​«جامع الأصول» لابن الأثير




عبادة نوح


إن السنة النبوية هي الأصل الثاني من أصول الأحكام الشرعية التي أجمع المسلمون على اعتبارها أصلا قائما بذاته، فهي والقرآن متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالقرآن كلي هذه الشريعة، والرسول " صلى الله عليه وسلم" مبين بسنته لجزئياتها. قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل:44)، وقد أنعم الله على هذه الأمة الإسلامية بأن قيض لها في القرون الأولى نخبة ممتازة وصفوة مختارة، ندبت أنفسها لخدمة السنة النبوية المطهرة ولم شتاتها، فالتقطوها من أفواه سامعيها، وجمعوها من صدور حامليها، وطووا الفيافي والقفار إلى حفظتها في كل قطر ومصر، وبذلوا في سبيل ذلك أموالهم، وأفنوا أعمارهم، فكان من أثر ذلك تدوين المؤلفات الضخمة العديدة التي ضمت تراث نبينا الكريم " صلى الله عليه وسلم" ، فاستحقوا بذلك رضوان الله تعالى، والشكر والتكريم.
وكتاب «جامع الأصول» أحد تلك المؤلفات العظيمة، عمد فيه مؤلفه إلى الأحاديث التي وعتها الأصول الستة المعتمدة عند الفقهاء والمحدثين: الموطأ، والبخاري، ومسلم، وأبوداود، والترمذي، والنسائي، التي حوت معظم ما صح عن النبي الكريم " صلى الله عليه وسلم" ، فجمعها وأدمجها كلها في مؤلف واحد، بعد أن رتبها وهذبها وذلل صعابها، وقرب نفعها، وافتتحه بمقدمة ضافية فصل فيها الطريقة التي اتبعها في تصنيف الكتاب، وذكر جل قواعد مصطلح الحديث التي تمس الحاجة إلى معرفتها، وختمها بتراجم الأئمة الستة الذين جمع كتبهم في تأليفه هذا، فجاء فذا في بابه، وكل من يقتنيه عن الأصول الستة يغنيه.
لقد ذكر المؤلف في مقدمته أن أول عمل قام به، هو حذف الأسانيد، فلم يثبت إلا اسم الصحابي الذي روى الحديث عن النبي " صلى الله عليه وسلم" إن كان خبرا، أو اسم من يرويه عن الصحابي إن كان أثرا، اللهم إلا أن يعرض في الحديث ذكر اسم أحد رواته فيما تمس الحاجة إليه، فإنه يذكره لتوقف فهم المعنى المذكور في الحديث عليه.
وأما متون الأحاديث، فقد أثبت مـــــنهـــا ما كـــان حديثــــا عــــــــن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ، أو أثرا عن صحابي، وما وجد من أقوال التابعين والأئمة المجتهدين في الأصول التي جمعها في كتابه، فلم يذكرها إلا نادرا.
واعتمد في النقل من كتابي البخاري ومسلم على «الجمع بين الصحيحين» للإمام أبي عبدالله الحميدي، وذكر أنه أحسن في ذكر طرقه، واستقصى في إيراد رواياته، وأن إليه المنتهى في جمع هذين الكتابين، وأما باقي الكتب الأربعة، فقد نقلها من الأصول التي قرأها وسمعها، كما اعتمد على نسخ أخرى منها غير مسموعة له.
وقد عول في المحافظة على ألفاظ البخاري ومسلم أكثر من غيرهما من باقي الأئمة الأربعة، اللهم إلا أن يكون في غيرهما زيادة أو بيان أو بسط، فإنه يذكرها، كما يتتبع الزيادات من جميع الأمهات، ويضيفها إلى مواضعها.
وقد عدل عن الطريقة التي اتبعها أصحاب الأصول الستة في الترتيب والتبويب، لأن كل واحد منهم قد ذكر أحاديث في أبواب من كتابه، ذكرها غيره في غير تلك الأبواب، فعمد إلى الأحاديث المضمنة في هذه الأصول، فاعتبرها وتتبعها واستخرج معانيها، وبنى الأبواب على المعاني التي دلت عليها الأحاديث.
