشيةَ الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشعر كثيرٌ مِن أئمةاللسان بذلك وأملوا فيه الدواوين"[2].
    أضِفْ إلى هذا رغبةَ اللغويين في أن يلتحِقَ بهم غيرُ العرب في تعلُّم اللسان العربي؛ ليَسهُلَ عليهم التعامل مع كتاب الله عز وجل تلاوةً وفهمًا ودراسةً، فعكَف العلماء على دراسة أصواتها ومفرداتها ووصف تراكيبها،وأَلَّ فوا في ذلك كتبًا لضبطها وتقعيدها، ووضعوا القواعد التي تصف هذه اللسان وصفًا محكمًاودقيقًا.
    وقد انتهج علماء العربية للقيام بذلك منهجًا متميزًا في البحث اللغوي معتمِدين علىذوقِهم وإعمال العقل ودقة الملاحظة، وكان لهم فضلُ السَّبْق في الوقوف على كثيرٍ مِن الظواهر الصوتيةوالصرفية والنَّحْوية التي أفاد منها المحدثون.
    مفهوم النحو:
    النحو لغةً:
    ترجع معاني النحو في اللغة إلى عدة معانٍ: منها القصد، والتحريف، والجهة، وأصل هذه المعاني هو القصد؛ لأن النحو مأخوذٌ مِن قول أبي الأسود الدُّؤَلي، عندما وضع كتابًا فيه جمل العربية، ثم قال: "... انحوا هذا النحو"؛ أي: اقصدوه، والنحو القصد، فسُمِّي لذلك نحوًا"[3].
    وهذا ما يُسْتَشَفُّ مِن كلام اللغويين؛ يقول ابن فارس: "النون والحاء والواو كلمةٌ تدل على قصد...، ولذلك سُمِّي نحو الكلام؛ لأنه يقصِد أصول الكلام، فيتكلم على حَسَبِ ما كان العرب تتكلم به"[4].
    كما يدل عليه أيضًا كلام ابن منظور في لسان العرب؛ إذ ذهب إلى هذا المعنى بقوله: "والنحو القصد، والطريق...، نحاه ينحوه وينحاه نحوًا، وانتحاه، ونحوُ العربية منه...، وهو في الأصل مصدر شائع؛ أي: نحوت نحوًا؛ كقولك: قصدت قصدًا، ثم خص به انتحاء هذا القبيل من العلم"[5]، وفي المعجم الوسيط: "النحو: القصد، يقال: نحوتُ نحوه: قصدت قصده"[6].
    يظهر مِن خلال هذه التحديدات أن أصل هذه المادة الذي ترجع إليه هو القصد، وأن ما سواه من المعاني تابعٌ، وهناك مَن يذهب إلى أن أصل المادة هو الناحية - أي الجهة - انطلاقًا من مبدأ تقدُّم الأصل الحسي.
    يقول حسن عون: "نرجِّح أن الأصلَ في هذه المادة هو الناحية؛ أي: الجانب مِن الشيء، ثم جاءت المشتقاتُ مِن هذا الأصل...، ومن هذه المادة: نَحَا يَنحُو بمعنى اتَّجه، أو قصد يقصد، والصلة واضحة بين الناحية والفعل"[7].
    وإذا كانتِ العلاقة واضحةً بين المعنيينِ كما يقول، فليس ذلك بمرجَّح، ما دام الوجه الآخر له ما يُسوِّغه، وليس وضوحُ العَلاقة وحدَه كافيًا؛ لأننا سنضرِبُ بكلام اللغويين عُرْضَ الحائطِ، خصوصًا أنهم لم يذهبوا إلى هذا المعنى، ولكنهم أتَوْا به على أنه معنًى ثانٍ، أضِفْ إلى هذا ما ذكره أغلبُ النحاة من أن الأصل في تسمية النحو، هو ما تقدم من كلام أبي الأسود.
    النحو اصطلاحًا:
    إن أقدم تعريفٍ اصطلاحيٍّ للنحو على الأرجح، هو تعريف ابن السراج، الذي يقول فيه:
    "النحو إنما أُرِيد به أن ينحو المتكلِّم إذا تعلَّمه كلامَ العرب، وهو علمٌ استخرجه المتقدِّمون فيه مِن استقراء كلام العرب، حتى وقفوا منه على الغرض الذي قصده المبتدئون بهذه اللغة"[8].
    ويتَّضِح الربط بين المعنى اللُّغوي والاصطلاحي لهذا التعريف، في تصديره له بما يشير إلى المعنى اللغوي الذي هو القصد.
    وعرَّفه ابن جني بقوله:
    "هو انتحاءُ سَمْتِ كلام العرب في تصرُّفه؛ من إعراب وغيره؛ كالتثنية، والجمع، والتحقير، والتكسير، والإضافة، والنَّسب، والتركيب، وغير ذلك، ليلحق مَن ليس مِن أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها وإن لم يكن منهم، وإن شذَّ بعضهم عنها، رُد به إليها"[9].
    ومِن التعريفات التي قُدِّمت للنحو بعد هذين التعريفين، تعريف ابن عصفور الذي حدَّه بأنه:
    "علمٌ مستخرج بالمقاييس المستنبطة مِن استقراء كلام العرب، الموصلة إلى معرفة أجزائه التي ائتَلف منها"[10].
    ثم ابن الناظم الذي أضاف إلى التعريف المتقدم بعض التفاصيل، فقال:
    "العلم بأحكام مستنبطة من استقراء كلام العرب، أعني أحوال الكلم في ذواتها، أو ما يعرض لها بالتركيب لتأدية أصل المعاني من الكيفية بالتقديم والتأخير"[11].
    وعرَّفه ابن يَعِيشَ بقوله:
    "النحْوُ قانونٌ يُتوصَّل به إلى كلام العرب"[12].
