بائع من إفريقيا.. حجته القوية غلبت المناظرين

محمد الهدوي
باحث في جامعة جواهر لال نهرو - الهند


لم يحظ هذا الفتى بنصيب وافر من التعليم إلا ما حصل عليه من المعلومات الضرورية في المدارس الابتدائية، ولم يستطع كذلك أن يستمتع برواق المدرسة ورحابها الواسعة التي يحمل فيها الطلبة من أبناء الميسورين حقائب كتبهم لكي يحضروا الفصول صباحا ومساء.

ولكنه بسبب الفقر المحدق بأسرته اضطر أن ينهي دراسته ويسرع إلى العمل في باكر عمره. وكان في عهد صباه، يعود من المدرسة إلى المبنى الذي كان يسكن فيه ليأخذ قسطه من الطعام من مطعم قريب منه، مما شكل في حياته نظاما روتينيا. وأما غياب أمه الرؤوم، التي يحبذ كل صبي وجودها معه في تلك الفترة تهيئ له طعاما يحبه، وتداعبه، وتجالسه في أحزانه ومسراته، فقد خلف في نفسه وحشة قاتلة. ولا لوم على أب كان يعمل لكفاف أسرته، وينشغل بعالمه الأبوي المسؤول. صاحبنا، أحمد ديدات، الذي نتحدث عنه، كان طالبا متفوقا بين أقرانه، وذكيا، ولامعا على الرغم من المشاكل التي هو فيها. وفي السادسة عشرة من عمره، اكتسب لنفسه مهنة ليتقي بها وطأة الفقر المحيط بعائلته. فصار بائعا. وهو اليوم، بعد خمس وتسعين سنة منذ ولادته، ليس فقط واحدا من فرسان الدعوة الإسلامية، بل أخطر المدافعين عن الإسلام في الغرب، لسانا وقلما، وأسد المنابر إذا أطلق زمجرة دبت في أحشاء الباباوات على مستوى العالم قشعريرة مقلقة. وفوق كل ذلك، إنه داعية فريد من نوعه، أحكم نشاطاته الدعوية، وتنوع فيها بما يلائم عقلية القرن الحادي والعشرين.



ولد أحمد حسين قاسم ديدات عام 1918م في سورات بالهند. كان أبوه حسين قاسم ديدات عاملا بالخياطة في جنوب إفريقيا. لحق بأبيه عام 1927م في السنة التاسعة من عمره، وعقب مغادرته الهند توفيت أمه رحمها الله. والتحق بالمدرسة، حيث يعمل والده، وواصل دراسته حتى الصف السادس، ثم توقف عن التعليم بسبب الفقر، الذي أعجزه عن دفع الرسوم المطلوبة. ورغم أن أباه اتصل بكثير من التجار المسلمين لمساعدته على مواصلة دراسة ابنه، فإنه لم يجد إليها سبيلا، فبحث عن سبل أخرى. واختبر ديدات حظه في كثير من الأعمال المهنية، فعمل في عدة محال تجارية، ثم ارتحل من مدينة «دربان»، التي تسكن فيها أسرته، إلى دكان رجل مسلم شريف يقع على مسافة خمسة وعشرين ميلا من تلك المدينة، فمكث هناك بائعا فيه، ثم رجع إلى دربان ليعمل في مصنع كسائق للشاحنات الكبيرة، ثم عمل ككاتب ضابط للصادرات والواردات، ثم مديرا للمصنع. وفي عام 1949م سافر إلى باكستان وعمل فيها ثلاث سنوات في معمل للنسيج. وفي عام 1937م تزوج بالسيدة حواء غنغت، وأنجبت منه بنتا وولدين. وفي عام 1996م، عقب عودته من أستراليا، بعد مناظرة ناجحة مع أكابر الباباوات هناك، أصيب بجلطة تحت عنقه شلته تماما، فصار طريح الفراش لمدة تسع سنوات.

وكان في فترة مرضه يتلقى عناية كريمة من الدول العربية ورؤسائها، حيث نقل إلى مستشفى الرياض للعلاج بطريقة أفضل وليعتني به متخصصون.

انتقل رحمه الله إلى جوار ربه عام 2005م، عن عمر يبلغ السابعة والثمانين عاما وهو يستمع إلى القرآن الكريم، الذي كان يحبه حبا جما.
عناية إلهية في حياته رحمه الله

