الوسائل والذرائع وأثرهما في الاجتهاد السياسي
أ.د.علاء الدين الأمين الزاكي*
المبحث الخامس:
أثر استخدام الوسائل في الاجتهاد السياسي
إن أمور السياسة في هذه الأونة قد أصبحت أكثر تعقيداً وتحتاج إلي من يملك الحنكة, والدربة في الشرع ,والواقع ,ويحسن استخدام الوسائل. فعملية صنع القرار السياسي في الرؤية الإسلامية، هي في المقام الأول لون من الاجتهاد, لكن في الحياة العامة لمجابهة المواقف والوقائع المثارة فيها بقصد اختيار أحد البدائل أو الحلول العملية التى تفضي إلى جلب المصلحة ودفع المفسدة .وهذه لا تتم إلاّ بالنظر في الوسائل لما لها من تأثير بالغ في صنع القرار وبالاستقراء يمكن القول إن أي قرار صائب وراءه وسيلة فعّالة.
ولتأثير الوسائل والذرائع في الاجتهاد السياسي انقسم الناس فيها إلى فريقين:ـ
الفريق الأول :الذي توسع في هذا الباب بل وفتحه علي مصراعيه حتي وصل إلى قاعدة اليهود( الغاية تبرر الوسيلة)، ليس له مايقفه من استعمال أي وسيلة ظناً منه أنها تحقق المصلحة محتجاً بأن الدين مبناه علي تحقيق مصالح العباد ولربما تجاوز نصوص الشرع الحكيم وهو يحسب أنه يحسن صنعا ’وبالمقابل فتح باب الذرائع علي مصراعيه بغية الوصول إلي هدفه فأوقع الناس في مفاسد عظيمة.
الفريق الثاني: أغلق باب الوسائل تماماً بدعوى أنها توقيفة فحرّم علي الناس ما أباحه الله، بل وأوقع الأمة في حرج عظيم ,و في الذرائع توسع في سدها لأدني شبهة حتى أنه منع المباحات مع فائدتها للأمة بمجرد رائحة المفسدة.
فأثر الذرائع والوسائل على عملية الاجتهاد السياسي في ايجاد البديل الشرعي والنافع وخطر تضيعهما واضح بيّن ,وزيادة في الوضوح والبيان إليك هذه المطالب:ـ
المطلب الأول :إدراك المقاصد هدف الاجتهاد, عبرالوسائل.
إن هدف الاجتهاد السياسي إدراك المقاصد وهي جلب المصالح ودفع المفاسد وهوهدف الشريعة و المقصد الأساسي لها ،وأي اجتهاد في أي باب لا بد وأن يكون هذا هدفه لأن الشريعة مبناها علي تحقيق مصالح العباد في الدارين. قال العز:( وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ أَنَّ مَطْلُوبَ الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ)[31]وقال ابن القيم:( الشَّرِيعَةُ شُرِعَتْ لِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ)[32]،وقال الشاطبي:( والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل قال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[33] وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[34] وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[35] وقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[36].
والذي يدل على أهمية الوسائل للاجتهاد السياسي الذي ذكرنا أن هدفه هو المقاصد مايلي:ـ
أولاً: إن المقاصد لايمكن تحصيلها بدون الوسائل لأنها الطرق المؤدية للمصالح إلا أن يكون الفعل في ذاته مصلحة أو مفسدة , قال القرافي : (وموارد الأحكام على قسمين : مقاصد ، وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ، ووسائل ، وهي : الطرق المفضية إليها)[37] . والذي يريد أن يصل إلي المقاصد لابد وأن يكون وصوله عبر انتقاء أفضل الوسائل.