    أما الشاطبي، فقد عرَّف النحو مُبينًا العَلاقة بين التعريف اللُّغوي والاصطلاحي، بقوله:
    "وأصل النحو في اللغة القصد، وهو ضد اللحن الذي هو عدولٌ عن القصد والصواب، والنحو قصد إليه، وفي الاصطلاح علمٌ بالأحوال والأشكال التي بها تدلُّ ألفاظ العرب على المعاني، أو أنه علمٌ بالمقاييس المستنبطة مِن استقراء كلام العرب"[13].
    والملاحظُ أن هذه التعريفات كلِّها لم تقدم تعريفًا دقيقًا شاملًا للنحو على وجه الخصوص، مما جعَلها توصف بأنها غير كاملة:
    فقد اعتُرِض على الأول بأنه لم يحُدَّ النحو، وإنما بيَّن مصادره والغاية التي مِن أجلها وُضِع.
    كما اعتُرِض على الثاني بأن النحو ليس هو انتحاءَ سَمْت كلام العرب، وإنما ذلك الغاية منه[14].
    أما التعريفات الأخرى فقد مزج أصحابُها بين مفهومَي الصرف والنحو.
    وأول تعريف للنحو بمعناه الخاص هو ما حدَّه به خالد الأزهري؛ حيث قال: "علمٌ بأصولٍ تُعرَف بها أحوال أواخر الكلم إعرابًا وبِناءً"[15].
    ويعترض السيد علي حسن مطر على هذا التعريف، بأنه وإن كان أخرج التصريف، فإنه لا ينطبق على النحو كما هو موجود في الكتب؛ إذ فيه بعض المباحث التي لا تعلُّق لها بأحوال الكلام بناءً وإعرابًا، مُقدِّمًا تعريفًا - ويرى أن الأولى بأن يكون تعريفًا للنحو بمعناه الخاص - هو الآتي: "العلم الباحث عن أحكام الكلمة المركَّبة"[16].
    نشأة علم النحو وواضعه:
    يُعرَف علم النحو بأنه علم بأصول تُعرفُ بها أحوال الكلمات العربية؛ من حيث الإعرابُ، والبناءُ؛ أي: مِن حيث ما يعرِضُ لها في حالِ تركيبِها، فبه نعرِفُ ما يجبُ أن يكونَ عليه آخرُ الكلمةِ من رفع، أو نصب، أو جرٍّ، أو جزم، أو لزوم حالة واحدة بعد انتظامها في الجملة؛ فهو يراقِبُ الوظيفة التي تشغَلُها الكلمة في التركيب: أهيَ فاعل، أم مفعول، أم مبتدأ، أم خبر…، فالعنصرُ النَّحْويُّ يُساعِد على فَهْم وظيفة كلِّ كلمة في التركيب؛ لأنه يهتمُّ بدراسة العَلاقات المُطَّرِدة بين الكلمات في الجملة والوصول إلى معناها ودلالتها[17].
    و"النحو نظامٌ من المعاني والعَلاقات التي تتحكم في معنى الجملة العربية"[18].
    وإذا ما استطاع الدارس أن يُحلِّلَ الجملةَ، وأن يفهمَ مُكوِّناتها، فإنه يأمَن اللبس، والإعرابُ في اللغة العربية يقوم بدورٍ رئيس في تحديد الوظائف النَّحْوية للكلمات، مِن خلال حركاته التي تُفرِّق بين كلمة وأخرى بالاشتراك مع العنصر الصرفي الذي يُميِّز الاسمَ من الفعل والحرف، اقرَأ الآية الكريمةَ الآتيةَ: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3]، فهذه الآية - كما ذكرنا - أخطأ في قراءتِها كثيرون، ولعلَّ خطأهم كان ناتجًا عن عدم فهم التركيب، وعدم القدرة على فهم الوظائف النَّحْوية للكلمات، وقد أخطأ بعضُ العرب قديمًا في ضبطها فعطفوا (رسوله) على المشركين، فكان المعنى أن الله بريءٌ مِن المشركين ومن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا! وهذا لم يردْهُ الله تعالى ولن يريده.
    لهذا يمكن القولُ: إن ظهورَ النحو كان بباعثٍ ديني، يتجلى في حرص المسلمين على قراءة القرآن الكريم قراءةً سليمة وفَهْم دَلالته، وخاصةً بعد فُشُوِّ اللحن الذي أخذ في الظهور منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كما أشرنا، غير أن اللحنَ كان نادرًا في صدر الإسلام، وكلما تقدَّمنا منحدرين اتَّسع شُيُوع اللحن في الألسن، خاصةً بعد تعريب غيرِ العرب…، وكل ذلك وغيره جعل الحاجةَ ماسةً إلى وضع تقعيد يُعرَف به الصواب مِن الخطأ في الكلامِ خشيةَ دخول اللحن وشيوعه في تلاوة آيات الذِّكر الحكيم، هذا دفع إلى التفكيرِ في وضع النحو وتقرير قواعد تنتظم في قوانين قياسية من استقراء دقيق للعبارات والتراكيب الفصيحة وأوضاعها الإعرابية.
    وقد اختلفت الآراء فيمَن نُسِبت إليهم الخطوات الأولى في وضع النحو العربي:
    يقول السِّيرافي: اختلف الناس في أولِ مَن رسم النحو، فقال قائلون: أبو الأسود الدؤلي، وقيل: هو نصر بن عاصم، وقيل: بل هو عبدالرحمن بن هرمز، وأكثر الناس على أنه أبو الأسود الدؤلي.
