(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا: «إِذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ الأَذَى بِخُفَّيْهِ؛ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ». رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ(1).
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلاًّ، قَالَ: «لاَ». رَوَاهُمُسْلِمٌ )(2).
حديث أبي هريرة رواه أبو داود، ينظر في عزو الأربعة، وأحيانا عزوه -رحمه الله- للأربعة في بعض المواضع ينبغي النظر في عزوها، وحديث أبي هريرة هذا «إِذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ الأَذَى بِخُفَّيْهِ؛ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ» هذا له شواهد؛ منها ما رواه أبو داود من حديث أبو سعيدٍ الخدري(3) وهو حديث جيد، «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ؛ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى؛ فَلْيَمْسَحْهُم ْا بِالتُّرَابِ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا»(4) وهذا دلالة أيضا على أن النعلين يطهرهما التراب إذا مسحهما.
وجاء أيضا في حديث امرأة من بني عبد الأشهل(5) وهو حديث جيد رواه أبو داود، أنها قالت: يا رسول الله! إن لنا طريقا إلى المسجد مُنْتِنَة، قال: «أَلَيْسَ بَعْدَهَا مَا هُوَ أَطْيَبُ مِنْهَا؟» قالت: بلى، قال: «فَهَذِهِ بِهَذِهِ»(6)، وفي رواية من حديث أم سلمة بسند فيه ضعف عند أبي داود: أنها سألته -عليه الصلاة والسلام- قالت: إن ذيلها يصيب النجاسة في الأرض، قال -عليه الصلاة والسلام: «يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ»(7)، فإذا كان الذيل يطهره ما بعده بمجرد مروره على التراب، وهو ليس فيه دلْك ولا مَعْك، ولا عصر له، وشد له على التراب، وكذلك قوله: «هَذَهِ بِهَذِهِ» لما قالت إن لها طريقا منتنة، فالدلك والمسح أبلغ في الإزالة، وهذا شاهد لما تقدم؛ أن النجاسة تُزال بغير الماء، وأن الماء من الْمُزيلات، وأن العبرة بزوال النجاسة، وإزالة النجاسة حَلَّ مَحَلَّها ما هو ضدها، من الطهارة، وهي طهارة المكان، ثم أيضا الإزالة هنا مثل الإزالة التي تكون بإزالة الأذى من المخرج، يعني إزالة العين، ولو بقي أثر إزالة العين، ولا يلزم أن يغسلها بالماء فإن هذا من التكلف. ولذا روى أبو داود من حديثابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «كُنَّا لاَ نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ»(8).
«إِذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ الأَذَى بِخُفَّيْهِ؛ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ»، قوله: «فطهورهما» يدل على أن التراب طهور، وهذا في الحقيقة يُبَيِّنُ أن التراب كالماء في جميع أحكامه، وهذا شاهده ما تَقَدَّمَ أن التيممَ يرفع الحدث، أن التيمم كالماء، فإذا كان كالماء في رفع الحدث، أيضا هو حكمه كالماء في إزالة الأخباث، بل إن التراب ربما لخشونته وليبوسته وصلابته قد يكون أبلغ أحيانًا في بعض المواضع من الماء؛ لأن الماء قد يبقى بعد الغسل به أثر لزوجة، ولهذا قد تحتاج إلى التراب بعد الغسل بالماء.
وكما تقدم في الصحيحين من حديث ميمونة(9)، وصحيح مسلم من حديث عائشة، أنه -عليه الصلاة والسلام- «كَانَ يَضْرِبُ الْجِدَارَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى بَعْدَمَا يَغْسِلُ فَرْجَهُ»(10) عليه الصلاة والسلام، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تريهم أثر ذلك في الرواية الأخرى. وكان يضرب؛ لأن مع الغسل بقي أثر لزوجة من الأذى علق بيده -عليه الصلاة والسلام- فلم يزله إلا التراب، فالتراب قد يكون أبلغ،
فالمقصود أنه طهور، وأن حكمه كالماء -كما تقدم.