وكل حديث انفرد بمعنى، أثبته في باب يخصه، وما اشتمل من الأحاديث على أكثر من معنى، إلا أنه بأحدها أخص، وهو فيها أغلب، فقد أثبته في الباب الذي هو أخص به وأغلب عليه، وإذا كان يشتمل على أكثر من معنى، ولا يغلب أحد المعاني على الآخر، فقد أورده في آخر الكتاب في اللواحق.
ثم إنه خرج أسماء الكتب المودعة في الكتاب، وجعلها مرتبة على حروف المعجم، طلبا لتسهيل كلفة الطلب، وتقريبا على المريد بلغة الأرب.
وقد أثبت ما وجده في كتب الغريب واللغة والفقه من معنى مستحسن، أو نكتة غريبة، أو شرح واف في آخر كل حرف على ترتيب الكتب، بعد الاحتياط فيما نقله، وما لم يجده فيها - وهو قليل - فقد ذكر فيه ما سنح له بعد سؤال أهل المعرفة والدراية.
ومما لا شك أنه قد أسدى بتأليفه هذا الكتاب العظيم إلى الإسلام وأهله يدا لا تزال مشكورة، ما دام في الدنيا من يدين بهذا الدين، ويتبع سبيل المؤمنين. فجزاه الله خير جزاء.
ترجمة المؤلف:
هو الإمام البارع مجد الدين أبوالسعادات المبارك بن محمد بن محمد بن عبدالكريم بن عبدالواحد الشيباني الجزري ثم الموصلي المعروف بابن الأثير، ولد سنة 544هــــ قرب الموصل، وتلقى معارفه الأولى، من تفسير وحديث ونحو ولغة وفقه وغيرها من العلوم.
كان من محاسن الزمن، ذا دين متين، وطريقة مستقيمة، عارفا، فاضلا، ورعا، عاقلا، مطاعا، رئيسا، مشاورا، ذا بر وإحسان، وصنف تصانيف مشهورة، وألف كتبا مفيدة، منها: «غريب الحديث» على حروف المعجم، وهو المعروف بالنهاية، و«الشافي شرح مسند الشافعي»، و«الإنصاف بين الكشف والكشاف» جمع فيه بين تفسيري الثعلبي والزمخشري، و«البديع» في النحو، و«الباهر في الفروق» في النحو أيضا، و«تهذيب فصول ابن الدهان»، و«المصطفى المختار من الأدعية والأذكار»، و«كتاب لطيف في صناعة الكتابة»، وغيرها.
ولما أقعد آخر عمره، جاء رجل مغربي فعالجه بدهن صنعه، فبانت ثمرته، وتمكن من مد رجليه، فقال لأخيه عز الدين: أعطه ما يرضيه، واصرفه، فقال أخوه: لماذا وقد ظهر النجح؟ قال: هو كما تقول، ولكني في راحة من صحبة هؤلاء القوم - يعني الأمراء والسلاطين -، وقد سكنت نفسي إلى الانقطاع والدعة، وبالأمس كنت أذل نفسي بالسعي إليهم، وهنا في منزلي لا يأتون إلي إلا في مشورة مهمة، ولم يبق من العمر إلا القليل، فدعني أعش باقيه حرا سليما من الذل، قال أخوه: فقبلت قوله وصرفت الرجل بإحسان، فلزم بيته صابرا محتسبا، يقصده العلماء، ويفد إليه السلاطين والأمراء، يقبسون من علمه، وينهلون من فيضه، حتى توفي رحمه الله بالموصل سنة 606 هـ (1).
قطوف من كلام المصنف في المقدمة:
قال رحمه الله: «أما بعد، فإن مبنى هذا الكتاب على ثلاثة أركان:
الأول: في المبادئ، والثاني: في المقاصد، والثالث: في الخواتيم.