    وتضطرب الروايات في السبب المباشرِ الذي جعل أبا الأسود يُؤلِّف في النحو لأول مرة، فمِن قائل: إنه سمع قارئًا يقرأ الآية الكريمة: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3]،بكسر اللامِ في رسوله، فقال: ما ظننتُ أمرَ الناس يصل إلى هذا، واستأذن زياد بن أبيه والي البصرة (45 - 53 هـ).
    وقيل: بل استأذن ابنَه عُبَيدالله واليَها مِن بعده (55 - 64هـ)، في أن يضع للناس رسم العربية.
    وقيل: بل وفد على زياد، فقال له: إني أرى العرب قد خالطَتِ الأعاجم وتغيَّرت ألسنتهم، أفتأذَن لي أن أضع للعرب كلامًا يعرفون به كلامهم.
    وقيل: بل إن رجلًا لحن أمام زياد أو أمام ابنِه عُبيدالله، فطلب زياد أو ابنه منه أن يرسم للناس العربية.
    وقيل: إنه رسمها حين سمع ابنتَه تقول: "ما أحسنُ السماءِ"، وهي لا تريد الاستفهام، وإنما تريد التعجب، فقال لها قولي: "ما أحسنَ السماءَ".
    وفي رواية أنه شكا فسادَ لسانِها لعليِّ بن أبي طالب، فوضع له بعض أبوابِ النحو، وقال له: انحُ هذا النحو، ومِن أجل ذلك سُمِّي العلم باسم النحو.
    وقد أشرك بعضُ الرواة معه في هذا الصنيع تلميذيه نصر بن عاصم وابن هرمز؛ إذ يقول الزَّبِيدي: "أولُ مَن أصَّل النحو وأعمل فكرَه فيه أبو الأسود ظالِمُ بنُ عمرٍو الدؤلي، ونصر بن عاصم، وعبدالرحمن بن هرمز؛ فوضعوا للنحو أبوابًا وأصَّلوا له أصولًا، فذكروا عوامل الرفع والنصب والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل والمفعول والتعجب والمضاف"[19].
    وذهب بعض الدارسين - منهم شوقي ضيف[20] - إلى أن هذا مِن عبث الرواة الذين ظنوا أنه وضع النحو، وهو إنما رسم إعراب القرآن الكريم عن طريق نَقْط أواخر الكلمات فيه، وحَمَلَ هذا الصنيع عن أبي الأسود تلاميذُه مِن قراء الذكر الحكيم، وفي مقدمتِهم نصرُ بنُ عاصم وعبدالرحمن بن هرمز، ويحيى ين يعمر، وعنبسة الفيل، وميمون الأقرن، فكل هؤلاءِ "نقطوا المصحف وأُخذ عنهم النقطُ، وحُفظ وضُبط وقُيِّد وعُمل به، واتُّبِع فيه سُنتهم، واقتُدي فيه بمذاهبهم"[21].
    وأضافوا إلى ذلك عملًا جليلًا أحاطوا به لفظَ القرآن الكريم بسياجٍ يمنَعُ اللحن فيه، مما جعل بعض القدماء يظنُّ أنهم وضعوا قواعد الإعراب أو أطرافًا منها، وهم إنما رسَموا في دقةٍ نقطَ الإعراب لا قواعدَه، كما رسموا نقط الحروف المعجمة مِن مثل الباء التاء والثاء والنون.
    وعلى الرغم من هذا التردُّد بين الرواة والمؤرِّخين في الحَسْم في واضع هذا العلم، فإن المتفق عليه بينهم أن مرحلةَ الوضع والتكوين كانت للمدرسة البصرية، ولم تظهَر المدرسة الكوفية إلا في طور النُّشوء والنمو، لينضجَ العلم ويستوي على سُوقه في ظلِّ النقاشات بين المدرستين "البصرية والكوفية"، ليعرفَ العلم تطورًا مهمًّا في طورِ الترجيح والبسط في التصنيف، بظهور مجموعةٍ مِن المدارس؛ كالبغدادية، والأندلسية، والمِصرية، والشامية، ويصعب الفصلُ بين هذه الأطوار تاريخيًّا؛ لأنها متداخلة، ولا يتأتَّى إلا بتحديد طبقات الرواد مرتبةً[22]:
    فمن رواد المدرسة البصرية نجد ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر الثقفي، وأبا عمر بن العلاء، ويونس بن حبيب، والخليل بن أحمد، وسيبويه، والأخفش وتلاميذه، والمبرد وأصحابه.
    وأما رواد مدرسة الكوفية؛ فمنهم: الكسائي، وتلاميذه، وهشام بن معاوية الضرير، والفراء، وثعلب، وأصحابه.
    وأما رواد المدرسة البغدادية؛ فمنهم: ابن كيسان، والزجاجي، وأبي علي الفارسي، وابن جني.
    أما في الأندلس، فقد برز أبو مضاء القرطبي، وابن عصفور، وابن مالك.
    أما المدرسة المصرية، فمن روادها: ابن الحاجب، وابن هشام[23].
    ولعلَّ الداعي إلى ظهور هذه المدارس هو تعدُّد الاجتهادات والأدلة في القضايا النَّحْوية، وما سمي بالتعليل النحوي.
    المدارس النحوية:
    1- المدرسة البصرية: لقد تَشدَّدت المدرسةُ البصرية تشدُّدًا كبيرًا في رواية الأشعار والأمثال والخُطب، واشترطوا في الشواهد المعتَمَدة لوضع القواعد أن تكون جاريةً على ألسنة العرب، وكثيرةَ الاستعمال في كلامهم؛ بحيث تُمثِّل اللغة الفصحى خيرَ تمثيلٍ، وحينما يواجهون بعض النصوص التي تخالف قواعدهم، كانوا يرمونها بالشذوذ أو يتأوَّلونها حتى تنطبق عليها قواعدهم، ومِن بين أبرز نُحاتها:
    الطبقة الأولى:
    أبو الأسود الدؤلي (ت 69 هـ)،نصر بن عاصم الليثي (ت 89 هـ)،عبدالرحمن بن هرمز (ت 117 هـ)،عبدالله بن إسحاق الحضرمي (ت 117 هـ)، يحيى بن يعمر العدواني (ت 129 هـ)، عيسى بن عمر الثقفي (ت 149 هـ)،الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170 هـ).
