نفسي أيتها العزيزة


نُـور الجندلي


عزيزتي، أوتعلمين كم أحببتكِ وآثرتكِ عن كلِّ خلٍّ وصديق، ورفعتُ مقامكِ فوق كلّ مقام، وأجبتُ نداءاتكِ بحبّ، ولبّيتُ رغباتكِ وكلّ متطلباتكِ وعلى ثغري رسمتُ ابتسامة من أجلك؟!
أوتذكرين كم دافعتُ عن حقوقكِ أمام الآخرين، بل جعلتها فوقَ حقوقهم، ونافحتُ من أجل قضاياكِ المهمّة منها وغير المهمة، وكان هدفي في كلّ ذلك سعادتكِ ورضاكِ؟!
صغيرتي، لكم أحببتكِ ورعيتكِ، وكنتِ لي كطفلة صغيرة حسناء، فغذّيتكِ بكلّ طلباتكِ، وحقّقتُ لكِ كلّ رغباتكِ، وآثرتكِ عمّن سواكِ، حتى كبرتِ، وليتكِ لم تفعلي...
لقد ظننتِ يا نفسُ أن رعايتكِ وحمايتكِ دافعان لكِ لاستعبادي، فكَبُرتِ حتّى عليَّ، وما عاد شيءٌ في الحياة يُرضيكِ، وقد نظرتِ في مرآة الغرور، فوجدتِ لكِ صورة العظماء والنبهاء، فبات الخلقُ كلهم صغاراً في عينيكِ، وأنتِ وحدكِ الكبيرة العظيمة التي لا يدانيها أو يشابهها أحد في خصالها، كما لا يجرؤ مخلوقٌ على الاقترابِ من حدودها، أو تخطّيها بنصحٍ أو انتقاد، ولا حتّى مراجعتها بخطأ تم اقترافه، فيا ويح من كنتِ له، وكان عبداً لمصالحه!!
إنني أنظرُ الآن إليكِ، وقد أوصلتِني إلى المهالك، أفتشُ عن ذاتي القديمة فلا أجدها، وعن صفاتي الكريمة أبحث، فإذا بها قد اجتُثّت من جذورها...
أبحثُ عن عباداتي وخشوعي، لحظاتُ صدقي وخضوعي، دمعاتُ حبّي ورجوعي، وإذا بها مفقودة، لم يبقَ منها سِوى الطّلل...
وألجأ إلى خُلقٍ كريمٍ تربّيتُ عليه، وعشتُ بين الناسِ أطيب عيشِ بسببه، ونلتُ المحامد والصفات الطّيبات، وإذا به تحوّل إلى صفاتٍ تعجبكِ وتُرضيكِ وحدكِ، فالكرمُ باتَ طلباً للسُّمعة، والصّدقُ قد استعبد ليخدم مصالحكِ، وعمل الخير بات إعلاناً وسُمعة، والمروءة تصنعاً، فإلى أيّة هاوية تُراكِ أخذتني، وإلى أيّ جحيم قُدتني؟!
أفكّرُ في علاقتنا معاً أيا نفسي العزيزة، فلا أراكِ كما كنتِ من قبل، محبّبة زكيّة، طاهرة جميلة، ما عدتِ تطاوعين على فعل الخيرات، وتتكاسلين عن سائر العبادات، تنهين عن الصلاح، وتأمرين بالمنكر، بِتِّ في نظري عبئاً، وضيفاً ثقيلاً، وحملاً يُرهقني السّيرُ به وقطع مفاوز الحياة...
وأنا اليومَ ألمحُ درب السّائرين إلى الله وسباقاتهم، وأرى التّنافس على الخير في كلّ ميادين الحياة، أرى أسراب النّاجحين والنّاجحات، فلا أراكِ بينهم!!
حقاً تقدّمتِ في بعض الأمور الدّنيوية، لكنّ هذا ما كان هدفنا يوماً، ولا لأجل هذا قد خُلقنا، وأنتِ تعلمين، لكنّكِ عن عمدٍ تتجاهلين، ونحنُ معاً نرى العُبّاد وقد خشعوا في محاريب عبوديّتهم، وطافت أرواحهم عند العرش، وانسكبتُ دموعُ التوبة والخوفِ والحب تغسل وجناتهم، وكلّهم رجاءٌ بما عند الله، ونرى المجاهدين في سبيلِ رفعة دين عظيم، يحطّمون كلّ القيود، ويتجاوزون العقبات والسّدود، ويقهرون الآلام، ليحقّقوا جمال الحلم والمُنى، ونرى أهل الخير في كلّ مكان...
نفوسهم لهم طائعة، كلّما كبرت وتبجحت، وطلبت، وحاولت اختراق الحدود المرسومة لهم، قهروها، وكلما تعرّضوا لأزمة اتهموها، وإذا أخطأت نصبوا لها محكمة فحاكموها وزجرها، وإذا تمرّدت زجروها، وهم في حياتهم يسلكون درب التطهير دائماً وأبداً، يُحلّونها بألوان الخصالِ الحميدة، ويخلونها من كلّ دنيء ورديء، يحافظون على الفرائض، ويكثرون من النوافل، ويجلون صدأ القلوب بالقرآن وتدبر معانيه، والعمل به.
إنهم يعيشون حالة توبة دائمة، ويلزمون الاستغفار في كلّ حين، وبعد كلّ عملٍ صالح خشية التقصير، يتذكرون الموت دائماً، فتنقطع شهوة نفوسهم للحياة، يفرّون من بريق الشهرة، ومن قبح وجوه الرياء، نومهم قليل، وزادهم قليل، وكلامهم قليل، لكن أعمالهم تزن الجبال، وصبرهم يتخطى العوائق والعقبات، ويقينهم بالله جِدّ كبير...
فلتعلمي يا نفسُ أنكِ مهما كبرتِ ستزدادين ضآلة، ومهما ارتفعتِ، ستهبطين من علو، فاسمعي نصحي وامتثلي، لنكون مع ركب هؤلاء...
قد يُتعبكِ في البداية المسير، وقد تشعرين بمشقة عظيمة، وربما أسمعُ لكِ أنيناً أو بكاءً، فلا تبتئسي، واعلمي أنّ الماس لا يلمع حتّى يُصقل، وستكونين ماسةً مضيئة ذات يوم إذا سمعتِ وأطعتِ.
فهيّا بنا نُلقي أعباء الدنيا خلفنا، ونسيرُ قدماً للأمام، غايتنا رضا الرحمن، ونبراسنا نوره وهداه، هيّا فالعمرُ لا ينتظر، واللحظات تُسرقُ من بين أيدينا، فلنغتنمها، وبالطاعات نغمرها، ولعلي يوماً أراكِ نفساً زكيّة مطمئنة، أعيشُ معها في جنّة الدنيا في اصطبار، توقاً وشوقاً إلى فردوس الآخرة.