الاستخلاف في الصلاة
أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الطيـار
· المبحث الثاني: فيمن يصح استخلافه ومن لا يصح
تمهيد:
... إذا نظرنا إلى الشروط المعتبرة في الإمامة نجد أنها قد تكون شروطا معتبرة في الاستخلاف ولذا اشترط كون المستخلف صالحا للإمامة كما ذكرناه سابقا لكن قد يكون من يصلى خلف الإمام ليس على الدرجة المطلوبة يعنى قد يكون أخف منه درجة وهذا يحدث كثيرا بل إن شئت فقل إن الغالب على المأمومين كونهم غير مجيدي القراءة أو أميين. ولما كان هذا الأمر مهما بالنسبة للإمام والمأموم جعلنا لذلك مبحثا نبين فيه من يصلح للاستخلاف ومن لا يصلح ومتى يكون من لا يصلح مستخلفا.
§ استخلاف الفاسق:
إنه مما ينبغي نصح الأئمة به أنه إذا عزم أحدهم على الخروج من الصلاة لعذر قام به وأراد أن يستخلف أن يتقي الله ويحرص على اختيار أهل الدين والفضل لإكمال صلاة المأمومين مراعاة لحق صلاة المأموم فإن المأموم أمانة في عنق الإمام.
لكن لو أن إماما استخلف فاسقاً فهل ينعقد الاستخلاف به؟ نقول اختلف أهل العلم في الصلاة خلف الفاسق هل هي صحيحة أم غير صحيحة؟
والصحيح أن هناك تفصيلا في هذه المسألة ، والتفصيل المراد هنا في نوع فسق المستخلَف. ففسق المستخلَف يكون من جهتين:
الأولى: أن يكون فسقه من جهة الأعمال كأن يكون مرتكبا لكبيرة من كبائر الذنوب كشرب خمر وسرقة وزنا أو مرتكبا لصغيرة من صغائر الذنوب كشرب دخان وحلق لحية فهذا اختلف أهل العلم في صحة استخلافه. والصحيح أنه لا ينبغي للإمام أن يقدم مثل هؤلاء إذا أراد الاستخلاف لكن إذا قدمهم صحت الصلاة خلفهم.
الثانية: أن يكون فسقه من جهة الاعتقاد أو من جهة الأعمال التي بها يصير المستخلف كافرا كأن يكون ممن يذبح لغير الله أو ممن يعتقد أن النفع والضر من غير الله أو ممن يقوم بالسحر فهذا لا يجوز استخلافه بلا خلاف بين أهل العلم، فمتى صلى المأموم خلف واحد من هؤلاء أو استخلفه الإمام جاز للمأموم أن ينفرد ويكمل صلاته وحده فإن أتمها خلفه أعاد.[12]
§ استخلاف الصبي:
اختلف أهل العلم في ثبوت الإمامة في حق الصبي، فذهب بعضهم وهم الأحناف والمالكية ورواية عند الحنابلة أن الصبي لا تصح إمامته، فإذا كان لا تصح إمامته فلا يصح استخلافه هذا في الفريضة، أما في النافلة فلم يمنع إمامته إلا الأحناف.
قال بعضهم وهم الشافعية وإحدى الروايات عن الحنابلة أن الصبي تصح إمامته وبالتالي يصح استخلافه وهذا هو الصحيح لثبوت الخبر في ذلك.
فقد جاء في صحيح البخاري من حديث: عمرو بن سلمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه صلوا كذا في حين كذا وصلوا كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني، لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي ألا تغطون عنا إست قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص.[13]
§ استخلاف اللقيط:
المراد باللقيط هو ولد الزنا ولا خلاف بين أهل العلم في صحة الصلاة خلفه غير أنهم اختلفوا في كراهية الصلاة خلفه وبالتالي هل يكره استخلافه أم لا يكره؟ والصحيح عدم الكراهة في إمامته واستخلافه لأن هناك قاعدة معروفة عند الفقهاء وهي:
"إن صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره" فمتى سلم اللقيط في دينه وأصبح أهلاً للإمامة فالصحيح عدم كراهية إمامته وصحة صلاته بكل حال.