ثانياً: ارتبطت الوسائل بالمقاصد ارتباطاً وثيقاً حتي وصفها البعض بأنها من المقاصد بمنزلة الصفة مع الموصوف، قال المقري:( فالوسائل تسقط بسقوط مقاصدها ؛ إذ هي بالنسبة للأصل كالصفة مع الموصوف ، ولا بقاء للصفة مع ارتفاع الموصوف)[38] . والقاعدة : أنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة من حيث هي وسيلة إليه) [39].قال العز: (ولا شك بأن الوسائل تختلف بسقوط المقاصد ؛ فمن فاتته الجمعة والجماعات أو الغزوات سقط عنه السعي إليها ؛ لأنه استفاد الوجوب من وجوبهن ، وكذلك تسقط وسائل المندوبات بسقوطهن ؛ لأنها استفادت الندب منهن)[40] .فالارتباط يدل علي العلاقة الوثيقة بينهما.
ثالثاً:إن الوسائل ليست مقصودة لذاتها ,بل مقصودة من كونها محققة للمقاصد. قال الشاطبي:( وقد تقرر أن الوسائل من حيث هى وسائل غير مقصودة لأنفسها، وإنما هى تبع للمقاصد )[41].و قال ابن القيم :(والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد)[42].
رابعاً: تعتبر الوسائل أول خطوة في سلم الاجتهاد السياسي,فهي متقدمة من حيث التحصيل والمباشرة ,فلا يمكن للإنسان الصلاة دون السعي إليها.فالدول لايمكنها اتخاذ قررات صائبة تحقق مصلحة الأمة إلاّ بالوسائل ،فتنشئ الدول أجهزة المخابرات لجمع المعلومة المقوية للوسيلة ،وتنشئ مراكز الدراسات الاستراتجية للبحث عن الوسائل ،وتعيّن المستشارين لاقتراح أفضل الوسائل،وتوسع قاعدة الشورى للاستفادة من الآراء والمقترحات من وسائل وغيرها ،والجميع يعلم أن أول خطوة في أي اجتهاد هو الوسيلة،وإلاّ كان الاجتهاد خبط عشواء.
فتبرز أهمية الاجتهاد السياسي للبحث عن أنجع الوسائل لتحقيق المقاصد لأن المقاصد لايمكن تحصيلها إلا بالوسائل.
وبالجملة كلما كانت الوسيلة أنفع وأقوي، كانت أقرب لتحصيل المقصود , قال العز:( وَكُلَّمَا قَوِيَتْ الْوَسِيلَةُ فِي الْأَدَاءِ إلَى الْمَصْلَحَةِ ، كَانَ أَجْرُهَا أَعْظَمَ مِنْ أَجْرِ مَا نَقَصَ عَنْهَا وَكُلَّمَا قَوِيَتْ الْوَسِيلَةُ فِي الْأَدَاءِ إلَى الْمَفْسَدَةِ كَانَ إثْمُهَا أَعْظَمَ مِنْ إثْمِ مَا نَقَصَ عَنْهَا)[43].فهناك وسائل يمكنها أن توصل الإنسان إلى المقصود بسرعة وبدقة ’ فالمجتهد السياسي لا يمكنه النظر في تحقيق المصالح بعيداً عن النظر في الوسائل و الذرائع، وكما ذكرنا سابقاً فإن الاجتهاد السياسي هدفه طرح البدائل لتحقيق المقاصد والتي هي جلب المصالح ودفع المفاسد, وهذا لايتأتي إلا بالنظر في الوسائل والذرائع فتبرز أهميتها في هذا الباب وتأمل جيدا كلام ابن القيم السابق تجده في هذا الباب.
المطلب الثاني:التوسع في الوسيلة للتوسع في الاجتهاد السياسي
كما قررنا سابقاً فإن المقاصد تحتاج إلى وسائل، والوصول إلى المقاصد التي هي المصالح والمفاسد لابد وأن يكون عبر بوابة الوسائل ؛ لذلك فتح باب الاجتهاد في الوسائل لتشجيع الاجتهاد السياسي بغية الوصول إلى أنجع المصالح وأكملها .ويظهر التوسع في الوسائل والذرائع فيما يلي:ـ
المسألة الأولي:الأصل في الوسائل الإباحة حتى يرد دليل يمنعها, فالمجتهد يجد سعة في حركة فكره للبحث عن الوسائل لطرح البدائل.