    الطبقة الثانية:
    الأخفش الأكبر (أبو الخطاب عبدالحميد بن عبدالمجيد) (ت 177 هـ)،يونس بن حبيب البصري (ت 182 هـ)،سيبويه (ت 180هـ)، يحيى بن المبارك اليزيدي (ت 202 هـ)، الأخفش الأوسط (أبو الحسن سعيد بن مسعدة) (ت 215هـ)، المُبرِّد (285 هـ)، أبو الفضل الرياشي (ت 257 هـ)، أبو حاتم السجستاني (ت 250 هـ)، أبو عثمان المازني (ت 249 هـ)، أبو محمد عبدالله التوزي (ت 238 هـ)، أبو عمر الجرمي ( ت225 هـ)، قُطْرُب (ت 206 هـ).
    2- المدرسة الكوفية: اتسع أقطاب المدرسة الكوفية في الرواية عن جميع العرب بدوًا وحضرًا، واعتدُّوا بأقوال وأشعار المتحضِّرين من العرب ممن سكنوا حواضر العراق، واعتمدوا الأشعار والأقوال الشاذة التي سمِعوها مِن الفصحاء العرب، ووصَفها البصريون بالشذوذ، ومن أبرز روادها:
    الطبقة الأولى:
    أبو جعفر الرُّؤَاسي، معاذ بن مسلم الهَرَّاء (ت 187 هـ)، محمد بن عبدالرحمن بن محيض (ت 123 هـ)، عاصم بن أبي النجود (ت 127 هـ)، العلاء بن سيابة شيخ معاذ الهَرَّاء، زهير الفرقبي (ت 156 هـ)، حمران بن أعين الطائي المقري النحوي، سعد بن شداد الكوفي.
    الطبقة الثانية:
    أبو العباس أحمد المعروف بـ(ثعلب) (ت 291 هـ)، أبو جعفر محمد بن عبدالله بن قادم (ت 251 هـ)، أبو عبدالله محمد الطوال (ت 243 هـ)، ابن سعدان أبو جعفر الضرير (ت 231 هـ)، أبو الحسن علي بن المبارك اللحياني (ت 220 هـ)، أبو زكريا يحيى الفرَّاء (ت 207 هـ)، أبو الحسن علي بن الحسن الأحمر (ت 194 هـ)، الكسائي (أبو الحسن علي بن حمزة) (ت 189 هـ).
    3- المدرسة البغدادية: يرى الدكتور مهدي المخزومي أن المدرسة البغدادية نشأت في الوقت الذي كان الصراع فيه قائمًا بين المبرد وثعلب، وقال: إن طبقةً مِن الدارسين أخذت عن شيوخ المدرستين فعرَفوا المنهجين، واستفادوا من الفئتينِ، ثم قرَّر أن المذهب البغدادي ليس إلا مذهبًا انتخابيًّا، فيه الخصائص المنهجية للمدرستين جميعًا، ومن أبرز نحاة هذه المدرسة نذكر:
    كمال الدين بن الأنباري (ت 577 هـ)، أبو محمد سعيد بن الدهان (ت 569 هـ)، أبو محمد عبدالله بن الخشاب (ت 567 هـ)، هبة الله بن علي بن الشَّجِري (ت 542 هـ)، محمود بن جار الله الزمخشري (ت 538 هـ)، علي بن عيسى الربعي (ت 420 هـ).
    4- المدرسة الأندلسية: لعل مِن أوائل المعاصرين الذين تحدَّثوا عن وجود مدرسة أندلسية في النحوِ الأستاذُ الدكتور شوقي ضيف، وذلك في كتابه المعروف "المدارس النحوية"، يقول الدكتور شوقي ضيف: "وأولُ نحاة الأندلس بالمعنى الدقيق لكلمة نحوي؛ جودي بن عثمان الموروري، الذي رحل إلى المشرق وتتلمذ للكسائي والفراء، وهو أول مَن أدخل إلى موطنه كتب الكوفيين، وأول مَن صنف به في النحو، وما زال يدرسه لطلابه حتى توفي (سنة 198 هـ)"[24].
    الطبقة الأولى:
    أبو علي القالي (ت 356 هـ)، محمد بن يحيى الرياحي (ت 358 هـ)، أحمد بن يوسف بن حجاج (ت 336 هـ)، الأفشنيق محمد بن موسى (ت 308 هـ)، محمد بن عبدالسلام الخشني (ت 286 هـ)، جابر بن غيث (ت 299 هـ)، عبدالملك بن حبيب السلمي (ت 238 هـ)، جودي بن عثمان (ت 198 هـ).
    الطبقة الثانية:
    وأبرز رجالات هذه الطبقة، نجد: أبو حيان محمد بن يوسف (ت 745 هـ)، ابن مضاء القرطبي (ت 592 هـ)، ابن سِيدَه (ت 448 هـ)، هارون بن موسى القرطبي (ت 410 هـ).
