صَاحِبَةُ الامتِيَـاز



نُـور الجندلي





موقفان حدثا معي استدعياني لوقفة مطولة مع نفسي، أحاولُ اكتشاف الحقيقة من تجاربي الخاصّة، وأطلُّ سريعاً على أحوال المرأة في المجتمع، لعل الخلل يتبدى، فأعينُ في مدّ جسرٍ للعبور نحو المجد المنشود.

الأول كان في زيارة عاديّة لمجموعة من الصّديقات، تطرقنا فيها لمقارنة عجلى بين المرأة العاملة، وربّة المنزل. كانت معظمُ الحاضرات من ربّات البيوت، وبدت نقاشاتهن حائرة كسفنٍ في بحرٍ لجّيٍ تبحثُ عن مرسى. ما دار من حديث مخيف حقاً، لأنه كان ينذرُ بغرق سفنٍ هنّ قائدات لها.

وقد قرأتُ في عيونهن وعباراتهن التي بدأت تطيش كقذائف مدفعية في كلّ اتجاه، قرأتُ حسداً للمرأة العاملة، والأهدافُ متعددة.

إحداهن أرادت أن يُكتب لاسمها البقاء إن هي رحلت عن الحياة، والخلود في ذاكرة الناس، بأنها تركت بصمة حقيقية في الحياة، مجدٌ شخصيّ. ذلك ما كانت تطمح وتصبو إليه، فاكتفت بزفرات الحسرة والحرقة، كسجين في زنزانة بلا نوافذ، لا يملكُ رؤية الشمس أو الخروج إلى الحياة، فهو لا يملكُ إلا سماع زقزقة العصافير الحرة بكثيرٍ من أسفٍ وحسرة.

والثّانية أرادت العمل لتملأ فراغاً في حياتها الخاوية. لقد بدت في صراع مع الوحدة، لا تملكُ أن تسخّرها لصالحها، ولا أن تنفيها عنها إلى جزرٍ بعيدة نائية.

وأخرى رأت العمل وسيلة جيدة لتحقيق الاكتفاء المادي، الذي سيكون وسيلة إلى الاكتفاء الذاتي، وعدم الحاجة إلى الرجل. والجلوسٌ في المنزل برأيها كان عطالة وبطالة. كنسٌ وطبخ ومسح، كلّ ذلك مجاناً، بل كثيراً ما تتلقى اللوم والتقريع، وقلما نسمع كلمة ثناء.

الواقع بدا مريراً، وكلّ واحدة تحلم بالمرأة العصرية المتفوقة صاحبة الإنجازات والنجاحات. امرأة قوية مقتدرة، يحترمها الجميع، ويشيدون بها في المحاضر والمحافل. إن قصّرت فهي معذورة، وإن أحسنت فملكة متوجة على عرش القلوب. يُصدّق على كلامها إذا تحدثت، لأنها متعلمة واعية، ويلتفتون إلى رأيها إذا أشارت لأنها ذات خبرة في الحياة.

ولكن ماذا عن ربة البيت، كيف ينظر إليها المجتمع، بل كيف تنظر هي إلى نفسها. هنا يجب أن نتوقف، ونفكر ملياً.

مازلتُ أذكر تلك المرأة التي استوقفتني في أمسية ثقافية، وسألتني عن مهنتي...

كنتُ مندمجة بالحديث مع إحدى الصديقات عن أول مسرحية كتبتها، وبدا لي أنها مهتمة بما يدور. فأجبتها بأريحية: ربّة منزل!

كنتُ أتوقع أن ألمح انطفاء بريق الإعجاب في عينيها، وانسحابها عن متابعة الحديث، لكنني لم أتوقع أن تدافع عني صديقتي ببسالة، وكأنني متهمة خلف القضبان، فتنتفض لتقول لها بحماس:

- لا تصدّقي، إنها تتواضع، فهي في الحقيقة كاتبة بارعة!