والذي يدل علي أن الأصل في الوسائل الإباحة ما يلي:ـ
أولاً: قاعدة(الأصل في الأشياء الإباحة ) [44]والمقصود بالأشياء المعاملات لا مطلق الأشياء، والوسائل من المعاملات, قال ابن تيمية:( باستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التى أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس فى دنياهم مما يحتاجون إليه و الأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه و تعالى و ذلك لأن الأمر و النهي هما شرع الله)[45]. ومعناه أن الوسائل ليست من العبادات بالمعنى الاصطلاحي حتي يكون الأصل فيها التوقف حتي يرد النص بحلها.
قال العلماء :(إن انتفاعنا بهاـ أي المباحات ـ لايعود علينا بالضرر ولا على غيرنا, وبأن الله عز وجل إنما خلق هذه الأشياء لحكمة لا محالة ولا يجوز أن يكون ذلك لنفع يعود إليه سبحانه , فثبت أنها لنفعنا فيكون مباحاً لنا )[46].وقال البيانوني:(والمخ تار هو أن الشيء إذا خلا عن الضرر للنفس وللغير فالأصل فيه الإباحة لما جاء في تأييده من الآيآت والأحاديث)[47].والوسائل من جملة ذلك.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على هذا المعنى فمن ذلك:ـ
أولاً :قوله تعالي:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[48]قال الحموي:( أَخْبَرَ بِأَنَّهُ خَلَقَهُ لَنَا عَلَى وَجْهِ الْمِنَّةِ عَلَيْنَا ، وَأَبْلَغُ وُجُوهِ الْمِنَّةِ إطْلَاقُ الِانْتِفَاعِ فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ)[49].
ثانياً:قوله صلي الله عليه وسلم:"ما أحل الله في كتابه فهو حلال و ما حرم فهو حرام و ما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله العافية فإن الله لم يكن نسيا ثم تلا هذه الآية {َ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[50].
ثالثاً:لم يتوقف السلف في الوسائل في الاجتهاد السياسي إلا إذا ورد الدليل بمنعها ,فمن ذلك جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وسيلة لحفظ القرآن بعد استشهاد الحفظة في اليمامة[51].
وجمعه في عهد عثمان رضي الله عنه خشية الفرقة بين المسلمين[52].
فأكرم بها من سعة مكنت أهل الاجتهاد من التوسع في هذا الباب.وابتكار الوسائل المؤثرة في الاجتهاد السياسي لتكون الثمرة أقرب إلى الصلاح.
وقد نظر الفقهاء في الوسائل بتسامح واسع وتغافر كبيرفخرّجوا على أصلها المباح جملة من القواعد, فمن ذلك :( أن الوسائل أخفض رتبة من المقاصد )[53] .
وقولهم : (مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسائل أبداً)[54].
ولما كانت مرتبة الوسائل أدنى من مرتبة المقاصد حصل التساهل في حكم الوسائل فمن ذلك قولهم : (يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد) [55]،ومعنى القاعدة أن الشرع يتسامح في باب الوسائل فيجيز بعض الأفعال التي لا يتسامح بمثلها في باب المقاصد ,وبابها أوسع من المقاصد.
المسألة الثانية: قاعدة(للوسائل حكم المقاصد) ,فهذه القاعدة من قواعد التوسع في باب الوسائل.
قال ابن القيم:(لَمَّا كَانَتْ الْمَقَاصِدُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بِأَسْبَابٍ وَطُرُقٍ تُفْضِي إلَيْهَا كَانَتْ طُرُقُهَا وَأَسْبَابُهَا تَابِعَةً لَهَا مُعْتَبَرَةً بِهَا ، فَوَسَائِلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَعَاصِي فِي كَرَاهَتِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهَا بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَاتِهَا وَارْتِبَاطَاتِ هَا بِهَا ، وَوَسَائِلُ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ فِي مَحَبَّتِهَا وَالْإِذْنِ فِيهَا بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَتِهَا ؛ فَوَسِيلَةُ الْمَقْصُودِ تَابِعَةٌ لِلْمَقْصُودِ ، وَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ ، لَكِنَّهُ مَقْصُودٌ قَصْدَ الْغَايَاتِ ، وَهِيَ مَقْصُودَةٌ قَصْدَ الْوَسَائِلِ)[56]وقال السعدي:( إن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل المحرم، ولو كانت جائزة تكون محرمة، إذا كانت تفضي إلى الشر.)[57]’وقال :(والوسائل لها أحكام المقاصد فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ,ومالا يتم المسنون إلا به فهو مسنون ,وطرق الحرام والمكروهات تابعة لها ,ووسيلة المباح مباحة)[58] ’وقال المقري :(والتحقيق :كل ما لايتوصل إلى المطلوب إلا به فهو مطلوب )[59]. وهذا يعني أن الوسيلة تأخذ حكم مقصدها حسب الأحكام التكليفية الخمسة .فهي دعوة إلى الأخذ بالوسائل مادام أنها تؤدي إلى مصالح وهذا غاية التوسع.