    5- المدرسة المصرية: تشمل هذه المدرسة الدراسات النَّحوية في مصر والشام، وقد نشأت هذه المدرسةُ بعد أن زالت دُوَيلات العرب في الأندلس، واستولى الفرنجة على غرناطة، ورحل السكانُ العرب مِن هناك إلى مصر والشام والمغرب والجزائر وتونس، فأصبحت مصر والشام ملجأً للعلماء، ومِن بين أبرز نُحاة هذه المدرسة:
    الطبقة الأولى:
    أبو جعفر النحَّاس (ت 338 هـ)، علي بن الحسن بن عسلان (ت 337 هـ)، أبو زهرة بن فزارة النَّحوي (ت 282 هـ)، محمد بن الوليد بن ولاد التميمي (ت 289 هـ)، أبو بكر بن المزرع (ت 303 هـ)، أبو علي الدينوري (ت 289 هـ)، أبو الحسن الأعز (ت 227 هـ)، ابن ولاد المصري.
    الطبقة الثانية:
    علي بن عبدالصمد، المعروف بابن الرماح (ت 633 هـ)، سليمان بن بنين الرقيقي (ت 614 هـ)، علي بن جعفر المعروف بابن القطاع (ت 515 هـ)، طاهر بن أحمد بن بابشاذ (ت 499)، علي بن إبراهيم الحوفي (ت 430 هـ)، أبو بكر الإدفوي (ت 388 هـ).
    الطبقة الثالثة:
    جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ)، محمد بن سليمان الرومي المعروف بالكافيجي (ت 879 هـ)، محمد بن أبي بكر الإسكندري (ت 837 هـ)، محمد عبدالرحمن المعروف بابن الصائغ (ت 776 هـ)، ابن هشام الأنصاري (ت 761 هـ)، ابن الحاجب (ت 646 هـ).
    القضايا النحوية:
    الظاهرة النحوية:
    إذا وقفنا مع تعريفات النحاة للنحو، وجدنا أن أبرز حدٍّ للنحو يرجع إليه الدرس العربيُّ، هو حدُّ ابن جني الذي يُقرِّر فيه أن النحو هو "انتحاء سَمْت كلامِ العرب في تصرفه من إعراب وغيره؛ كالتثنية، والجمع، والتحقير، والتكسير، والإضافة، والنسب، والتركيب، وغير ذلك؛ ليلحق مَن ليس مِن أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها وإن لم يكن منهم، وإن شذَّ بعضهم عنها رُدَّ به إليها"[25].
    ولا يخفى في الحقيقة أن التعريف يقفُ مع شُمولِ النحو لمجموع جهاتِ العربية؛ فالنحو موافقةُ سِمات العربية المختلفة، وهو ما يُعبِّر عنه بقوله: "انتحاء سَمْت كلامِ العرب في تصرُّفه من إعراب وغيره؛ كالتثنية، والجمع، والتحقير، والتكسير، والإضافة، والنسب، والتركيب، وغير ذلك".
    ويتأكَّد عدمُ اقتصار الأمر عند ابن جني في ضبطِه للنحو على سِمَة الإعراب بانتقاله من سمة الإعراب إلى سمات العربية الأخرى؛ كالعدد والتصغير... إلخ.
    ويمكن أن نأنَس إلى عدم اقتصار النحو على ظاهرةِ الإعراب مِن تسمية علماء العربية له بالعربية وبعلم العربية؛ أي: إنهم إذا أطلقوا على النحو مصطلحَ الإعراب لبروز الإعراب بوصفِه خصيصةً لفظية للتركيب النَّحْوي، تعكس بشكل أساسي عَلاقات التركيب - فإنهم أيضًا قد أطلقوا عليه مصطلحَي العربية وعلم العربية مِن جهة بروزه وأهميته بالنسبة لفروع الدرس اللُّغَوي الأخرى.
    إن مراعاة مقابلةِ النحو بالإعراب وبالعربية أخرى، تدعوننا لأن نُعِيدَ تقييم مفهوم النحو في تراثنا، فليست مرادفةُ النحو للإعراب أكثرَ مِن بيان أبرز جوانبه وأخصها، كما أن مرادفةَ النحو للعربية ليست أكثرَ مِن بيان قيمة النحو بين علوم العربية، ويمكن أن تُخفَّف مرادفة النحو بالعربية مِن مرادفة النحو بالإعراب؛ فالحقيقة أنه إذا كان وقوع مصطلح الإعراب على علم النحو يشي باقتصارِ النحو في تصوُّرنا التراثي على ظاهرةِ الإعراب بشكلٍ خاصٍّ، فإن مصطلح العربية يُعِيد الأمر إلى نصابه؛ إذ يقال للنحو علم العربية لأهميته في ذاته ولأهميته لغيره من بقية علوم العربية.
    ولا ينبغي بِناءً على ذلك أن نركَنَ إلى وُرودِ مصطلح الإعراب علمًا على النحو كله؛ لأن الأمر يعكس التصور التراثي للظاهرة النَّحوية.
    إننا إذا تجاوزنا ضبطَ النحاة لعلمِ النحو ومصطلحه، ووقفنا مع المادة النَّحْوية التي يُقدِّمونَها وما يُعالِجُونَه في النحو - ظهر عدمُ إغفالِ النحاة لأي جانبٍ مِن جوانب اللغة، وأنهم لم يترُكُوا سِمَةً مِن سمات العربية إعرابًا وترتيبًا وتعيينًا ومطابقًة، إلا وأَوْلَوها عنايتَهم وأتمُّوا ضبطها دون تقصير، بل إننا إذا راجعنا موقفَ النحاة من الظاهرة النحوية في ضوء معالجتهم لها، وجدنا أنهم لم يدركوا وظيفةَ العلامة الإعرابية فحسب، بل أدركوا أيضًا كلَّ السمات اللُّغوية وغير اللُّغوية التي تقوم مِن خلالها عملية التواصل اللُّغوي.
