الواقع المر

فندية العنزي



لقد سخّر المولى جل وعلا ما في الكون من مخلوقات على نحو يتماشى مع استخلاف الإنسان في الأرض، ويستوي في التمتع بهذا التسخير البرُّ والفاجر والتقي والشقي، ولكن النهاية للتقوى والمتقين.. هذا وللنفس إقبال وإدبار، فتنشط تارة وتسأم أخرى، لا سيما مع تقلبات الحياة وهمومها، وثمة وسيلة لا ننكر أثرها في النفوس، وهي وسيلة مأذون بها شرعاً بقيود ينبغي مراعاتها، ألا وهي السفر.
فأغراض الأسفار متعددة، وعليه تفترق أحكامها، ولا بد أخي أن تدور رحى الصراع الحضاري بين أمة وأخرى؛ لذا فإن الأمة المتراخية عن قيمها تكون معرضة بقدر تهاونها لغزو أمة أخرى، فمع تقارب الزمان واختلاط الأمم ببعضها تتأكد ضرورة الالتزام بالشرع الحنيف، فيرى البعض أن السياحة في الخارج أمر ضروري ومحتم. ولا مكان لتلك الدعوى الواهية لدى منصف العقل وسوي الفطرة، والسياحة المشروعة هي المحكومة بآداب الإسلام وأعراف أهله، وإني لأنحي باللائمة على أناس عُرفوا بالتقوى والخشية، وقد بلغوا من العلم ما يربأ بهم عما زلت به أهواؤهم، فكم يضيق صدرك وتنقض أساريرك حين تسمع أو ترى أحد أولئك الصالحين وقد تأهب وأهله للسفر لدول عربية أو إسلامية ليقضي إجازته فيها.
أناشدك الحق أخي: هل تذكر أنك عدت من تلك الأسفار ولم تلم نفسك ويؤنبك ضميرك على تلك المنكرات التي رأيتها ولم تستطع إنكارها؛ لأسباب أنت بها أعلم؟ فبالله عليكم كيف يليق بمن عرف الله تعالى حق المعرفة ونشأ بفطرة سليمة مستقيمة أن تستمرئ نفسه الزكية تلك الفتن والمناظر التي لا ترضي الله في أغلب أحوالها؟ ولا تنس أخي أن الدنيا سجن المؤمن ومن استشرف الفتن استشرفته، ولنعلم جميعاً أن المسلمين مستهدفون من قِبَل الجميع عرباً وعجماً، فلماذا نسعى في إذابة الذاتية الإسلامية، بل علينا إبراز تلك الشخصية الإسلامية وصقلها وإظهار سماتها وتجسيد القدوة وإظهارها للإنسانية حتى تكون قادرة على مواجهة الصراع الفكري.
وكي لا أنسى لا تكوني أيتها العفيفة ممن تتبع كل ناعق من الكفرة فتأخذك الغفلة وغلبة الهوى إلى نبذ وخلع الحشمة والحياء والحجاب، فتراها تُلقي بحشمتها وحيائها وحجابها خلف ظهرها حين تحلِّق على متن الطائرة مودِّعة قرآنها وقبل ذلك خشية ربها {ليعلم الله من يخافه بالغيب} [الأنعام: 94].
فعلى أبناء المسلمين عامة رجالاً ونساءً الاتصاف بالصفات الحميدة والبعد عن مرذولات الأخلاق ومساوئ الصفات في بلدهم وخارجها؛ لكي يجسدوا القدوة الحسنة في أنفسهم، وتتضح للآخرين من حالهم بما يجذبهم إليها ويجعلهم يقصدونها ويأتون بها. وكما أسلفت فإن التبعة أشد والأمانة أشق على من تساهل في السفر إلى تلك البلاد ممن يعدون من أئمة العلم والهدى، فلا أدري متى يدرك أولئك القوم خطورة ما استهانوا به؟! ألم يعلموا أن الناس بهداهم يقتدون؟ بل كيف غاب عنهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:"من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة..." الحديث؟
واقرؤوا إن شئتم قول الحق جل وعلا: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض...} [الأعراف: 150].
يخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم، وإنما باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاته، فالشرف والعزة وعلو المنزلة تكمن في الالتزام بمنهج الإسلام، فإذا لم يتحقق ذلك فإنه مثل من بلغه الإسلام ولم يرفع به رأساً {كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} [الأعراف: 176] وأنا أربأ بك أخي الكريم أن تنحط وترضى لنفسك وأهلك معصية الخالق وانتهاك محارمه "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته"، وذلك من خلال السفر لدول تتسمى بالإسلام دون حقيقته، وفي الأثر: "يؤتي بمحمد صلى الله عليه وسلم يسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم". ولا شك أن من يحوز بهذا الفضل والمكانة المرموقة في الدنيا والآخرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم- هي أمة الاتباع الملتزمون بهدي الإسلام المقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونهم، الذين اصطبغوا بصبغة الإسلام مضموناً وشعاراً فتميزوا به ونُسبوا إليه.
ولا يخفاك أخي مفاسد السفر لتلك الدول، فلا تحمِّل نفسك أوزاراً لست تطيقها، ومن المفاسد: الاختلاط المحرم، فقد تتعرّض أنت لذلك شئت أم أبيت، والطامة الكبرى تجوال بعضهم بالمزارات والأضرحة والمشاهد المحرمة بغرض التفرج فقط لا غير، ولا يعلم صانع ذلك أنه يخدش توحيده ويشوّش صفاءه وإن لم يكن يقصد, ومنه أيضاً التصوير للذكرى كما يزعمه البعض من ضعاف العقول والإيمان، ولا يجهل أحد نصوص الوعيد الشديدة في النهي عنه، وإن كنت في مقام الحصر والعد لتلك المنكرات فلن ينتهي بي المقام، ولكن الحلال بيِّن والحرام بين، وسلامة الدين أولى, واعلم بأن الله يراك وإن لم تكن تراه؛ فلا تستأنس نفسك بالمنكرات.