والركن الأول: ينقسم إلى خمسة أبواب:
الباب الأول: في الباعث على عمل الكتاب، وفيه مقدمة وأربعة فصول..
المقدمة: ما زلت في ريعان الشباب، وحداثة السن، مشغوفا بطلب العلم، ومجالسة أهله، والتشبه بهم حسب الإمكان، وذلك من فضل الله علي، ولطفه بي أن حببه إلي، فبذلت الوسع في تحصيل ما وفقت له من أنواعه، حتى صارت في قوة الاطلاع على خفاياه، وإدراك خباياه، ولم آل جهدا - والله الموفق - في إجمال الطلب، وابتغاء الأرب، إلى أن تشبثت من كل بطرف تشبهت فيه بأضرابي، ولا أقول: تميزت به على أترابي، ولله الحمد على ما أنعم به من فضله، وأجزل من طوله، وإليه المفزع في الإسعاد بالزلفى يوم المعاد، والأمن من الفزع الأكبر يوم التناد، وأن يوزعني شكر ما منحنيه من الهداية، وجنبنيه من الغواية.
وبعد، فإن شرف العلوم يتفاوت بشرف مدلولها، وقدرها يعظم بعظم محصولها.... إلا أن من أصول فروض الكفايات؛ علم أحاديث رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ، وآثار أصحابه رضي الله عنهم التي هي ثاني أدلة الأحكام، ومعرفتها أمر شريف، وشأن جليل، لا يحيط به إلا من هذب نفسه بمتابعة أوامر الشرع ونواهيه، وأزال الزيغ عن قلبه ولسانه.
وله أصول وأحكام وقواعد، وأوضاع، واصطلاحات ذكرها العلماء، وشرحها المحدثون، والفقهاء، يحتاج طالبه إلى معرفتها، والوقوف عليها بعد تقديم معرفة اللغة والإعراب، اللذين هما أصل لمعرفة الحديث، لورود الشريعة المطهرة بلسان العرب.
وتلك الأشياء:
كالعلم بالرجال، وأساميهم، وأنسابهم، وأعمارهم، ووقت وفاتهم.
والعلم بصفات الرواة، وشرائطهم التي يجوز معها قبول روايتهم.
والعلم بمستند الرواة، وكيفية أخذهم الحديث، وتقسيم طرقه.
والعلم بلفظ الرواة، وإيرادهم ما سمعوه، وإيصاله إلى من يأخذه عنهم، وذكر مراتبه.
والعلم بجواز نقل الحديث بالمعنى، ورواية بعضه، والزيادة فيه، والإضافة إليه ما ليس منه، وانفراد الثقة بزيادة فيه.
والعلم بالمسند وشرائطه، والعالي منه، والنازل.
والعلم بالمرسل، وانقسامه إلى المنقطع، والموقوف، والمعضل، وغير ذلك، واختلاف الناس في قبوله، ورده.
والعلم بالجرح والتعديل، وجوازهما ووقوعهما، وبيان طبقات المجروحين.
والعلم بأقسام الصحيح، والكاذب، وانقسام الخبر إليهما، وإلى الغريب، والحسن وغيرهما.
والعلم بأخبار التواتر، والآحاد، والناسخ، والمنسوخ.
وغير ذلك مما تواضع عليه أئمة الحديث، وهو بينهم متعارف.
فمن أتقنها، أتى دار هذا العلم من بابها، وأحاط بها من جميع جهاتها، وبقدر ما يفوته منها تنزل عن الغاية درجته، وتنحط عن النهاية رتبته، إلا أن معرفة التواتر والآحاد، والناسخ والمنسوخ - وإن تعلقت بعلم الحديث - فإن المحدث لا يفتقر إليها؛ لأن ذلك من وظيفة الفقيه؛ لأنه يستنبط الأحكام من الأحاديث، فيحتاج إلى معرفة المتواتر، والآحاد، والناسخ، والمنسوخ.