حديث أنس(11) -رضي الله عنه- سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الخمر تُتخذ خلا، قال: «لاَ». وهذا الحديث رواه الترمذي(12) والظاهر أنه من رواية أنس عن أبي طلحة، وجاء عند الترمذي كذلك، وأنه سئل عن أيتام ورثوا خمرا، وأنه هل تُتخذ خلا قال: «لاَ»(13)، ولذلك لا يجوز تخليل الخمر، وإذا كان هؤلاء الأيتام الذين هم في مَظِنَّة الحاجة والمسكنة، وحاجتهم أشد من حاجة غيره، ومع ذلك مَنَعَ -عليه الصلاة والسلام- تخليل الخمر، فغيرهم من باب أولى، قوله: تتخذ خلا، هذا منع بتخليلها بأي سبيل على سبيل القصد ولو بالنية، فالفعل من باب أولى، يعني سواء كان التخليل قصدًا أم فعلا، فلو عنده عِنب طيب، ثم تركه في موضعه ولم يحركه حتى تخمر، وقد علم بذلك، فتركه قصدا ولم يحركه حتى تحول إلى خل، فإنه لا يجوز؛ لأن الأعمال بالنيات، والنية أبلغ في كثير من المواضع، فإذا اجتمع القصد والفعل، مثل نقله من الظّلّ إلى الشّمس أو من الشّمس إلى الظل، أو وضع في شيئا حتى يتخلل أيضا حرم، ويكون أبلغ؛ لأنه باشر المنكر أو فعله بيده مع القصد، قصد إليه وفعله، وهذا أبلغ، لكن يجوز لو أنه تخلل الخمر بغير علمه، تخلل العنب وتحول إلى خمر وهو لا يعلم، ثم تحول إلى خل، فلا بأس به، وهو طيب، وكذلك أيضا لو أنه بادره قبل أن يتخمر، مثل وضع في العنب الذي خشي من فساده وأراد أن يجعله خلا، وضع فيه مادة حتى لا يتحول إلى خمر، بل مباشرة يتخلل، يعني يتحول من كونه عنبا إلى أن يتخلل، في هذه الحالة لا بأس به؛ لأنه لم يتخمر ولم يجعل الخمر خلا. والله أعلم
(1) صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الأذى يصيب النعل (385)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح.(2) أخرجه مسلم: كتاب الأشربة، باب تحريم تخليل الخمر (1983).
(3) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أبو سعيد الخدري، مشهور بكنيته. استصغر يوم أحد، واستشهد أبوه بها، وغزا هو ما بعدها. قيل: مات سنة ثلاث -أو أربع أو خمس- وستين، وقيل أربع وسبعين. انظر أسد الغابة (2/212 ترجمة 2035)، الإصابة (3/79 ترجمة 3198).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل (650)، بنحوه، قال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح.
(5) صحابية ذكرها أبو نعيم، قال ابن الأثير في الأسْد: امرأة من بني عبد الأشهل من الأنصار، وذكر حديثها انظر أبو نعيم في معرفة الصحابة (ترجمة 7429)، أسد الغابة (6/433 ترجمة 7684).(6) صحيح: أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب في الأذى يصيب الذيل (384)، قال الألباني في صحيح أبي داود: إسناده صحيح.
(7) صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الأذى يصيب الذيل (383)، قال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح.
(8) صحيح: أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب في الرجل يطأ الأذى برجله (204)، قال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح.
(9) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الغسل، باب مسح اليد بالتراب لتكون أنقى (260)، :مسلم، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة (317).
(10) أخرجه مسلم: كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة (316) بنحوه.
(11) أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي. خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. مات أنس سنة تسعين، وقيل: إحدى أو ثنتين أو ثلاث وتسعين، وكان عمره مئة سنة إلا سنة، وقيل: واحد -أو ثلاث أو سبع سنين- فوق المئة. انظر أسد الغابة (1/151 ترجمة 258)، الإصابة (1/126 ترجمة 277).
(12) صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب البيوع، باب النهي أن يتخذ الخمر خلا (1294)، قال الترمذي: حسن صحيح، قال الألباني في صحيحالترمذي: صحيح.
(13) حسن: أخرجه الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع الخمر والنهي عن ذلك (1293)، من حديث أنس عن أبي طلحة، قال الألبانيفي صحيح الترمذي: حسن. |