§ استخلاف العاجز:
إذا استخلف الإمام عاجزا نقول: لا يخلو العاجز من حالتين:
الحالة الأولى:أن يكون عجزه عن القيام في الصلاة فهنا الصحيح من أقوال أهل العلم جواز استخلافه، لأنه متى صحت إمامته صح استخلافه، ولكن هل يصلى المأموم جالسا لجلوس المستخلَف؟
نقول: بل يصلى المأموم قائما لأنه ابتدأ الصلاة قائما ولا يضر جلوس الإمام المستخلف في هذه الحالة.
الحالة الثانية: أن يكون عجزه عن الركوع أو السجود، وهذا محل خلاف قوي بين أهل العلم والأولى أن يقال إنه ينبغي على الإمام أن لا يستخلف العاجز عن الركوع والسجود خروجا من الخلاف، فإن لم يجد غيره للاستخلاف جاز له أن يقدمه فيصلى بإيمائه ويصلى المأموم بالركوع والسجود التامّين.
§ استخلاف من قومه له كارهون:
هذه المسألة مهمة جدا وبخاصة في هذه الأزمنة التي التبس فيها الحق بالباطل على كثير من الناس يكرهون بعض الأئمة لا لقصور في دينهم بل لغرض من أمور الدنيا أو نتيجة لأمر حصل بين الإمام وبين بعضهم، فاختلفوا في مصلحة ما ومن هنا تأتي الكراهية ولذا كان ولا بد من وجود ضوابط تضبط فيها هذه المسألة فنقول وبالله التوفيق: لا تخلو كراهية المأموم للمستخلف من حالتين:
الأولى: أن يكرهونه لنقص في دينه كأن يكون المستخلف ظالما أو ممن يعاشر أهل الفسق ويجعل له أخلاء أو يكون ممن ينقص هيئات الصلاة ولا يكملها وهذا يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا رجل أمّ قوما وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وأخوان متصارمان"[14] أي متقاطعان
الحالة الثانية: أن تكون كراهية المأموم للمستخلف من أجل تدينه وتمسكه بالسنة فهنا لاعتبار بهذه الكراهية بل على المأموم أن يجاهد نفسه وأن يحمد ربه على أنه صاحب دين وسنة بل عليه أن يجتهد في الحصول على من هذه صفته والله الموفق.
§ استخلاف الأمي:
المراد بالأمي هنا الذي لا يقرأ الفاتحة على الوجه المطلوب قراءته فيحيل معانيها عن المعنى الذي جاءت به فهنا هل يجوز استخلافه؟
نقول: اختلف أهل العلم في حكم إمامة الأمي فذهب الأئمة الأربعة إلى أنها لا تصح الصلاة خلفه وهذا هو الصحيح وبالتالي إذا قلنا بعدم جواز إمامته فلا يصح عندئذ استخلافه، لكن إن استخلفه في الصلاة السرية دون الجهرية فالأمر في ذلك هين، بل نقول الأفضل في حقه استخلافه في السرية إذا كان من أهل الصلاح والدين لأنه لا يترتب على ذلك بطلان صلاة المأموم ما دام أنه لا يجهر بالقراءة.
وإذا كان المستخلف يجيد الفاتحة ولا يخطئ فيها في لحن وغيره ولا يجيد غيرها فقد يخطئ في القراءة الزائدة على الفاتحة فهل يشرع للإمام استخلافه؟
الصحيح أنه يجوز استخلافه وتصح الصلاة خلفه لأن الفاتحة ركن فما دام جاء به على الوجه المطلوب شرعا صحت الصلاة بذلك، أما الزيادة على الفاتحة في الصلاة فهي سنة وإن كان الأولى على الإمام اختيار من تصح قراءته.
