كتب عربية علمت الإنسانية

المسند للإمام أحمد بن حنبل
إعداد: خالد خلاوي


يعد كتاب «المسند» من أشهر كتب الحديث، جمعه الإمام أحمد بن حنبل ليكون مرجعا للمسلمين في أسانيد الصحابة ورواياتهم في الحديث. فقد كان الإمام أحمد يحفظ ألف ألف حديث عن ظهر قلب. وقد انتقى المسند من هذا العدد الهائل من محفوظه، فجمع فيه ما يزيد على 26 ألف حديث نبوي رتبها على أسماء الصحابة، فجعل مرويات كل صحابي في موضع واحد، وعدد الصحابة الذين لهم مسانيد في مسنده 904 صحابي.

وقد كتب الشيخ محمد أبو زهرة، يرحمه الله، بحثا مطولا في تعريفه للكتاب ضمن سلسلة تراث الإنسانية(1)، ونظرا لأهميته نقدم تلخيصا لما جاء فيه في السطور التالية.
تعريف بالإمام أحمد بن حنبل

هو الإمام الفقيه المحدث أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي، رابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الفقهي المشهور.
ولد أحمد بن حنبل سنة 164هـ في بغداد ونشأ فيها يتيما، وقد كانت بغداد في ذلك العصر حاضرة العالم الإسلامي، تزخر بأنواع العلوم والمعارف، وكانت أسرته توجهه إلى طلب العلم، فبدأ في سنة 179هـ يتجه إلى الحديث النبوي، طلبه في بغداد عند شيخه هشيم بن بشير الواسطي حتى توفي سنة 183هـ، وظل في بغداد حتى سنة 186هـ، ثم تنقل في طلب الحديث، فرحل إلى العراق والحجاز وتهامة واليمن، وأخذ عن كثير من العلماء والمحدثين، وعندما بلغ أربعين عاما في سنة 204هـ جلس للتحديث والإفتاء في بغداد، وكان الناس يجتمعون على درسه حتى يبلغ عددهم قرابة خمسة آلاف.
وقد أكثر العلماء من الثناء على الإمام أحمد بن حنبل، وقال عنه شيخه الإمام الشافعي: «أحمد إمام في ثماني خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة».
وكان أهم حدث مر به في حياته المحنة التي عرفت باسم «فتنة خلق القرآن»، وهي فتنة وقعت في العصر العباسي في عهد الخليفة المأمون، ثم المعتصم والواثق من بعده، إذ اعتقد هؤلاء الخلفاء أن القرآن مخلوق محدث، وهو رأي المعتزلة، ولكن ابن حنبل وغيره من العلماء خالفوا ذلك، فحُبس ابن حنبل وعُذِّب، ثم أُخرج من السجن وعاد إلى التحديث والتدريس. وفي عهد الواثق مُنع من الاجتماع بالناس، فلما تولى المتوكل الحكم أنهى تلك الفتنة إنهاء كاملا.
وفي شهر ربيع الأول سنة 241هـ، مرض أحمد بن حنبل ثم مات، وكان عمره سبعا وسبعين سنة.

ترتيب المسند

يقول الشيخ محمد أبو زهرة: «المسند هو مجموعة الأحاديث التي رواها أحمد رضي الله عنه، وضرب في مناكب الأرض ساعيا جاهدا في جمعها. وهو في الحق الخلاصة لما تلقاه من الأحاديث التي دونها بأسانيدها. ولذلك، يبتدئ جمعه من وقت أن ابتدأ أحمد يتلقى الحديث ويرويه من سنة 180هـ».
ولقد روى عبدالله بن أحمد مسند أبيه، ونشر علمه بين الناس، ثم تسلسلت الرواية عنه بالسماع راويا عن راو، وكانوا جميعا ثقات اثباتا، حتى حفظته الأجيال، واستقر فيها ذخيرة محفوظة من السنة، استحفظ عليها العلماء وتلقوها بالقبول.
ويظهر من أخبار المسند أن عبدالله هو الذي رتب المسند بالوضع الذي نراه الآن، وحاول من بعده محدثون وحفّاظ أن يغيروا ذلك الترتيب، ويجعلوه مرتبا على نسق كتب السنة الصحاح المشهورة، كالبخاري ومسلم وسنن أبي داوود، فإنها مرتبة على حسب الموضوعات، بحيث يرجع إلى الأحاديث المروية في كل موضوع، وبذلك تكون الاستفادة سهلة.
أما ترتيب المسند، كما رتبه عبدالله، فهو أن يجمع أحاديث كل صحابي في مكان واحد من غير نظر إلى الموضوع، فيجمع كل ما روي عن أبي بكر، ويسمى مسند أبي بكر، وكل ما روي عن عمر ويسمى مسند عمر، وهكذا بقية الراشدين، والفقهاء من الصحابة كزيد بن ثابت وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وغيرهم.
ولم يسلك في ترتيب الصحابة ترتيب الحروف، بل ابتدأ بالأفضل فالأفضل من الصحابة، فابتدأ بالعشرة المبشرين بالجنة (أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن مالك، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبوعبيدة وغيرهم)، ثم من يليهم وهكذا، حتى إذا وصل إلى التابعين رتبهم هكذا.
الروايات في المسند

