ليس جديدا القول بسبق العرب إلى تأصيل نظرية الصوت اللغوي ، واضطلاعهم بأعباء المصطلح الصوتي منذ القدم ، لقد كان ما قدمناه في «منهج البحث الصوتي عند العرب» وإن كان جزئي الإنارة ، فإنه كاف- في الأقل- للتدليل على أصالة هذا المنهج ، وصحة متابعته الصوتية في أبعاد لا يختلف بها اثنان.

نضيف إلى ذلك ظاهرة صوتية متميزة في أبحاث العرب لم تبحث في مجال الصوت ، وإنما بحثت في تضاعيف التصريف ، ذلك أن صلة الأصوات وثيقة في الدرس الصّرفي عند العرب في كل جزئياته الصوتية ، فكان ما توصل إليه العرب في مضمار البحث الصرفي عبارة عن استجابة فعلية لمفاهيم الأصوات قبل أن تتبلور دلالتها المعاصرة ، فإذا أضفنا إلى ذلك المجموعة المتناثرة لعناية البحث النحوي بمسائل الصوت خرجنا بحصيلة كبيرة متطورة تؤكد النظرية الصوتية في التطبيق مما يعد تعبيرا حيّا عن الآثار الصوتية في أمهات الممارسات العربية في مختلف الفنون.

«و لقد كان للقدماء من علماء العربية بحوث في الأصوات اللغوية شهد المحدثون الأوروبيون أنها جليلة القدر بالنسبة إلى عصورهم ، وقد أرادوا بها خدمة اللغة العربية والنطق العربي ، ولا سيما في الترتيل القرآني ، ولقرب هؤلاء العلماء من عصور النهضة العربية ، وإيصالهم بفصحاء العرب كانوا مرهفي الحسّ ، دقيقي الملاحظة ، فوصفوا لنا الصوت العربي وصفا أثار دهشة المستشرقين وإعجابهم» (1).

وهذه البحوث الصوتية التي سبق إليها علماء العربية فأثارت دهشة المستشرقين ، وأفاد منها الأوروبيون في صوتياتهم الدقيقة التي اعتمدت أجهزة التشريح ، وقياس الأصوات في ضوء المكتشفات ، قد أثبتت جملة من الحقائق الصوتية ، كان قد توصل إليها الأوائل عفويا ، في حسّ صوتي تجربته الذائقة الفطرية ، وبعد أن تأصلت لديهم إلى درجة النضج ، قدّمت منهجا رصينا رسخ فيه المحدثون حيثيات البحث الصوتي الجديد في المفردات والعرض والأسلوب والنتائج على قواعد علمية سليمة.

لقد قدم العرب والمسلمون مفصّلا صوتيا مركّبا من مظاهر البحث الصوتي يمثل غاية في الدقة والتعقيد ، لم يستند إلى أجهزة متطورة ، بل ابتكرته عقول علمية نيرة ، وأذهان صافية ، تجردت للحقيقة ، وتمحضت للبحث العلمي ، مخلصة فيه النية ، وكانت الخطوط العريضة لهذا العطاء على وجه الإجمال عبارة عن مفردات هائلة ، ونظريات متراصة ، يصلح أن يشكل كل عنوان منها فصلا من باب ، أو بابا في كتاب ، يستقرئ به الباحث ما قدمه علماء العربية من جهد صوتي متميز واكبه الغربيون بعد أن عبد طريقه العرب والمسلمون ، هذه المفردات في عنوانات ريادية تمثل الموضوعات الآتية في نظرية الصوت :

1- ظاهرة حدوث الصوت.

2- معالم الجهاز الصوتي عند الإنسان.

3- أنواع الأصوات العالمية.

4- درجات الأصوات في الاهتزازات 5- بدايات الأصوات عند المخلوقات.

6- علاقة الأصوات باللغات الحيّة.

7- أعضاء النطق. وعلاقتها بالأصوات.

8- الأصوات الصادرة دون أعضاء نطق.

9- علاقة السمع بالأصوات.

10- مقاييس الأصوات امتدادا أو قصرا.

11- تسميات الأصوات وأصنافها.

12- الأصوات الزائدة على حروف المعاجيم.

13- الزمان والصوت (مسافة الصوت).

14- المكان والصوت (مساحة الصوت).

15- المقاطع الصوتية بالإضافة إلى مخارج الأصوات.

16- النقاء الصوتي.

17- الموسيقى والصوت.

18- العروض والصوت.

19- النبر والصوت.

20- التنغيم والصوت.

21- التقريب بين الأصوات.

22- الرموز الكتابية والأصوات.

23- ائتلاف الحروف وعلاقته بالأصوات.

هذه أهم مفردات المصطلح الصوتي في نظرية الصوت اللغوي عند العرب توصلنا إليها من خلال عروض القوم في كتبهم ، وطروحهم في بحوثهم ، وإن لم يشتمل عليها كتاب بعينه ، وإنما جاءت استطرادا في عشرات التصانيف ، ونحن لا نريد حصرها بقدر ما نريد من التنبيه ، أن هذه الموضوعات التي سبق إليها العرب ، هي التي توصل إليها الأوروبيون اليوم ، ومنها استقوا معلوماتهم الأولوية ، ولكنهم أضافوا وجددوا وأبدعوا ، وتمرست عندهم المدارس الصوتية الجديدة ، تدعمها أجهزة العلم ، والأموال الطائلة ، والخبرات الناشئة ، مع الصبر على البحث ، والأناة في النتائج.