§ استخلاف الوافدين العاملين من غير المواطنين:
إن مما نلاحظه عند الكثير انزعاجه عند رؤية من يصلي بهم من غير هذه البلاد وإن سألت عن السبب في ذلك رأيت الإجابة قد يكون لها شيء من القبول فهم يرون أن غير هذه البلاد أهلها يكثر فيهم الشرك لما يكون في بلادهم من أضرحة وقبور يتوسل بها أهلها أو يستشفعون بهم أو يكون أهلها ممن يكون فيهم السحر كما هو مشاهد ويسمع به القاصي والداني وبهذا نرى الكثير من الناس ينزعجون عند وجود من يؤمهم من غير هذه البلاد بل تراهم يحرصون أشد الحرص على أن لا يؤمهم من غير جنسهم ، وهذه الأمر في الحقيقة غير مسلم به دائما بل نقول هناك من فيهم هذه الصفات المذكورة ومنهم من لا توجد فيهم إطلاقا بل يحارب أصحابها فنجد معتقده خاليا تماما من هذه الأمور فكان ولا بد من الإنصاف والعدل في هذه المسألة فنقول:
للإمام أن يستخلف من الوافدين من يعرف عنه أنه ممن يخلو من هذه المعتقدات ممن يراه سلفي العقيدة فهنا يجوز استخلافه ولا عبرة بكراهية المأموم لذلك وبخاصة إذا كان المستخلف قارئا للقرآن ومن طلبة العلم الموروث عن النبوة.
أما إن كان لا يعرف المستخلف أو كونه عنده أشياء في العقيدة وغير ذلك فلا يجوز له أن يستخلفه لأنه ضامن لصلاة المأموم والمسؤولية عليه أعظم. وهنا لا فرق بين الوافد وغيره في هذه الحالة. ولا يجوز التفريق إلا حسب الميزان الشرعي } إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {.[15]
§ استخلاف الأعمى:
يجوز استخلاف الأعمى وهو كالبصير في الحكم ولا عبرة بقول من قال بأن البصير يقدم على الأعمى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ابن أم مكتوم على غيره بل إذا وجد الإمام حين استخلافه أعمى ذا دين وفضل وتتحقق فيه شروط الإمامة من كونه أقرأ لكتاب الله وأعلم بالسنة فهنا الأولى تقديمه على غيره.
§ استخلاف من يجن أحيانا:
المراد به من يجن تارة ويفيق أخرى وهذا يكره استخلافه وذلك لئلا يعرض الصلاة للإبطال في أثنائها لوجود الجنون فيها، فإن قدمه صحت الصلاة خلفه ما لم يجن في أثنائها لأن الأصل السلامة فلا تفسد بالاحتمال.
§ استخلاف من به سلس بول:
قال ابن قدامة رحمه الله:
"والمستحاضة ومن به سلس البول وأشباههم تصح صلاتهم في أنفسهم وبمن حاله كحالهم ولا تصح لغيرهم لأنهم أخلوا بغرض الصلاة فأشبه المضطجع يؤم القوم"[16]، والعلة عند الحنابلة في عدم إمامة من به سلس بول:
§ أن حال من به سلس بول دون حال من سلم منه ولا يمكن أن يكون المأموم أعلى حالا من الإمام.
§ والقول الصحيح في ذلك أن إمامة من به سلس بول صحيحة لمثله وبمن ليس به سلس بول لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله".
§ وهذا الرجل صلاته صحيحة لأنه فعل ما يجب عليه وإذا كانت صلاته صحيحة لزم من ذلك ثبوت صحة إمامته.
وعلى ذلك نقول يجوز للإمام أن يستخلف من به سلس بول ولا عبرة بقول من يقول بعدم صحة إمامته ولكن ينصح بأن لا يكون إماما راتبا.
§ استخلاف من لبس لباس شهرة:
لباس الشهرة هو كل لباس يخالف فيه لابسه عرف أهل بلده وعاداتهم كمن يلبس في بلادنا البنطال أو الملابس المعلمة كلباس لاعبي الكرة وكذا الملابس الضيقة وغيرها من الملابس التي تخالف عرفنا وعاداتنا.
فنقول إنه لا ينبغي للإمام أن يستخلف من لبس لباس شهرة وذلك لأمرين:
الأول: لكونه قد تلبس بالمعصية فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - النهي عن أن يلبس الإنسان لباس شهرة.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس لباس شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة"[17]
وفي رواية "من لبس لباس شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارا"[18]
الثاني: أنه مما يسبب نوعا من المشاكل داخل المسجد بين الإمام والمأموم فإن غالب الناس يتحرون أن يكون الإمام على تقوى ودين وصلاح.
§ استخلاف المسبل:
لقد جاءت نصوص السنة تحذر تحذيرا شديدا من الإسبال في الثياب وإني لأعجب أشد العجب من أناس يسمعون قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء ذلك عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"[19] فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسبل إزاره.