في تلك اللحظة تمنيتُ لو استطعتُ الانسحاب، وقد رميت وظيفتي المقدسة ببراءة وعن غير قصد، بأنها مهمة تافهة، لا يلتفت إليها الآخرون، ولا يولونها أي تقدير. فربّة المنزل في نظرهم امرأة ساذجة، ذات تعليم سطحي، اهتماماتها لا تتجاوز المسلسلات التلفزيونية السخيفة، الموضة والتجميل وعروض الأزياء. ربّة المنزل رهينة قدرٍ وملاعق وصحون، تعرف كيف تنسقها على الطاولة، رهينة ثياب مجعدة تتطلب إزالة التشوه الحاصل لها. رهينة أطباق متسخة تحتاج إلى تنظيف، وأطفال غير مرتبين، تحاول أن تظهرهم بطريقة ما بطريقة جيدة. وزوج متطلب تتفننُ في كيفية الانصياع لأوامره، وتنفيذ متطلباته، فمن سيلتفتُ لمسرحية تكتبها امرأة محاصرة في زاوية مظلمة؟ وأيُّ إبداع يرتجى من شخصية سلبية ووظيفة بدائيّة تمتهنها ربة المنزل؟!

جلستُ وحيدة وفكرت، ورأيتُ أن الظلم واقع على هذه الشريحة من المجتمع أكثر من غيرها. والظلم هنا نوعان:

الأولُ ظلمُ المرأة لنفسها، واستهانتها بوظيفتها كأداة فاعلة لتطوير المجتمع.

والثاني: ظلم المجتمع للمرأة، وقد لقنها ظلم النفس، وسار معها محبطاً لعزيمتها، مقللاُ من شأنها، رافعاً غيرها بإعجاب، متجاهلاً وجودها وأهميته، ووظيفتها وتأثيرها.

وبحثتُ في الموسوعة عن معنى مصطلح : ربّة المنزل، فوجدتُ تعريفاً جامداً، وقرأت:

ربة منزل، أو ربّة بيت؛ هي المرأة التي تختار أن تمتهن العناية ببيتها، وتدير أمور حياتهم، وتهتم بشؤون أسرتها، وتقوم بمختلف مهام العناية داخل بيتها من تربية الأطفال والترتيب والتنظيف إلى الطهي، وفق ما تراه مناسباً.

وحاولتُ تحليله والتدقيق في معانيه، لعلي أعثرُ بين الكلمات على جوهرة، فأعجبتني كلمة ( تختار) فهي دلالة أن ربة المنزل قد عُينت مديرة لمنزلها باختيارها.

بمعنى أدق: كان بإمكان هذه المرأة أن تختار وظيفة أخرى، أو مهمة مغايرة، لكنها اختارت عن إرادة وتصميم تلك المهمة.

( تدير أمور حياتهم) أي أنها السلطة التي بيدها التحكم في كل ما يتعلق بمؤسسة البيت، وهذه السلطة تمنحها إدارة دفة التحكم بيديها، فيما يوافق أهدافها وتطلعاتها.

( وتهتم بشؤون أسرتها) وهذا الاهتمامُ كرمٌ إنساني، وعملٌ نبيل، فلا يقتصرُ الأمر على الاطلاع على أحوالهم، بل يتعداه إلى الاهتمام فيما يخصّهم.

ثم يعدد التعريفُ بعضاً من مهام المرأة في منزلها، وهذه المهام إن تم تصنيفها وشرحها لما وسعتها المجلدات. ولو كلّف شعراءٌ للإشادة بوظيفتها، لما وفّتها قصائدُ المديح شيئاً من حقها.

قلبوا أوراق الشّعر والأدب، هل تجدون أجمل من كلمة أم؟!

وابحثوا في عطر الحروف وطهر العاطفة، هل تجدون أحنّ من كلمة زوجة؟!

فتشوا في قلوبكم، وقلوب كل من حولكم، فستدركون حينها معانٍ جديدة لصاحبة هذا الامتياز الرفيع، ودون شك.. ستتغير النظرة!


وللحديث بقية بإذن الله...