فأما المحدث، فوظيفته أن ينقل، ويروي ما سمعه من الأحاديث كما سمعه، فإن تصدى لما وراءه، فزيادة في الفضل، وكمال في الاختيار...».
ثم نثر تلك الفوائد الحديثية العظيمة في فصول متعددة، هذه عناوينها:
الفصل الأول: في انتشار علم الحديث، ومبدأ جمعه وتأليفه.
الفصل الثاني: في بيان اختلاف أغراض الناس ومقاصدهم في تصنيف الحديث.
الفصل الثالث: في اقتداء المتأخرين بالسابقين، وسبب اختصارات كتبهم وتأليفها.
الفصل الرابع: في خلاصة الغرض من جمع هذا الكتاب.
الباب الثاني: في كيفية وضع الكتاب، وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: في ذكر الأسانيد والمتون.
الفصل الثاني: في بيان وضع الأبواب والفصول.
الفصل الثالث: في بيان التقفية، وإثبات الكتب في الحروف.
الفصل الرابع: في بيان أسماء الرواة والعلائم.
الفصل الخامس: في بيان الغريب والشرح.
الفصل السادس: فيما يستدل به على أحاديث مجهولة الوضع.
الباب الثالث: في بيان أصول الحديث، وأحكامها، وما يتعلق بها.
الفصل الأول: في طريق نقل الحديث وروايته، وفيه سبعة فروع:
الفرع الأول: في صفة الراوي وشرائطه.
الفرع الثاني: في مسند الراوي، وكيفية أخذه.
الفرع الثالث: في لفظ الراوي وإيراده، وهو خمسة أنواع:
النوع الأول: في مراتب الأخبار، وهي خمس.
النوع الثاني: في نقل لفظ الحديث ومعناه.
النوع الثالث: في رواية بعض الحديث.
النوع الرابع: انفراد الثقة بالزيادة.
النوع الخامس: في الإضافة إلى الحديث ما ليس منه.
الفرع الرابع: في المسند والإسناد.
الفرع الخامس: في المرسل.
الفرع السادس: في الموقوف.
الفصل الثاني: في الجرح والتعديل، وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول: في بيانهما وذكر أحكامهم.
الفرع الثاني: في جواز الجرح ووقوعه.
الفرع الثالث: في بيان طبقات المجروحين.
الفصل الثالث: في النسخ.
وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول: في حده وأركانه.
الفرع الثاني: في شرائطه.
الفرع الثالث: في أحكامه.
الفصل الرابع: في بيان أقسام الصحيح من الحديث والكذب، وفيه أربعة فروع:
الفرع الأول: في مقدمات القول فيها.
الباب الرابع: في ذكر الأئمة الستة وأسمائهم، وأنسابهم، وأعمارهم، ومناقبهم وآثارهم.
الباب الخامس: في ذكر أسانيد الكتب الأصول المودعة في كتابنا هذا.
الركن الثاني: في مقاصد الكتاب.
الركن الثالث: في الخواتم، ويشتمل على ثلاثة فنون:
الفن الأول: في ذكر الأحاديث
الفن الثاني من الركن الثالث: في ذكر الأسماء والكنى والأبناء والألقاب والأنساب، وتشتمل على خمسة أبواب.
الفن الثالث: في فهرست الكتب والحروف والأبواب والفصول والفروع.
قال رحمه الله: «فلذلك جميعه، الأركان ثلاثة أركان، الكتب مائة وتسع وعشرون كتابا، الأبواب مائة وواحد وثلاثون بابا، الفصول خمسمائة وثلاثة عشر فصلا، الفروع مائتان وواحد وسبعون فرعا، الفنون ثلاثة فنون، الأقسام ستة أقسام، ومقدمة وخاتمة».
هامش
(1) من أول الكلام إلى هنا، مستفاد من مقدمة محقق كتاب جامع الأصول، الشيخ عبد القادر الأرنؤوط - رحمه الله - مكتبة الحلواني، مطبعة الملاح، مكتبة دار البيان، الطبعة الأولى.