... فبأي وجه يقابل المسبل إزاره ربه ونبيه بعد سماعه النصوص الشرعية الدالة على تحريم ذلك ولا يبالي.
... ومن أجل ذلك اختلف أهل العلم في صحة صلاة المسبل فهناك روايتان عن أحمد؛ إحداها أنها تبطل فلو قلنا ببطلانها لكانت صلاة من خلفه باطلة إن كان إماما.
واحتج من قال بذلك بما جاء في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما رجل يصلي مسبل إزاره قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ، فذهب فتوضأ ثم جاء فقال: اذهب فتوضأ فقال له رجل: يا رسول الله مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل"[20]
... أخرجه أيضا أبو داود بسنده عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام"[21]
... والصحيح عندي أن صلاة المسبل صحيحة مع الإثم فإن استخلفه الإمام صحت صلاته وصلاة من خلفه لكن لا ينبغي للإمام استخلافه ويتحرى كما ذكرنا سابقا أهل الدين والفضل والتقوى لكي ينتهي كل مقصر في حق الله عن تقصيره فلو علم المسبل أنك لم تستخلفه لكونه مسبلا ثوبه لكان ذلك من باب دعوته ونصحه وردعه عن هذا المنكر.
§ استخلاف المرأة:
اختلف أهل العلم في جواز إمامة المرأة للرجال فمنهم من قال: إنها تجوز مطلقا أي في الفرض والنفل وبه قال ابن جرير الطبري، ومنهم من قال: لا تجوز مطلقا وبه قال جمهور أهل العلم، ومنهم من قال تجوز في النفل ولا تجوز في الفرض وهي إحدى الروايتين عن أحمد واختارها ابن قدامة وهي المذهب عند الحنابلة احتجاجا بحديث أم ورقة بنت نوفل رضي الله عنها فقد استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تتخذ في دراها مؤذنا فأذِنَ لها وأمرها أن تؤم أهل دارها.
... قال عبد الرحمن بن خلاد الأنصاري الذي روى الحديث عن أم ورقة فأنا رأيت مؤذنا شيخا كبيرا.[22]
... والصحيح عندي قول جمهور أهل العلم بعدم جواز إمامة المرأة في الفرض والنفل، فإن نصوص الشريعة جاءت لسد الذريعة في كل شيء فلما كانت المرأة بابا من أبواب الفتنة التي يفتتن بها الرجال أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون في آخر الصفوف إذا حضرت صلاة الرجال فقال: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"[23]
... بل بين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاتها في بيتها أفضل من شهودها الصلاة في جماعة مع الرجال كل ذلك صيانة لها وصيانة للرجال منها، ومن هنا نقول بأنه لا يجوز للمرأة أن تؤم الرجال في فريضة ولا نافلة.
... أما حديث أم ورقة[24] فهو لا يدل على أن مؤذنها كان يصلي معها وإنما دل عل أنه كان يؤذن لها فمن الممكن أنه كان يؤذن لها ثم يذهب إلى بعض المساجد فيصلي بها، وإذا كان الدليل يحتمل فهنا يسقط الاستدلال به ونظرنا إلى الأدلة العامة التي تمنع المرأة من الإمامة.
... ومن هنا لا يجوز للإمام أن يستخلف المرأة لإتمام صلاة المأموم وذلك إذا حصل له من الأعذار التي تمنعه من إتمام الصلاة للأدلة العامة الدالة على قرارها في البيت وبعدها عن الرجال وحصول الفتنة بها.
§ استخلاف الأصم:
الأصم هو من لا يسمع كلام غيره.
... يجوز استخلافه وذلك لجواز إمامته، أما إذا كان أصم أعمى ففيه روايتان عند الحنابلة.
... فقال بعضهم لا تصح لأنه قد يسهو فلا يمكن تنبيهه، وقال البعض تصح لأنه لا يخل بشيء من واجبات الصلاة والسهو عارض وهذا هو الصحيح وهو الذي اختاره ابن قدامة في الكافي[25].
§ استخلاف الأخرس:
يرى الحنابلة عدم جواز إمامة الأخرس لا بمثله ولا بغيره لأنه لا يستطيع النطق بالركن وهو قراءة الفاتحة ولا بالواجبات وهي التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، ولا ما تنعقد به الصلاة وهو تكبيرة الإحرام فيكون عاجزا عن الأركان والواجبات فلا يصح أن يكون إماما لمن هو قادر على ذلك.