وفي باب الذرائع عبر عنها بفتح الذرائع ,فجاءت ضرورة فتح الذرائع المؤدية الى جلب المصالح وتحقيق المقاصد التي لا تحصل إلا بها.
قال القرافي:( اعْلَمْ أَنَّ الذَّرِيعَةَ كَمَا يَجِبُ سَدُّهَا يَجِبُ فَتْحُهَا وَتُكْرَهُ وَتُنْدَبُ وَتُبَاحُ فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ هِيَ الْوَسِيلَةُ فَكَمَا أَنَّ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ فَوَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ كَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ)[60] وقد مثل العلماء لذلك بالنظر الى المخطوبة مع حرمة النظر أصلاً.
وهذه سعة أخرى إذ إن الأمور الواجبة إذا توقف علي إقامتها شيء يكون ذلك الشيء واجباً .وهذا يختلف عن تبرير الوسائل بالغايات.لما سيأتي من ضابط أقوي لذلك إن شاء الله.
وهذا التوسع في باب الوسائل أعطى الاجتهاد السياسي دفعة قوية لأنه عمود الاجتهاد وأساسه ,وظل الاجتهاد السياسي في تطور كلما تتطورت وسائله،و أصبح في هذا الزمان أقرب الناس إلى الثمرة والمصلحة أحسنهم استخداماً للوسائل وابتكارا لها.وأبعد الناس عن المصلحة أكثرهم بعداً عن الوسائل .فكان للوسائل أثر كبير في تطور الاجتهاد في باب السياسة الصحيحة.
المطلب الثالث :صحة الوسيلة لضمان سلامة الاجتهاد السياسي
فإذا قررنا التوسع في الوسيلة’ فلابد وأن نعلم بأننا نريد اجتهاداً صحيحاً موافقاً لشرعنا لا يتعارض مع ديننا ’وهذا يدفعنا إلي اختيار الوسيلة المشروعة فالمسلم له حدود لايجوز له أن يتعداها، قال تعالي:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[61]’ فلذلك ولضمان سلامة الاجتهاد اشترط العلماء عدم مصادمة الوسيلة لنص شرعي فإذا حصل ذلك فلا اعتبار لها إلا في حالات معينة. . وإن توهم البعض حصول المصلحة بها. ولو أن فيها مصلحة لم يمنعها الشارع الحكيم, فالغاية في الشرع لا تبيح الوسيلة . قال ابن القيم:( مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين فساد العلم وفساد القصد)، ويقول:( إن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدا)[62]،وقال كذلك:( وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى ولكن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه وهي من أعظم القواطع عنه فحاله أيضا كحال هذا وكلاهما فاسد القصد، ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء إياك نعبد وإياك نستعين)[63].وابن القيم كأنه يشير إلى قاعدة العلمانين (الغاية تبرر الوسيلة)وهي التي قررها ونادي بها نيكولا ميكافلي المولود في فرنسا عام 1469 م في كتابه المسمى ( الأمير)، وتلقفها اليهود وجعلوها أساس المصيدة التي أوقعوا فيها بعض المسلمين فأصبحت أساس الاجتهاد السياسي في باب الوسائل.