توالت في حياته عناية الله غير المتوقعة، على حد قوله. فهيأ له ظروفا وأسبابا، كان من أولها تعطشه للقراءة، فأصبحت الكتب خير جليس له في فترات وحشته، وأصبح قارئا نهما، لا يترك شيئا يقع في يده من كتب ومجلات وغيرها إلا ويقرأه بدقة متناهية، لدرجة أنه لم يبق كتاب في المكتبة لم يقرأه، إلى جانب ما وهبه الله من فهم ثاقب، وذكاء لامع، وطلاقة لسان، وتوفيق وسداد، وجهد ومثابرة.
ورغبته الجامحة في القراءة ذللت أمامه ظروفا صعبة، لأن الدفاع عن الإسلام كان جل همه، فبدأ يجادل كل من يتصدى له في المواضيع المختلفة، مما جعله يفوقهم في المعقولات والقدرة على المناظرة، بالإضافة إلى امتلاكه قدرات لغوية هائلة.
وثانيها حصوله على كتاب «إظهار الحق» للعلامة رحمة الله الهندي، وذلك عندما كان يبحث يوما في كومة من الصحف المكدسة في أحد المخازن للحصول على شيء للقراءة، ففوجئ بهذا الكتاب القديم جدا، الذي صدر عام 1915م في الهند، أخذه في يده ليقرأ العنوان المكتوب بالإنجليزية «Izharul Hakk»، ولكنه لم يستطع فهم معنى هذه الكلمة لأنها عربية، إلا أنه وجد تحتها معناها مترجما إلى الإنجليزية: Truth revealed. وكان هذا الكتاب قد ألفه رحمة الله ردا على النصارى في خمس مسائل من النسخ والتحريف, والتثليث, وحقية القرآن, والنبوة، حين كانت الإرسالية تعمل بشدة في الهند بين المسلمين.
وبعد أن مكن نفسه بالدلائل والحجج الدامغة بدأ يلقي محاضرات جذابة ومفيدة للمختصين والعوام في القاعات, على نفقته. ولم يمض وقت طويل حتى جذب هذا الفتى الخطيب انتباه الناس في المدينة.. معلوماته عن الكتب المقدسة، وإيمانه القوي بالقرآن والرسول " صلى الله عليه وسلم" مدهشان للغاية.. ذات يوم، قدم عليه من جوهانسبرج بعض من كانوا يحضرون خطبه ومحاضراته في دربان، وطلبوا منه أن يلقي خطبة في مدينتهم في يوم الاحتفال بمولد النبي " صلى الله عليه وسلم" . وبتردد رفض هذه الفكرة، فهو رجل من الطبقة العاملة، ولا يستطيع تحمل كلفة الرحلة، لكنهم تكفلوا بنفقة الرحلة كاملة، ذهابا وإيابا، فسافر لأول مرة بالطائرة ليلقي خطبة مثيرة للانتباه جدا في قاعة مدينة جوهانسبرج، غير أنها لم تكن خطبة فحسب، بل زرعت في نفسه ثقة كبيرة، وجعلته يفكر أكثر في مجال الدعوة، وتوسعة نطاقها، وفي كيفية التعامل معها وابتكار طرق جديدة، وفكر في أنه إذا كان قد حاضر في قاعة مدينة جوهانسبرج، فإن قاعة مدينة دربان أحرى أن يلقي المحاضرات فيها، فبدأ بقاعة مدينة دربان عام 1958م، وجعل المسجد الجامع الكبير هناك مقرا لنشاطاته الدعوية. وبسبب نشاطه القوي هناك بدأ الناس يعتنقون الإسلام. ولم يخف أحمد ديدات أحدا في سبيل الحق، وكم كانت كلماته ممتلئة بالشجاعة حينما ناظر ثلاثة أساقفة في باكستان وتحداهم في عقر دارهم.
العصور برجالها
ديدات رحمه الله كان ممن أرى المسلمين منحى جديدا للدعوة، أوقف حياته على الإسلام والقرآن، وقر في قلبه أنه لا يتوجب عليه الإيمان بهما فقط، بل إعطاؤهما حقهما الذي يستحقانه، نشرا وتعليما، بين الناس من غير المسلمين، الذين لم تصل إليهم الدعوة الصحيحة، وإخبارهم بخطورة الأمر المتعلق بالإنسان في الدنيا والآخرة، وأصحاب الأوهام الخاطئة المستشرية عن الإسلام والقرآن منذ فترة طويلة. ولا شك في أنه تمتلئ عين كل مسلم حريص على الإسلام بالدمع حين يرى هذا الشيخ المتقدم في السن يناظر كبار القساوسة مدافعا عن إسلامه بكل عزم وقوة، لا ترى على وجهه مسحة من تردد وارتباك بينما ينتظر دوره، ولكنه، بلحيته البيضاء، وظرافته، وابتسامته الوديعة التي لا تفارق محياه، والقلنسوة البيضاء التي تستريح على رأسه المحلوق على الدوام مرتفعة قليلا إلى ناصيتيه، يجلس في مكانه مسلحا بالحجة الدامغة, وجعبته مملوءة بالسهام الصائبة، منصتا إلى كلمات خصمه حتى ينتهي ليصرعه.. يمكنكم أن تروا كل مرة يحاضر ويناظر فيها كيف يرفع القرآن عاليا ويقول: «هذا من عند الله»، لتبقى كلمة الله هي العليا.