واختار شيخنا محمد الصالح العثيمين رحمه الله أن إمامة الأخرس تصح بمثله وبمن ليس بأخرس لأن القاعدة أن كل من صحت صلاته صحت إمامته[26].
§ استخلاف الجندي (الشرطي)
الجندي يصح استخلافه لأن إمامته تصح ولا تكره وحتى لو كان في لباسه العسكري لأنه رجل من المسلمين بل قد نقول إنه قام بعمل مصلحة عامة فيكون من هذا الوجه أحسن عملا من الذي يعمل عملا لمصلحة خاصة لعموم الحديث "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله"[27].
فالصحيح صحة استخلافه لا سيما إذا سلم في دينه لما ذكرنا في الأدلة السابقة المقيدة في شروط المستخلف.
§ استخلاف المتيمم:
يجوز استخلاف المتيمم بالمتوضئ ولا حرج في ذلك فإن الله سبحانه وتعالى سمّى التيمم تطهرا ومن هنا فهو كالوضوء في الحكم غير أنه يختلف عند وجود المتيمم الماء فإن يبطل تيممه.
... فإن وجد الماء حال صلاته هل يخرج منها لكي يتوضأ ؟ الصحيح عندي أنه يكملها ولا يخرج منها حال استخلافه وصلاة من خلفه صحيحة.
§ استخلاف المسافر بالمقيم:
إذا استخلف إمام مقيم رجلا مسافرا فإن استخلافه له صحيح لأن المسافر داخل بنية الإتمام فلا إشكال في استخلافه ، وهل يشرع له القصر إذا صار إماما؟
الجواب: لا يشرع له القصر لأنه ابتدأ الصلاة بنية الإتمام فلا يجوز له أن يجعلها قصرا بخلاف من يرى جواز ذلك.
§ استخلاف المقيم بالمسافر:
إذا استخلف إمام مسافر مقيماً يجوز له ذلك فإن كان هناك من المأمومين من هو مسافر أي دخل بنية القصر فإنه يبقى على نية القصر، فإذا قام المستخلف المقيم لإكمال صلاته جلس من دخل بنية القصر وله أن يتم تشهده وينصرف لكن الأولى أن ينتظر حتى ينتهي الإمام من صلاته فيسلم بتسليمه وذلك لحصول أمر المتابعة للإمام.
ويرى بعض أهل العلم أنهم إذا نووا الاقتداء به أتموا بل قالوا: وإن لم ينووا عليهم الإتمام[28]. والصحيح أنهم لا يلزمهم الإتمام.
§ استخلاف المتنفل:
اختلف أهل العلم في جواز صلاة المفترض خلف المتنفل والصحيح من أقوالهم جوازها. وبناء على ذلك نقول يجوز استخلاف المتنفل لإتمام صلاة المفترض.
· المبحث الثالث: المسائل المتعلقة بأحكام الاستخلاف في الصلاة
المسألة الأولى: إذا خرج الإمام ولم يستخلف أحدا فما العمل؟
الجواب: للمأمومين في هذه المسألة ثلاثة أمور:
الأول: يشرع لأحد المأمومين أن يتقدم لإتمام صلاتهم.
الثاني: يشرع للمأمومين أن يستخلفوا أحدا منهم لإكمال صلاتهم. ويشترط في كلا الأمرين أن لا يطول الفصل حال الاستخلاف فإن طال لم يشرع لهم الاستخلاف وأتم كل واحد منهم صلاته منفردا.
الثالث: إذا لم يستخلفوا أحدا جاز لهم أن يتموا صلاتهم فرادى.
المسألة الثانية: هل يشترط الاستخلاف عن قرب؟
مضى قول الشافعي يشترط الاستخلاف عن قرب أي على أن لا تطول المدة التي يحصل فيها الاستخلاف وقد حددوها بقدر الإتيان بركن من أركان الصلاة ، والصحيح أنه يرجع فيها إلى العرف، وقد يراد بالاستخلاف عن قرب أي كون المستخلف قريبا من الإمام أي في الصف الذي يليه لأنه أدرى بأفعاله ويتيسر تقدمه فيقتدوا به.