    لقد قرَّروا أن سمات الرتبة والعدد والمعنى والإشارة والحال، تسُدُّ في بيان المعنى النحوي مَسَدَّ الإعراب إذا ما غاب، وتُغني غَنَاءَه؛ يقول ابن جني: "باب القول على الإعراب هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ألا ترى أنك إذا سمِعتَ: أكرم سعيدٌ أباه، وشكر سعيدًا أبوه، علمت برفع أحدهما ونصب الآخرِ الفاعلَ مِن المفعول، ولو كان الكلامُ شرجًا واحدًا لاستبهم أحدهما مِن صاحبه‏، فإن قلتَ‏:‏ فقد تقولُ: ضرب يحيى بُشْرى، فلا تجد هناك إعرابًا فاصلًا، وكذلك نحوه، قيل‏:‏ إذا اتفق ما هذه سبيله، مما يخفى في اللفظ حاله، أُلزم الكلام مِن تقديم الفاعل وتأخير المفعول ما يقوم مقام بيان الإعراب، فإن كانت هناك دلالةٌ أخرى مِن قِبَل المعنى وقع التصرف فيه بالتقديم والتأخير؛ نحو: أكل يحيى كُمَّثْرَى‏،‏ لك أن تُقدِّم وأن تُؤخِّر كيف شئت، وكذلك ضربَتْ هذا هذه، وكلَّم هذه هذا، وكذلك إن وضح الغرض بالتثينة أو الجمع، جاز لك التصرف؛ نحو قولك: أكرم اليَحْيَيانِ البُشْرَيَيْنِ، وضرب البُشْرَييْنَ اليَحْيَوْنَ، وكذلك لو أومأتَ إلى رجل وفَرسٍ، فقلت‏:‏ كلم هذا هذا، فلم يُجبه، لجعلت الفاعل والمفعول أيهما شئت؛ لأن في الحال بيانًا لِما تعني،‏ وكذلك قولك: ولدت هذه هذه؛ من حيث كانَتْ حال الأم من البنت معروفةً غيرَ منكورة"[26]‏.‏
    تصنيف الكلم:
    تعتبر الكلمات جزءًا مِن النظرية النَّحْوية، وقد دار حولَها جدلٌ كبير في التراث النَّحْوي العربي، ولا سيما المسائل المتعلِّقة بتصنيفها؛ إذ المشكلةُ ليست في الوحدات نفسِها التي تُشبِه المعاني المطروحة في الطريق يعرِفُها العربي والعَجَمي، وإنما في نظامِ تصنيفها الذي خالف فيه كثيرٌ مِن اللُّغويين المعاصرين نُحاتَنا القدامى خلافًا بعيدًا، فنحاتنا القدامى لم يقدموا تقسيمًا وحيدًا للكلمة، وإنما قدموا اثنينِ، جاء كل واحد منهما بحسَب الغرض منه، فقد قدَّموا تصنيفًا عامًّا يضمُّ الأقسام الرئيسية دون فروعها، وآخرَ تفصيليًّا ذكروا فيه ما لكلِّ قسم مِن أقسام الكلمة الرئيسة مِن أقسام فرعية؛ كأقسام الاسم الفرعية التي تتمثل في الضمير والصفة والظرف، ومبدأ التصنيف هو ضابطٌ أساسي في الفكر النحوي العربي.
    العلاقات النحوية أو العمل (نظام التعليق):
    ويتصل هذا النظام بجهةِ العلاقة النحوية وعناصرها، وهي العلاقة التي يتحقَّق بها التركيب؛ فلا تركيب بلا علاقاتٍ بين مفرداته، وقد أخذ النظام اسمًا ناله مِن النقد ما لم يَنَلْ غيره، وهو اسم العمل.
    ويمكن أن نعتمد التعليق الذي قال به بعض رُوادنا اللُّغويين[27]؛ لأن العمل ليس إلا اقتضاءَ بعض الكلمات لبعض؛ مما يجعل منها تركيبًا لا مجرَّد مفردات متتابعة، ومِن ثَمَّ فإنه يقضي على العمل النَّحْوي والعوامل النَّحْوية؛ إذ يتمُّ التعليق في ضوءِ ما بينها مِن اقتضاء تحكمه تفصيلات العمل.
    ولا نريد أن نقف مع تفصيلات العمل، وإنما نريدُ الإشارة إلى أن هذا النظام انبنَى عليه الفكر اللُّغوي العربي في مجال التأليف النَّحْوي.
    الحذف:
    لا يخفى أن الحذفَ يرِدُ في طرفٍ مِن طرفي العَلاقة أو فيهما معًا؛ مما يعني أنه يعكِسُ استثناءً على نظام العَلاقة النحوية يتمثَّل في تخلُّف طرف مِن طرفَي العَلاقة النَّحْوية.
    الزيادة:
    تَحسبُ الزيادة مراعاةً لطرفَي العَلاقة؛ أي: تحسب تبعًا لاستيفاء العَلاقة لطرفَيها، الأمر الذي يعكس استثناءً على نظام العلاقة النحوية يتمثَّل في وجود عنصر لا يرتبط بغيره كما في حالة حرف الجر الزائد.
    التنازع:
    يقوم التنازع بسبب من العلاقات النحوية، كما هو مقرر أيضًا، وهو مِن ثَمَّ يعكس استثناءً على نظام العَلاقة النحوية يتمثل في وجود عاملينِ يقتضي كل واحد معمولًا خاصًّا به مع وجود أحدهما دون الآخر.
    الاشتغال:
    يقوم الاشتغال أيضًا بسبب من العلاقات النحوية؛ كما قرَّره النحاة، ويتمثل في وجود معمولٍ واحدٍ مع معمولين مِن جنس واحدٍ على الرغم مِن أن العامل لا يتطلَّب إلا واحدًا منه.
