بين الزهراء وأم المؤمنين (1ـ 2)


فاطمة عبد الرءوف




هناك شخصيات نادرة على مدار التاريخ الإنساني قدر الله لها أن تلعب أدوارا محورية فوق هذه الأرض وأن تتحول لنماذج عليا يقتدي بها البشر ويتمثلون خطوات حياتها بمزيج من التقدير والرغبة الصادقة في التشبه والاقتداء.
لم تكن هذه الشخصيات حكرا على جنس دون آخر فلقد تواجدت هذه الشخصيات بين الرجال والنساء.. بل وضربت مثلا للذين آمنوا جميعا وليس للمؤمنات فحسب: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} (التحريم: 11،12).
"أم أبيها"
ومن هذه النماذج النسائية الفريدة في التاريخ الإنساني امرأتان كان لهما تأثير كبير جدا في المجتمع الإسلامي وفي حياة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم:
المرأة الأولى (أم أبيها): فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الفتاة الحانية التي مثلت قيمة كبيرة جدا لأبيها صلى الله عليه وسلم، فلقد نشأت وترعرت في وقت كانت الدعوة تشق خطواتها الأولى في مكة وسط جحود وإيذاء وتكذيب وصد عن سبيل الله، كانت فاطمة رضي الله عنها ترقب عن قرب ما يتحمله أبوها صلى الله عليه وسلم من إيذاء لا يزيده إلا عزما وصلابة.
وتفاعلت الزهراء مع الدعوة وبذلت جهدها قدر ما تستطيع لتخفيف الأذى عن أبيها صلى الله عليه وسلم ومن ذلك "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم فجاء به فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه قال فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ثم قال:اللهم عليك بقريش ثلاث مرات" [رواه البخاري]. لم تتردد فاطمة من الخروج الفوري من بيتها عندما علمت بالخبر، لم تجفل من رؤية أبي جهل والملأ وهم يتضاحكون، لم يشغل تفكيرها إلا رفع الأذى عن أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الموقف الذي رواه البخاري لا شك أن هناك العديد والعديد من المواقف الحياتية المتنوعة التي عاشتها الزهراء مع الرسول صلى الله عليه وسلم واستحقت لأجلها لقب (أم أبيها) فأي حنان لقيه صلى الله عليه وسلم من ابنته وأي رعاية أحاطته بها وكيف لا وهي ابنة خديجة رضي الله عنها؛ تلك المرأة العظيمة العطوفة التي هيأت للنبي صلى الله عليه وسلم الجو الهاديء الآمن الذي استحقت عليه أن تبشر ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.. تلك المرأة العظيمة التي خدمت النبي بنفسها وواسته بمالها وخففت عنه كثيرا من الضغوط وما كان يلقاه من العنت والتكذيب.
حنان لا ينتهي
لقد عاشت الزهراء مع أبيها وأمها محنة الحصار أيام الشعب، كان الإجهاد عاما واشتد البلاء على خديجة رضي الله عنها وابنتها الصغيرة فاطمة وما ان انتهت سنوات الحصار الجائر حتى توفيت خديجة رضي الله عنها متأثرة بالجهد الذي عانته طيلة السنوات الثلاث، وقربت المحنة الجديدة بين فاطمة وأبيها فبقدر ما افتقدت فاطمة أمها شعرت بمزيد من الحاجة لأبيها ومزيد من الرغبة في مواساته وتعويضه ما افتقد من الحنان فكانت له كالأم لولدها.. حتى بعد أن تزوجت وأنجبت ظلت تمنحه هذا الشعور الحاني الجميل فعندما قامت السيدة فاطمة رضي الله عنها بصناعة خبز شعير وعندما شمت رائحته واشتهت نفسها أن تتذوقه تذكرت النبي صلى عليه وسلم فأسرعت إليه وأتته ببعض من الرغيف، فتناوله النبي وأكله وقال: (يا فاطم! هذا أول طعام يدخل جوف أبيك منذ ثلاثة أيام) [ رواه الطبراني].
فكأنما شعرت فاطمة بجوع والدها فلم تستطع تناول رغيفها دونه.. لذلك أيضا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يكون دائما قريبا منها فعندما جهز علي بن أبي طالب بيتا بعيدا عن بيت النبي صلى عليه وسلم حثه النبي على اتخاذ منزلا قريبا منه وكان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول: الصلاة يا أهل البيت! {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33].
قرة عين أبيها
هكذا كانت فاطمة قرة عين أبيها وجزء من نفسه أو بضعة منه كما كان يقول صلى عليه وسلم لا يطيق أن يؤلمها شيء فعندما خطب عليا بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد وقال: (أما بعد ، أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد، فترك علي الخطبة) وفي رواية للبخاري (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني) [متفق عليه] فالرسول صلى الله عليه وسلم يذكر صهره أبو العاص بن الربيع زوج ابنته زينب بكل الخير في إشارة مقارنة بين موقفه وموقف علي بن ابي طالب من الابنة الصغيرة فاطمة التي هي بضعة من أبيها أي جزء من نفسه يؤذيه ما آذاها فغار صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة أن تشاركها رجلها ابنة أبي جهل.
هذه هي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.. نموذج المرأة الكاملة التي نحبها ونجلها تماما كما أحبها مجتمع الصحابة وأمهات المؤمنين وهو ما سيتضح في المقال القادم الذي نوضح فيه العلاقة الجميلة التي ربطت بين أم المؤمنين المبرأة من فوق سبع سماوات السيدة عائشة وبين أم أبيها المرأة الكاملة السيدة فاطمة رضي الله عنها وكم سيتضح لنا مدى التزوير الذي لحق بتاريخنا على يد من أثاروا شبهات الكراهية بين الصالحين والصالحات من القمم الإنسانية العالية.