أراد الإمام أحمد أن يكون كتابه جامعا لكل السنة التي كان يرويها الثقات في عصره. والثقات عند أحمد هم الذين لم يعرف عنهم أنهم يتعمدون الكذب، فكان يروي عن أهل التقوى، وإن عرف عنهم أن ضبطهم لم يكن كاملا، ولكن يقدم عليهم أحاديث الضابطين إذا عارضتها، ويقبلها إذا لم يكن في الموضوع سواها، ويضعها في مسنده.
والإمام أحمد يشترط اتصال السند لكي يكون الحديث صحيحا، فأحمد لا يقبل الحديث المرسل، والمرسل عنده هو الذي انقطع سنده عند التابعي، أو انقطع سنده في أي جزء من سلسلة السند. ويعد هذا النوع من الأحاديث ضعيفا، فلا يعمل به إلا حديث لا يكون سواه، لأنه يرى أن العمل بالحديث الضعيف يقدم على الرأي أيا كانت صورة الرأي، ويضعه في مسنده إذا لم يوجد ما يعارضه.
والإمام أحمد يشترط سلامة متن الحديث من الشذوذ والنكارة، فهو ينقد المتن في دائرة ضيقة، وذلك بأن يبحث عن موافقته لصحاح الأحاديث الثابتة، فإن وجده يعارض بعضها رده، ولم يقبله، وإن وجده لا يخالفها قَبِلَه وعمل به، وأثبته في مسنده.
وقد قال أحمد بن حنبل لابنه عبدالله في طريقته في تدوين مسنده: «قصدت في السند الحديث المشهور، وتركت الناس تحت ستر الله تعالى. ولو أردت أن أقصد ما صح عندي لم أرو من المسند إلا الشيء بعد الشيء، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف، إذا لم يكن في الباب ما يدفعه».
ولم يكن في عصر الإمام أحمد -رضي الله- عنه إلا تقسيم واحد للحديث، وهو أن الحديث إما أن يكون صحيحا، وإما أن يكون ضعيفا، ويدخل عنده في باب الحديث الضعيف الحديث الذي سُمي من بعد عصره الحديث الحسن الذي يكون رواته مستوري الحال، فقد كان أحمد يقبله إذا لم يكن في الباب سواه، ويرفض رواية من عرف بتعمد الكذب، ومن لم يُعرف بالتقوى.
وبذلك يتبين لنا أن الإمام أحمد إذا كان يصرح بأنه يقبل الضعيف ويقدمه على القياس إذا لم يكن في الباب ما يدفعه، فإن ذلك مؤداه أن يقبل المستور، أو غير الضابط ضبطا كاملا أو المرسل، لأنه يعد كل هذه الأنواع من الروايات الضعيفة، ولكنه لا يقبل الأحاديث التي يكون رواتها قد عرفوا بتعمد الكذب، أو ثبت أنها معارضة للأحاديث الصحيحة، أو بعبارة عامة الأحاديث التي ثبت أنها متروكة المعنى لمخالفتها المعروف من السنة.
الاهتمام بالمسند

ويلاحظ أن العلماء من بعد أحمد كانوا يعملون على القيام بحق المسند، فابنه عبدالله قد زاد فيه ما يشبهه، وإن كانت الزيادة قليلة، وقد رتبه على النحو الذي نراه. وجاء من بعد ذلك في القرن الثامن من حاول أن يرتبه على حسب معجم أسماء الصحابة، لا كما هو على حسب مراتبهم في الصحبة، ثم جاء ابن كثير، فرأى أن يجعله الموسوعة الكبرى التي تشتمل على كل الأحاديث والسنن وآثار الصحابة والتابعين المروية، فأتم كل سند فيه، حتى جاء إلى سند أبي هريرة فكف بصره قبل أن يتمه.
وإذا كان الماضون قد صنعوا كل ذلك مع المسند، فإنه ما زال علينا أن نقوم بأمرين مهمين تجاه هذا السفر الجليل:
أولهما: تغيير ترتيبه وجعله على حسب الموضوعات لا على أسماء الصحابة أو مراتبهم، مع بقاء الأصل من غير تغيير، فيكون له عندنا ترتيبان: أحدهما، ترتيب عبدالله بن أحمد، وله مزاياه لأهل العلم. وثانيهما، الترتيب الموضوعي، وله فائدة جليلة.

ثانيهما: أن تدرس أحاديثه دراسة فاحصة، فما لا يثبت وضعه أو معارضته للصحاح يبقى، وما يعارض الصحاح وتتبين معارضته، يبعد، وكذلك ما يثبت وضعه يبعد، وإنه لنادر جدا، حتى قال بعض العلماء لا وجود له، والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

هوامش

(1) المسند لابن حنبل، الشيخ محمد أبو زهرة، تراث الإنسانية، ج1، ص 190 وما بعدها، ط المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، من دون تاريخ.