وقد رد علي هذه الفكرة الإباحية حتي الغربين, فقال هكسلي عن دعاتها:(إنهم يعبّدون الطريق إلى جهنم, وقال: إن الأغراض الطيبة لايمكن تحقيقها إلا بالوسائل الطيبة وحدها ولايمكن تحقيقها بالوسائل الخبيثة ’إن الغاية لا تبرر الوسيلة)[64] ,وعلماء الشريعة قد بينوا ذلك من قبل’ فقال العز:( وَالشَّرُّ لَيْسَ قُرْبَةً وَلَا وَسِيلَةً ؛ إذْ لَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ إلَّا بِأَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ وَالْخُيُورِ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ، بِخِلَافِ ظَلَمَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يُتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ بِالشُّرُورِ ، كَغَصْبِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ ،وَظُلْمِهِمْ الْعِبَادَ ، وَإِفْشَاءِ الْفَسَادِ وَإِظْهَارِ الْعِنَادِ ، وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ)[65]،وقال العنزي:( ذهب فريق إلى استنفار جميع ما يمكن من وسائل وأساليب في سبيل الوصول إلى الغاية ، بغض النظر عن حِل الوسيلة أو عدم جوازها ، وهم يسيرون على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة ، سواء قالوها بألسنتهم أو ترجمتها أفعالهم ، ولذلك تجد هذا الصنف، كثير التخبط والتقلب والترحل في أمور الدنيا والدين ، ويغلب على من سلك هذا السبيل الطيش ، والعجلة ، والتهور ، والمغامرة) [66].
فإذا حرّمت الشريعة وسيلة جزمنا بأن المصلحة في تركها والمفسدة في فعلها، وإن توهم البعض حصول المصلحة .فقد ركب أقوام هذا الهوى وأحدثوا الخلل في الفكر الاجتهادي في هذا الباب حتى ضلوا وأضلوا ,قال ابن تيمية :( وهذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل والمقاصد أما المقاصد فان حاصلها بعد التعب الكثير والسلامة خير قليل فهى لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى ثم إنه يفوت بها من المقاصد الواجبة والمحمودة ما لا ينضبط هنا، وأما الوسائل فإن هذه الطرق كثيرة المقدمات ينقطع السالكون فيها كثيرا قبل الوصول، ومقدماتها فى الغالب إما مشتبهة يقع النزاع فيها، وإما خفية لا يدركها إلا الأذكياء، ولهذا لا يتفق منهم اثنان رئيسان على جميع مقدمات دليل إلا نادرا)[67].فهذا حال المنظرين اليوم في باب السياسة ،حتي أصبحت السياسة في غاية التعقيد رغم سهولتها.
وتكون الوسيلة ممنوعة في عدة حالات منها:ـ
أولاً:إذا ورد النص بتحريمها ،كالوقوع في الظلم لترتيب أوضاع الدولة لأن الظلم ورد في تحريمه أدلة كثيرة. وقد يتخذ بعض الناس الغناء وسيلة لشغل الشعوب عن الفتن بينهم، أو يتخذ الربا وسيلة لرفع الفقر مع وجود الوسائل المباحة، أو غير ذلك ,فإذا بني الاجتهاد السياسي على محرم فهو على شفا جرف هار .
ثانياً:أن تكون الوسيلة في ذاتها مفسدة وإن لم يرد فيها نص شرعي بحرمتها، ولكن عرف من واقع الحال أنها مفسدة .مثل شرب الدخان الذي أجمع الأطباء علي ضرره فلايمكن أن يتخذ وسيلة للدخل القومي.
ثالثاً:أن تكون الوسيلة صحيحة ولكنها مفضية إلي مفسدة علي وجه القطع أو الظن الغالب، وبهذا قد أصبحت ذريعة كالمظاهرات المصاحبة للتخريب أو المحدثة للفوضي الجالبة للضرر , قال القرافي ):الذَّرَائِعُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى سَدِّهِ وَمَنْعِهِ وَحَسْمِهِ كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى إهْلَاكِهِمْ وَكَذَلِكَ َسَبُّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ سَبِّهَا)[68].وذلك لأن مفسدته واضحة وليس لعاقل دعك من مجتهد سلوك هذه الوسيلة .فليس لحاكم أن يتحرش بالكفار وهو يعلم أن عاقبة ذلك وخيمة من إهلاك الناس وغيره.