    التضمين:
    يعكس نظامُ التضمين استثناءً على نظام العَلاقة النحوية؛ إذ يَرِدُ مفعول به بعد فعلٍ لا يرتبط بمنصوب على جهة المفعولية؛ يقول ابن هشام في سبعةِ الأمور التي يتعدَّى بها الفعل اللازم، ويأتي بعده مفعولٌ به على الرغم من لزومه: "السادس التضمين، فلذلك عُدِّي: (رَحُبَ وطَلَع) إلى مفعول لَمَّا تضمَّنَا معنى (وَسِع وبلَغَ)، وقالوا: فَرِقْتُ زيدًا، وسَفِهَ نفْسَهُ، لتضمُّنها معنى خاف وامتهن أو أهلك، ويختص التضمين عن غيره من المُعدِّيات بأنه قد ينقل الفعل إلى أكثر من درجة، ولذلك عُدِّي ألوتُ - بقصر الهمزة بمعنى قصرت - إلى مفعولين بعدما كان قاصرًا، وذلك في قولهم: لا آلوك نصحًا، ولا آلوك جهدًا، لما ضمِّن معنى لا أمنعك، ومنه قوله تعالى: ﴿ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ﴾ [آل عمران: 118]، وعُدِّي أخبر وحدث وأنبأ ونبأ إلى ثلاثة لِما ضُمِّنت معنى أعلم وأرى بعدما كانت متعدية إلى واحد بنفسها وإلى آخر بالجار؛ نحو: ﴿ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾ [البقرة: 33]، ﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 143]"[28].
    النظرية العاملية:
    لقد اشتَهَر عن التراث اللُّغوي العربي أنه فيما يتصل بالنحو قد أخذ بمفهوم العامل في تحليله للتركيب النَّحوي، فجعله النظامَ الحاكم للتركيب النَّحوي، يحدِّد به وحدات الجملة، ويُبيِّن العَلاقات القائمة بين هذه الوحدات التي تجعلُ بعضَ التراكيب سلاسلَ لُغَوية صحيحة، وبعضها الآخر سلاسلَ لُغَوية غير صحيحة.
    وقد استحكمت هذه النظريةُ أصول النحو وأبوابه وتقسيماته منذ نشأته، وإن كانت في بدايتها يسيرةً غيرَ مكتملة ولا منتظمة الملامح؛ إذ ذكر سيبويه في مقدمة كتابه ما يدل على أنه يأخذ بهذه النظرية، بل يوجه الكثير مِن الأبواب النحوية بموجبها، قال: "هذا باب مجاري أواخرِ الكلم من العربية، وهي تجري لي ثمانية مجارٍ: على النصب، والجر، والرفع، والجزم، والفتح، والضم، والكسر، والوقف...، وإنما ذكرتُ لك ثمانية مجارٍ، لا فرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة؛ لما يحدث فيه العامل - وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه - وبين ما يبنى عليه الحرف بناءً لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه خرف الإعراب"[29].
    ولكل عاملٍ مِن العوامل حركةٌ مِن حركات الإعراب في حرفِ الإعراب وهو الحرف الأخير من الكلمة المُعرَبة.
    إن سيبويهِ كان يُدرِك بجلاءٍ حقيقةَ الفرق بين الدرسِ اللُّغوي وطبيعةِ الدراسات الكلامية والمنطقية والفلسفية، التي كان للعاملِ فيها فهمٌ مُغاير لفهم النحاة؛ لذا حاول أن يجد تفسيرًا للعامل يكون قريبًا مِن رُوح اللغة وطبيعة الناطقين بها، بعيدًا عن كل تأثير خارجي.
    لقد شكَّل اندفاع النحاة إلى الاستفادة مِن الفلسفة والمنطق اليونانيينِ عاملًا مهمًّا في تأثر النحو بالفلسفة، فانتهت دراسة العامل إلى أن يُضفى عليها صفة العلة الفلسفية، ومن هنا انتهت دراسة النحو إلى ما انتهت إليه مِن جدب وجمود.
    والعوامل عند النحاة - ولا سيما الفريقين المعروفين الكوفة والبصرة - لفظيةٌ ومعنوية:
    ومن المعلوم أن أغلبَ النحاة ذهبوا إلى قوةِ العامل اللفظي مقارنةً بنظيره المعنوي، فالعامل اللفظي هو ما كان للسان فيه حظٌّ، بمعنى أنه يُنطَق ويُكتَب، كالفعل ذهب في قولنا: ذهب زيد، فالذي أعمل الرفع في الفاعل زيد هو الفعل قبله، وهو أيضًا الألفاظ المؤثِّرة فيما بعدها، وهو الأصلُ في الإعمال، فالفعل يعمل الرفعَ في الفاعل، أما نصبه للمفعول، فهو محل خلاف، ومنه كذلك كان وأخواتها، وإن وأخواتها، وظننت وأخواتها، وحروف الجر والنصب والجزم، وبتفصيلٍ أكثر مثلًا إذا أخذنا حرف الجر، فهو عامل يجعل الاسم المجرور مجرورًا، بمعنى أنه إن لم يُوجَد هذا الحرفُ لم يوجد الجرُّ.
    والعوامل اللفظية عند الفريقين - الكوفيين والبصريين - ثلاثةُ أنواع: أسماء، وأفعال، وحروف.
    أما العامل المعنوي، فهو الذي يُدرَك بالعقل دون أن يُلفظ به، وتقع علامته الإعرابية، ولكنه لا يوجد في الكلام ولا يكتب، وإنما قالوا: عاملٌ معنوي؛ لأنهم لم يجدوا شيئًا يُعلِّل علامته الإعرابية.

    فهرس المصادر والمراجع:
    ♦ ابن الحاجب، أبو عمرو، عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، دون تاريخ، الإيضاح في شرح المفصل، تحقيق وتقديم: د. موسى بناي العليلي، دون ذكر للطبعة، مطبعة دار الغاني، بغداد، العراق.