المسألة الثالثة: من الأحق بأن يستخلف الإمام أم المأموم؟
ذهب الفقهاء إلى أن الأحق بالاستخلاف الإمام وذلك لأنه أعلم بمن يستحق التقديم فهو من باب التعاون على البر والتقوى ولئلا يؤدي تركه إلى التنازع فيمن يتقدم فتبطل صلاتهم فإن خرج ولم يستخلف جاز للمأمومين الاستخلاف لأنفسهم وذلك لتنازل الإمام عن حقه.
المسألة الرابعة: إذا تقدم أكثر من واحد فما الحكم؟
هذه المسألة لها حالتان:
الأولى: أن يتقدم أكثر من واحد مع من استخلفه الإمام فهنا الأحق بها من استخلفه الإمام.
الثانية: أن يتقدم أكثر من واحد وليس هناك أحد استخلفه الإمام فهنا الأحق بها الأسبق إذا تساويا في شروط الإمامة وإلا فالأولى بها من توفرت فيه شروط الإمامة.
الثالثة: أن يتقدم أكثر من واحد مع من استخلفه المأمومون فهنا الأحق من استخلفه المأموم والعبرة في ذلك الأكثر.
المسألة الخامسة: استخلاف مقطوع الرجل:
ذكرنا فيما سبق جواز استخلاف العاجز وبينا أن للعاجز حالتين:إما أن يمنعه عجزه عن القيام فقط فهذا يجوز استخلافه وإما أن يمنعه عجزه عن الإتيان بالركوع والسجود فهنا الأولى للإمام أن لا يستخلفه خروجا من الخلاف الحاصل بين الأئمة.
المسألة السادسة: حكم استخلاف من يترك بعض السنن في صلاته:
كمن يترك وضع اليدين على الصدر في صلاته لا خلاف عند أكثر أهل العلم في أن وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة سنة ، فلو استخلف الإمام أحدا ممن لا يأتي بهذه السنة صح استخلافه ولكن الأولى له أن يستخلف من يحافظ على السنة في صلاته لأن ذلك هو الأفضل والأكمل في حق المستخلف.
المسألة السابعة: حكم استخلاف من يترك صلاة الفجر في جماعة:
كل من تلبس بمعصية لا ينبغي أن يكون إماما ولا مستخلفاً فالذي يترك صلاة الفجر في جماعة أو الذي حلق لحيته وهكذا المدخن وشارب المسكر وغيرهم من العصاة لا ينبغي أن يكونوا أئمة للمسلمين ولا ينبغي للإمام أن يستخلفهم في الصلاة فإن استخلفهم صح استخلافهم فالمعصية لا تمنع الاستخلاف ولكن الأولى عدم استخلافهم.
المسألة الثامنة: صلاة أحد الحاضرين بدون إذن الإمام:
لا تخلو هذه المسألة من حالتين:
الأولى: أن يتأخر الإمام عن الموعد المعتاد أي الموعد المحدد بين الأذان والإقامة فهنا يجوز لبعض الحاضرين أن يصلي بالناس بدون إذن الإمام لفعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حين تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لما حضر وقت الصلاة وقد أقيمت فتقدم عبد الرحمن رضي الله عنه فصلى بالناس فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يتأخر عبد الرحمن أشار له النبي صلى الله عليه وسلم فكمل الصلاة وصلى معه النبي صلى الله عليه وسلم الركعة التي بقيت.
الثانية: أن لا يتأخر الإمام ولكن يتسرع المؤذن في الإقامة فيقيم قبل الوقت المحدد من قبل الأوقاف فهذا غلط ولا يجوز لأحد أن يتقدم على الإمام الراتب قبل مجيء الوقت المحدد بين الأذان والإقامة.
المسألة التاسعة: إذا تذكر الإمام أنه على غير وضوء فما العمل؟
ذكرنا ذلك سابقا وخلاصة القول في هذه المسألة أن يقال: للإمام أن يستخلف بهم وإن لم يستخلف واستخلفوا من يكمل بهم الصلاة صح ذلك. وإن كان دخلها على غير وضوء ولكنه لما انتهى تذكر أنه على غير وضوء صحت صلاتهم.
فالمهم إن قدم من يكمل بهم فالحمد لله وإن لم يقدم فلهم أن يقدموا من يكمل بهم وإن أتم كل واحد لنفسه أجزأ ذلك في أصح القولين لأهل العلم.
المسألة العاشرة: في حكم استخلاف من استُخلِفَ غيرَه:
إذا استخلف الإمام زيدا من الناس فلا ينبغي لمن استخلفه الإمام أن يستخلف مكانه لأن هذا شبه الوكيل ولا يوكل في مثل هذا غيره مادام الإمام استخلفه وارتضاه للمأمومين ، فإن حصل له عارض يمنعه من القيام والسجود جاز له أن يجلس ويتموا صلاتهم قياما.
فإن كان المستخلف مسبوقا أشار إليهم أن يجلسوا ثم يأتي بما فاته فإذا جاء به سلم ويسلم المأموم بتسليمه وهذا هو المشروع في حقهم.
فإذا حصل للمستخلف عذر من حدث ونحوه مما يجب له الخروج من الصلاة فهنا يجوز له أن يستخلف للضرورة.
المسألة الحادية عشرة: إذا رأى الإمام في ثوبه دما:
هل يجزئه أن ينزعه وهو في الصلاة ثم يكملها أم يخرج ويستخلف مكانه؟
هذه مسالة محل خلاف بين أهل العلم:
§ فقال بعضهم: بل على الإمام أن يخرج ثم ينزع ثوبه ويغسله إن أحب ثم يرجع مع الناس فيما أدرك ويُدخل عند خروجه رجلا فيبنى الداخل على صلاة الإمام لأن ما مضى منها مجزئ عمن خلفه ومنتقض عليه هو فلذلك لزمه الخروج.
§ وقال آخرون: إن كان عليه من الثياب ما تجزئه الصلاة به نزعه وتمادى في صلاته وإن لم يكن عليه غير هذا الثوب استخلف غيره وهذا هو الذي نرجحه.
ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل في صلاته وهو لابس نعله وفيها نجاسة جاء إليه جبريل فأخبره فخلعها صلى الله عليه وسلم ولم يخرج من صلاته بل أكملها[29] فهذا دليل صريح على ما ذكرناه والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة: إذا أحدث الإمام ثم استخلف مسبوقا فلما قام ليقضي لنفسه قام رجل فأتم به فيما بقي لأنه هو الآخر مسبوق هل تكون صلاته مجزئه؟
الصحيح أن صلاته مجزئه تامة لأن الإمام المستخلف قام مقام الإمام الأصلي فجاز للمسبوق أن يأتم به كما لو ائتم بالإمام الأصلي.
المسألة الثالثة عشرة: في تعدد المسبوقين ثم قدم الإمام آخرهم:
إمام مسجد أقام الصلاة وصلى ركعة مع رجل واحد ثم جاء رجل آخر فصلى به ركعة مع الأول ثم جاء ثالث فصلى به الثالثة ثم قام في الرابعة فدخل معه فيها رجل رابع فأحدث الإمام فيها فقدم الرابع وهذا آخرهم كيف يصنع ويصنعون في صلاتهم؟
نقول في هذه المسألة:
أولاً: الأولى للإمام أن يستخلف من ائتم به من أول الصلاة لكي لا يحدث نوع تشويش على المصلين وإن كان المستخلف أقل رتبة في القراءة والفقه من المسبوق إلا أن يكون من ائتم به أولاً مخروق العدالة والدين فهنا الأولى له أن يقدم المسبوق.
ثانياً: فإن قدم المسبوق الذي هو الرابع كما هو المذكور في هذه المسألة فالمشروع في حقه أن يتم بقية صلاة الإمام ثم يقوم فيقضي ما عليه وهم قعود ثم يسلم ويسلم من أتم الصلاة ويقوم من فاته بعض الصلاة فيتم ما بقي عليه[30].
المسألة الرابعة عشرة: إمام أحدث فقدم رجلا قد دخل في الصلاة قبل حدث الإمام وهو جاهل بما مضى للقوم وللإمام كيف يصنع المقدم؟
له في هذه الحالة عدة أمور:إما أن يشير إليهم حتى يفهم ما ذهب من الصلاة أو ما بقي منها أو أن يمضي فيها حتى يسبح له فلا بأس بذلك وإن لم يجد بدا إلا أن يتكلم فلا بأس به عند بعض أهل العلم لأن الكلام فيما تدعو إليه الضرورة من إصلاح الصلاة جائز بهذا قاله المالكية[31].
المسألة الخامسة عشرة: إمام أحدث فقدم رجلا أميا لا يحسن القراءة كيف يصنع؟
أيتأخر ويقدم غيره؟ أم يمضي بالقوم في الصلاة الذي استخلفه يسبح يهلل ويحمد الله ويكبر؟ وإذا صلى بهم بغير قراءة حتى فرغ هل تكون عليهم إعادة الصلاة؟
نقول:الصحيح أنه مادام أميا لا يحسن أن يقرأ فإنه يتأخر ويقدم غيره ممن يحسن القراءة فيصلي بالقوم وبنفسه، وإن لم يفعل ولم يقدم غيره فإن كان ممن يجيد الفاتحة أجزأتهم هذه الصلاة وإن لم يكن من أهل إجادتها بل عنده فيها ألحان جلية تحيل المعنى فهنا لا تصح إمامته.
المسألة السادسة عشرة: إمام صلى برجل وامرأتين فأحدث الإمام وخرج ولم يقدم صاحبه ونوى صاحبه أن يؤم نفسه والمرأتين حتى صلى بقية الصلاة هل تكون صلاته مجزئه ولا تفسد عليهم؟
نعم لا بأس به وتجزئهم صلاتهم-وإن لم يستخلفه إذا نوى أن يكون إمامهم[32].
المسألة السابعة عشرة: إذا قدم الإمام إنسانا فتقدم غيره فأم القوم فاقتدى به مستخلف الإمام:
هنا النظر إلى حال من تقدم فإن اجتمعت فيه شروط استخلاف صحت صلاة الجميع على نحو ما ذكرنا في المبحث الثاني ممن يصح لاستخلافه.
[1] يونس الآية (58)
[2] لسان العرب (26/82-83-85)
[3] الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/648)
[4] المغني لابن قدامة (2/507)
[5] بدائع الصنائع (1/22)
[6] الهداية للمرغيناني (1/267-268).
[7] حاشية ابن عابدين (1/600).
[8] حاشية ابن عابدين (1/600) بدائع الصنائع (1/222).
[9] البحر الرائق لابن نجيم (1/391)
[10] رواه مسلم –كتاب الصلاة-باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول (1/323 )
[11] رواه مسلم –كتاب الصلاة- باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم (1/316-317)
[12] انظر كلام شيخنا الشيخ محمد ابن العثيمين رحمه الله في شرحه للزاد في حكم الصلاة خلف الفاسق (4/304)
[13] مختصر البخاري للزبيدي حديث رقم (1588) كتاب المغازي (1/14)
[14] رواه ابن ماجة (1/311) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها- باب من أم قوما هم له كارهون- قال الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجة (1/160) ضعيف بهذا اللفظ وحسن بلفظ [العبد الآبق] مكان [الأخوان متصارمان]
[15] سورة الحجرات الآية ( 13)
[16] الكافي (1/184 )
[17] صحيح سنن ابن ماجة للألباني (2/284) رقم (2905)
[18] صحيح سنن ابن ماجة (2/284) رقم (2906)
[19] رواه مسلم رقم (106)
[20] رواه أبو داود رقم (638) قال النووي إسناده صحيح على شرط مسلم
[21] رواه أبو داود رقم (637) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/126) رقم (595)
[22] أخرجه أبو داود-كتاب الصلاة-باب إمامة النساء (1/396-397) وحسنه الألباني
(1/19)
[23] رواه مسلم –كتاب الصلاة-باب تسوية الصفوف وإقامتها (1/329)
[24] سبق تخريجه
[25] الكافي (1/181)
[26] الممتع شرح زاد المستقنع (4/318-319)
[27] الممتع شرح زاد المستقنع (4/356)
[28] انظر في ذلك مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج (1/269)
[29] صحيح سنن أبي داود (1/128) رقم (605)
[30] البيان والتحصيل لابن رشد القرطبي (2/125)
[31] البيان والتحصيل لابن رشد القرطبي (2/126)
[32] المرجع السابق (2/128)