أما إذا أفضت الوسيلة إلى مصالح مختلطة بالمفاسد، فإن هذا من أصعب الأبواب في الشريعة لأنها تحتاج إلى مجتهد يحسن تقدير المصالح والمفاسد لئلا يوقع الناس في الحرج الشرعي أو الدنيوي ,والعلماء رحمهم الله تعالي بينوا كيفية التعامل مع هذا الواقع بسلوك طرق عديدة فمن ذلك :ـ
أولاً:إذا أفضت الوسيلة الى مصالح ومفاسد وكانت المصلحة أرجح من المفسدة أخذنا بالمصلحة ولا نبالي بارتكاب بعض المفاسد ,قال ابن تيمية:( ليس كل سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعاً، بل ولا مباحاً وإنما يكون مشروعاً إذا غلبت مصلحته على مفسدته)[69]،وقال ابن القيم:( إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان وألا يفوت منها شيء، فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض قدم أكملها وأهمها وأشدها طلباً للشارع)[70]، وقال العز:( إذَا اجْتَمَعَتْ مَصَالِحُ وَمَفَاسِدُ فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ فَعَلْنَا ذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمَا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ،وَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ أَعْظَمَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ حَصَّلْنَا الْمَصْلَحَةَ مَعَ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ)[71]،ولانبالي بوجود المفسدة لأنها نادرة ,قال الشاطبي:(أما ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهو على أصله من الإذن لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندور فى انخرامها إذ لا توجد فى العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة)[72].فتكون بذلك وسيلة معتبرة شرعاً رغم وجود هذه المفسدة.كالتعام بالبيع والشراء مع الأعداء ففيه مصلحة للأمة من ناحية الدخل ومفسدة بحصول النفع للعدو.
ثانياً:إذا رجحت المفسدة كان درؤها مقدماً ولا نبالي بفوات المصلحة ولا بوسيلتها ما دام أنها تفضي إلى مفسدة راجحة واعتبرناها ذريعة وسددناها قال ابن تيمية:( أما إذا غلبت مفسدته فإنه لا يكون مشروعا بل محظورا وإن حصل به بعض الفائدة , ومن هذا الباب تحريم السحر مع ماله من التأثير وقضاء بعض الحاجات وما يدخل فى ذلك من عبادة الكواكب، ودعائها، وإستحضار الجن، وكذلك الكهانة، والاستقسام بالأزلام، وأنواع الأمور المحرمة فى الشريعة مع تضمنها أحيانا نوع كشف أو نوع تأثير)[73] . وقال العز:(وَإِنْ تَعَذَّرَ الدَّرْءُ وَالتَّحْصِيلُ فَإِنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ أَعْظَمَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ دَرَأْنَا الْمَفْسَدَةَ وَلَا نُبَالِي بِفَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } حَرَّمَهُمَا لِأَنَّ مَفْسَدَتَهُمَا أَكْبَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا .َأمَّا مَنْفَعَةُ الْخَمْرِ فَبِالتِّجَارَة ِ وَنَحْوِهَا ، وَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْمَيْسِرِ فَبِمَا يَأْخُذُهُ الْقَامِرُ مِنْ الْمَقْمُورِ .وَأَمَّا مَفْسَدَةُ الْخَمْرِ فَبِإِزَالَتِهَ ا الْعُقُولَ ، وَمَا تُحْدِثُهُ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ .وَأَمَّا مَفْسَدَةُ الْقِمَارِ فَبِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ، وَهَذِهِ مَفَاسِدُ عَظِيمَةٌ لَا نِسْبَةَ إلَى الْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ إلَيْهَا)[74] .
ثالثاً: إذا تساوت المصلحة والمفسدة كان درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ,ومنع وسائلها مقدم علي إباحته , وقد أنكر ابن القيم وجود مثل هذا [75], وقال الشاطبي:( فإن تساوتا فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الاخر إذ اظهر التساوي بمقتضى الأدلة ولعل هذا غير واقع في الشريعة)[76].
رابعاً:إذا كانت الوسيلة تفضي الى مفسدة خاصة ومصلحة عامة, كتسليم شخص الى الأعداء حماية لعامة الناس فهذه على أنواع:ـ
(أ)إذا كانت المفسدة العامة نادرة الحدوث والخاصة متحققة ,فلايجوز اتخاذ هذه الوسيلة.
(ب)إذا كانت المفسدة العامة متحققة وكذا الخاصة فتعتبر هذه حالة ضرورة وذلك لقيام الدليل وهو قوله صلي الله عليه وسلم:" الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[77].والتعامل مع هذه الحالة بالرجوع إلى ضوابط الضرورة.
خامساً:إذا تعارضت مفسدتان بمعنى ليس هناك خيارإلاّ بالوقوع في أحدهما فتدفع أعظم المفسدتين، قال السيوطي:( قَاعِدَةٌ رَابِعَةٌ : هِيَ ( إذَا تَعَارَضَ مَفْسَدَتَانِ رُوعِيَ أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا)[78].فتراعي المفسدة العامة بارتكاب المفسدة الخاصة. وإذا اضطرت إحدي الدول لإخراج ثرواتها ولايكون ذلك إلاّ عن طريق الكافرين لامتلاكم القدرة والخبرة والمادة ،يتعامل مع أخف الكافرين عداوة للمسلمين. قال ابن تيمية:( وذلك أن مقارنة الفجار إنما يفعلها المؤمن فى موضعين أحدهما, أن يكون مكرهاً عليها والثانى, أن يكون ذلك فى مصلحة دينية راجحة على مفسدة المقارنة أو أن يكون فى تركها مفسدة راجحة فى دينه فيدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال لمفسدة المرجوحة)[79].
وهذا الباب من أبرز أسباب الخلاف بين أهل الاجتهاد السياسي في هذا الزمان؛ وذلك لاختلافهم في تحديد المصلحة ،والمفسدة، وأيهما أرجح عند الإفضاء، واختلافهم في الوسيلة المؤدية إليها هل هي طريق إلى المصلحة أم المفسدة ,كالمشاركة في وسائل الإعلام الهابطة ببعض البرامج الهادفة ,ودخول المجالس النيابية الجامعة للمسلمين وغيرهم ’والمشاركة في الانتخابات وغير ذلك .
.فيتعين علي من نصب نفسه مجتهداً سياسياً أن يتعرف على وسائل تقدير المصالح والمفاسد مع العلم أن ذلك يختلف زماناً ومكاناً والله المستعان.
المبحث السادس:أثر استخدام الذرائع في الاجتهاد السياسي
المطلب الأول:إدراك المقاصد هدف الاجتهاد السياسي عبر الذرائع.
كما هو معلوم فإن الذرائع من أكثر الأشياء التصاقاً وارتباطاً بالمقاصد التي هي هدف الاجتهاد السياسي وذلك لما يأتي:ـ
(أ)أن الذرائع نفسها مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية قد دلت النصوص الكثيرة على اعتباره)[80] ومن ذلك قوله تعالي:{ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[81].فسب آلهة المشركين ذريعة إلى سب الله تعالي منعته الشريعة مع أنه مباح في الأصل.
(ب)إن في سد هذه الذرائع حماية لمقاصد الشريعة , وتوثيقاً للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد.
قال ابن القيم :( إذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم وإغراءً للنفوس به. وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح له الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضاً ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية الى المحارم بأن حرمها ونهى عنها)[82]
(ج)إن سد هذه الذرائع يرجع إلى اعتبار المآل واعتبار مآل الأفعال من المقاصد المهمة في الشريعة الإسلامية .
قال الشاطبي :( النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً سواء أن كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول فى الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة) [83].
كقوله صلي الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:" يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا ، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ"[84],فواضح من هذا الحديث ارتباط الذرائع بهذا المقصد.
يتبع