لقد كان ما قاله المرحوم الأستاذ مصطفى السقا وجماعته في‏ مقدمتهم لسر صناعة الإعراب ملحظا جديرا بالاهتمام ... «و الحق أن الدراسة الصوتية قد اكتملت وسائلها وموضوعاتها ومناهجها عند الأوروبيين ، ونحن جديرون أن نقفوا آثارهم وننتفع بتجاربهم ، كما انتفعوا هم بتجارب الخليل وسيبويه وابن جني وابن سينا في بدء دراساتهم للأصوات اللغوية» (2). فالأوروبيون أفادوا من خبراتنا الأصيلة. فهل نحن منتفعون؟

لقد توصل العرب حقا إلى نتائج صوتية مذهلة أيدها الصوت الغوي الحديث في مستويات هائلة نتيجة لعمق المفردات الصوتية التي خاض غمارها الرواد القدامى ، وقد أيد هذا التوصل اثنان من كبار العلماء الأوروبيين هما : المستشرق الألماني الكبير الدكتور براجشتراسر ، والعالم الانكليزي اللغوي المعروف الأستاذ فيرث.

أ- يقول الدكتور براجشتراسر في معرض حديثه عن علم الأصوات :

«لم يسبق الأوروبيين في هذا العلم إلا قومان : العرب والهنود» (3).

ب- ويقول الأستاذ فيرث :

«إن علم الأصوات قد نما وشب في خدمة لغتين مقدستين هما :

السنسكريتية والعربية» (4)و العرب مقدمون على الهنود في النص الأول لأنهم أسبق :

والسنسكريتية في النص الثاني لغة بائدة آثارية ، والعربية خالدة.

و- أقف عند رأيين في نظرية الصوت اللغوي :

الأول : توصل الدكتور العطية «أن بعض مباحث العرب في البحث الصوتي داخلة في (علم الصوت :Phonetics ) لاشتماله على دراسة التكوين التشريحي لجهاز النطق والصوت ومكوناته وعناصره وصفاته العامة والخاصة على مستوى المجموعة البشرية. كما أن بعض جوانب (علم الصوت‏ الوظيفي ‏Phonology ) تبدو جلية في دراسة قوانين التأثر والتأثير ، واستكناه النبر والتنغيم ، وطول الصوت وقصره ، سواء أكان طوله صفة دائمة أم آنية عارضة» (5).

الثاني : إن الصوت قد فرض نفسه عند العرب في دراسات قد لا تبدو علاقتها واضحة بالصوت ، وقد وقف الدكتور الجنابي عند جملة «من مسائل النحو عرض لها النحويون وتأولوها ، واعتلوا لها بعلل لا تقنع باحثا ، ولا ترضي متعلما ، ولكن التفسير الصوتي هو الذي يحل الإشكال ويزيل اللبس بمعزل عن القرائن أو العلاقات المعنوية بين المفردات ، فلا صلة للتغيير الحركي بالفاعلية والمفعولية مثلا ، ولا رابطة له بالأساليب.

وإنما هو لون من الانسجام مع التغيير التلقائي الذي أشرت إليه»(6).

هذان الرأيان نلمح بهما تمكن الدرس الصوتي عند العرب ، فجملة مباحثهم صوتيا داخلة في علوم الصوت ، وما لم يجدوا له تعليلا فيحل إشكاله التفسير الصوتي ، وهذان ملحظان جديران بالتأمل.

أما خلاصة تجارب الأوروبيين في المصطلح الصوتي فقد كانت نتيجة حرفية لمداليل النظرية الصوتية عند العرب في نتائج ما توصل إليه علماؤهم الأعلام.

هذه النظرية الصوتية عند العرب عبارة عما توصل إليه العرب من خلال تمرسهم وتجاربهم بنظريات نحوية وصرفية وبيانية وصوتية وإيقاعية وتشريحية شكلت بمجموعها «نظرية الصوت» وهي في تصور تخطيطي تشمل المنظور الآتي :

أ- النظرية العربية في الأبجدية الصوتية على أساس المخارج والمدارج والمقاطع كما عند الخليل وسيبويه والفرّاء.

ب- النظرية العربية في أجهزة النطق وأعضائه ، وتشبيهه بالناي تارة ، وبالعود في جس أو تارة تارة أخرى كما عند ابن جني.

ج- النظرية العربية في التمييز بين الأصوات عن طريق إخفاء الصوت.

د- النظرية العربية في ربط الإعلال والإبدال ، والترخيم والتنغيم ، والمد والإشمام بعملية حدوث الأصوات وإحداثها.

ه- النظرية العربية في التلاؤم بين الحروف وأثره في سلامة الأصوات ، والتنافر فيها وأثره في تنافر الأصوات.

و- النظرية العربية في أصول الأداء القرآني ، وعروض الشعر والإيقاع الموسيقى ، وعلاقة ذلك بالأصوات.

ز- النظرية العربية في التوصل إلى معالجة التعقيدات النحوية ، والمسوغات الصرفية في ضوء علم الأصوات.

هذا العرض الإشاري لنظرية الصوت اللغوي ، يكفي عادة للتدليل على أصالة النظرية عند العرب ، دون حاجة إلى استجداء المصطلحات الأجنبية ، أو استحسان الجنوح إلى الموارد الأوروبية ، فبحوث العرب في هذا المجال متوافرة ، وقد يقال إن التنظيم يعوزها ، وأنها تفتقر إلى الترتيب الحديث ، وللاجابة عن هذه المغالظة نضع بين أيدي الباحثين المنصفين.

_________________________
(1) إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : 5.
(2)- مصطفى السقا وآخرون ، سر صناعة الاعراب ، مقدمة التحقيق : 19.

(3)- براجشتراسر ، التطور النحوي : 57.

(4) ظ : أحمد مختار عمر ، البحث اللغوي عند العرب : 101 وانظر مصدره.

(5) خليل إبراهيم العطية ، في البحث الصوتي عند العرب : 108.

(6) طارق عبد عون الجنابي ، قضايا صوتية في النحو العربي «بحث».