    ♦ ابن السراج، أبو بكر، محمد بن السري بن سهل، 1405 هـ، الأصول في النحو، تحقيق: د. عبدالحسين الفتلي، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى.
    ♦ ابن جني، أبو الفتح، عثمان، دون تاريخ، الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، دون ذكر للطبعة، المكتبة العلمية.
    ♦ ابن خلدون،دون تاريخ، المقدمة، تحقيق: علي عبدالواحد وافي، ط3، القاهرة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، ج3.
    ♦ ابن فارس، أحمد بن فارس، بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين، 1979م، مقاييس اللغة، تحقيق: عبدالسلام محمد هارون، دون ذكر للطبعة، دار الفكر.
    ♦ ابن منظور، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين، 1414 هـ، لسان العرب، الطبعة الثالثة، دار صادر، بيروت، لبنان.
    ♦ ابن هشام، عبدالله بن يوسف بن أحمد بن عبدالله بن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، 1985م، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق: د. مازن المبارك، ومحمد علي حمد الله، دار الفكر، الطبعة السادسة، دمشق، سوريا.
    ♦ ابن يعيش (ت 643 هـ)، أبو البقاء، يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا، موفق الدين الأسدي، 2001م، شرح المفصل، تحقيق: د. إميل يعقوب، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
    ♦ أبو الطيب اللغوي، عبدالواحد بن علي، دون تاريخ، طبقات النحويين واللغويين؛ تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية دون ذكر لدار الطبع.
    ♦ أبو المكارم، علي، 2005م، تقويم الفكر النحوي، دار غريب، القاهرة، مصر.
    ♦ الأزهري، خالد بن عبدالله بن أبي بكر بن محمد الجرجاوي، 2000م، شرح التصريح على التوضيح، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
    ♦ الجمحي، محمد بن سلَّام بن عُبَيدالله، دون تاريخ، طبقات فحول الشعراء، قرأَه وشرحه: أبو فهر محمود شاكر، دون ذكر للطبعة، دار المدني.
    ♦ الخضري، محمد، بن عفيفي، الباجوري، دون تاريخ، حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، دون ذكر للطبعة، دار الفكر.
    ♦ الخوارزمي، محمد بن أحمد بن يوسف، أبو عبدالله، 1989م، مفاتيح العلوم، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الطبعة الثانية، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
    ♦ الدقيقي، سليمان بن بنين، 1985م، اتفاق المباني وافتراق المعاني، تحقيق: د. يحيى عبدالرؤوف جبر، الطبعة الأولى، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان.
    ♦ سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر، 1988م، الكتاب، تحقيق: عبدالسلام محمد هارون، الطبعة الثالثة، مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر.
    ♦ شوقي ضيف، بدون تاريخ، المدارس النحوية، الطبعة السابعة، دار المعارف.
    ♦ عبدالعال سالم مكرم، 1993م، الحلقة المفقودة في تاريخ النحو العربي، الطبعة الثالثة، مؤسسة الرسالة.
    ♦ قريرة توفيق، 2003م، المصطلح النحوي وتفكير النحاة العرب، الطبعة الأولى، دار محمد علي للنشر.
    ♦ مجمع اللغة العربية، دون تاريخ، المعجم الوسيط، دون ذكر للطبعة، دار الدعوة.
    ♦ الملخ، حسن، خميس، 2002م، التفكير العلمي في النحو العربي، الطبعة الأولى، دار الشروق للنشر والتوزيع.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ
    [1] الدكتور/ عبدالله معروف: دكتوراه في اللغات وعلوم اللغة العربية - باحث في مركز تدبير الاختلاف للدراسات والأبحاث - فاس / المغرب.
    [2] ابن خلدون، المقدمة، تح: علي عبدالواحد وافي، ط3، القاهرة: د ت، دار نهضة مصر للطبع والنشر، ج3 ص 1268.
    [3] الإيضاح في علل النحو، ص: 19.
    [4] معجم مقاييس اللغة، (نحا).
    [5] لسان العرب، (نحو).
    [6] المعجم الوسيط، (نحا).
    [7] اللغة والنحو: دراسات تاريخية وتحليلية مقارنة: ص: 217.
    [8] الأصول في النحو: 1/36.
    [9] الخصائص: 1/34.
    [10] المقرب: 1/45.
    [11] شرح ابن الناظم، على ألفية ابن مالك، ص: 4.
    [12] شرح المفصل: 1/66.
    [13] المقاصد الشافية: 1/17
    [14] مصطلح النحو، ص: 68، 69.
    [15] شرح التصريح على التوضيح: 1/11، 12.
    [16] مصطلح النحو، ص: 71.
    [17] د. محمود السعران: علم اللغة: مقدمة للقارئ العربي، بيروت، دار النهضة العربية، د. ت، ص 233.
    [18] د. تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، مرجع سابق، ص 35.
    [19] شوقي ضيف، المدارس النحوية، ص: 11.
    [20] نفسه، ص: 13.
    [21] المحكم في نقط المصاحف، ص: 6.
    [22] انظر في هذا الصدد: "نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة"؛ للشيخ محمد الطنطاوي، ص: 284، والمدارس النحوية لشوقي ضيف، ص: 13، 16.
    [23] انظر في هذا الصدد: شوقي ضيف، المرجع السابق.
    [24] المدارس النحوية: 88/89.
    [25] الخصائص: 1/.34
    [26] الخصائص: 1/35
    [27] اللغة العربية: معناها ومبناها، ص188.
    [28] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 1/680.
    [29] الكتاب: 1/13.

    رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz5agE7qWdi
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2009
    المشاركات
    738

    افتراضي رد: النحو العربي نشأته ومدارسه وقضاياه.

    بارك الله فيك

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •