تلخيص محاضرة
[مفهوم العدل في التصور الإسلامي]
للشيخ م/ عبد الله العجيري
تلخيص/ أبو الهمام البرقاوي (
Hoomaam@)
(مقدمة)
- إذا تعمّق الإنسان في نظرته فيما يتعلق في مفهوم (العدل في التصور الإسلامية) لم يجدْهُ أمرًا مستغرًبا إذ إن قيمة العدل هي أحد القيم المركزة إن لم تكن القيم المركزية المسيطرة على طبيعة المنظومة التشريعية.
- سبب إنزال الوحي هو: إقامة العدل بين الناس قال تعالى:- " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " لما تداول العلماء هذه الآية قالوا:
أنزل الله الكتاب بالبينات؛ لإقامة العدل بين الناس فمن لم يقتنع بالبينات فقد أنزل الله الحديد حتى يكون له رادعًا لينحاز إلى قيم العدل.
- يقول ابن القيم –رحمه الله-: [فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه].
- يقول ابن تيمية –رحمه الله-:- [العدل جماع الدين والحق والخير كله].
- يقول المعلمي –رحمه الله-:-[المقصود من شرع الأحكام تطبيق العدل].
ما أهمية قيمة العدل؟
- قيمة العدل هي قيمة مركزية تتوغل داخل إطار المنظومة الشرعية بحيث تدخل في تفاصيل هذا المشهد، ولو نظر الإنسان نظرة عجلى إلى ما يتعلق في المدونة الفقيهة = يجد أن ثمة معطيات مكاشفة وصريحة فيما يتعلق بقيمة العدل في أبواب السياسة وأنظمة الحكم والولاية، مثلًا: قضية القضاء، قضية الشهادة، قضية الكتابة، معاملة الأبناء، العشرة، الكيل والميزان، الأنساب، الإصلاح بين الناس، بل الحقيقة أن الدين في جملته إنما أتي به لإجل إقامة العدل، وبالتالي يستطيع الإنسان أن يوجد علاقة بين المنظومة العقدية والفقهية والفكرية والجماعات وبين العدل؛ ليجد حكم الله عزوجل إذا راعى قيمة العدل.
- ومن الدلائل المؤكدة لأهمية العدل:
(1) كثرة النصوص الشرعية في كثرة تداول مفردات العدل، وأي قضية يعيرها الشرع اهتماما كبيرا عبر تدوير ألفاظ أي قضية يجب أن نأخذ إشارة أنها قضية مركزة وأساسية، وكلما قلّت إذًا هي أقل أهمية.
- حين فتشت بعض الإحصائيات في ألفاظ العدل ومرادفاته: توقفت في البحث؛ لأنك تقف أمام نمطين في تصور الوحي، أحيانًا يتم تدوير الوحي من خلال البحث عن ألفاظ العدل ومفراداته كقضية القسط والوسط والسواء، وأحيانا يأتي معنى العدل دون مكاشفة اللفظ مباشرةً، لكن حين تنظر في سياق النص تجد أن القيمة المركزية المظللة لهذا النص هو " العدل " ومن الأمثلة:
1- " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا ".
2- "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
3- " فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره"
وبالتالي: فوضع كلمة عدل في محركات البحث سيشكل تقصيرًا هائلًا في حجم حضور قيمة العدل، ففي قصة سليمان " وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذابًا شديدًا أو لأذبحنه أو ليأتني بسلطان مبين " تعزيزٌ لأحد مظاهر قيمة العدل.
- العدل : قيمة معيارية = أي: يستطيع الإنسان في مجال فلسفة الأخلاق اتخاذ العدل معيارات في محاكمة الأفعال والأقوال والعقائد.
- يقول ابن تيمية " جماع الحسنات : العدل، وجماع السيئات: الظلم، وهذا أصل جامع عظيم".
- يقول ابن تيمية "هذا وأنا في سَعة صدر لمن يخالفني، فإنه إن تعدى حدود الله فيَّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية فأنا لا أتعدى حدود الله فيه بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزِنُه بميزان العدل" ففكرة وزن التصرف والقول والاعتقاد بميزان العدل فكرة متواتر وحاضر في ذهنية العلماء.

- يقول المعلمي : "ينبغي أن توزن أمور الناس بميزان العدل".



من الأشياء الطريفة: أن من الكتب المهمة جدًّا – كتابا اسمه "
justice= العدالة" لـ [ MICHAEL J. SANDELمايكل جـ. ساندل] في صميم القضية التي نعاجلها، يقول في فرع كتابه: (WHATS THE RIGHT THING TO DO? ما الشيء الصحيح الذي يجب فعله؟).
وأحد امتيازات هذا الكتاب أنه سهّل المعاني الفلسفية للمجتمع وجعلها في قوالب شعبة عامة، فيشرح المسائل المعقدة من خلال القصص الواقعية ويكشف التباينات في اختلاف المدارس وجواباتها، وهو مقدمة ممتازة لمعرفة المدراس الفلسفية.
(ميزة خاصة في قيمة العدل)
- أحد الامتيازات في قيمة العدل على خلاف كثير من القيم الأخلاقية الأخرى:
صفة العمومية، وعدم وجود التقييد أو الاستثناء.
خذ مثالًا: الصدق قيمة مركزية ومهمة في التصور الإسلامية، ولكن هل الصدق قيمة مطلقة بحيث يجب مطابقته في كل عرف وحال؟
نقول: في أحايين معينة يكون الكذب مستحسنًا، وذكر الشارع بعض الاستحسانات، أما حين تأتي إلى قيمة العدل لا تجد تصور مجالا يمكن الظلم فيه في التصور الإسلامي.
- إذًا: العدل أساس القِيَم ولا استثناء فيه يستطيع الإنسان أن يتعامل الإنسان مع هذا المعيار بقدر عالٍ من الطمأنينة يقول ابن تيمية –رحمه الله- في إحدى تجليّاته: " وإن العدل واجب لكل أحد وعلى كل أحد في كل حال والظلم محرم مطلقًا لا يبيح بحال قط ".

- أزعم أن الفلسفة الأخلاقية إجمالا هي فلسفة في محاولة تحرير العدل.
- من مؤكدات أهمية قيمة العدل:
(2) ارتباط قيمة العدل بقيمة الحق.
- يظهر لي أن العدل أحد فروع الحق، وللحق قدسية خاصة في التصور الإسلامية.
- ارتهان مستقبل الأمة الإسلامية – وأي أمة – بقيمة العدل.
- لابن خلدون عبارة " الظلم مؤذنٌ بخراب العمران المفضي لفساد النوع " وله فصلٌ خاصٌّ بعنوان " الظلم مؤذن بخراب العمران ".

- لابن تيمية –رحمه الله-:- " وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام".
- وله أيضًا: " فَلَا صَلَاح لأهل الأَرْض فِي شَيْء من أُمُورهم إِلَّا بِهِ (العدل) وَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يعِيش فِي الْعَالم مَعَ خُرُوجه عَن جَمِيع أَنْوَاعه بل لَا بُد من دُخُوله فِي شَيْء من أَنْوَاع الْعدْل حَتَّى قطاع الطَّرِيق لَا بُد لَهُم فِيمَا بَينهم من قانون يتفقون عَلَيْهِ وَلَو أَرَادَ وَاحِد مِنْهُم أَن يَأْخُذ المَال كُله لم يمكنوه وأظلم النَّاس وأقدرهم لَا يُمكنهُ فعل كل مَا يُرِيد بل لَا بُد من أعوان يُرِيد أرضاءهم وَمن أَعدَاء يخَاف تسلطهم فَفِي قلبه رَغْبَة وَرَهْبَة تلجئه إِلَى أَن يلْتَزم من الْعدْل الَّذِي أَمر الله تَعَالَى بِهِ مَا لَا يُريدهُ فَيسلم لله ويقنت لَهُ وَإِن كَانَ كَارِهًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ كل لَهُ قانتون والقنوت الْعَام يُرَاد بِهِ الخضوع والإستسلام والإنقياد وَإِن كَانَ فِي الابطن كَارِهًا كطاعة الْمُنَافِقين هم خاضعون للْمُؤْمِنين مطيعون لَهُم فِي الظَّاهِر وَإِن كَانُوا يكْرهُونَ هَذِه الطَّاعَة"
لماذا نتحدث عن قيمة العدل؟ الارتباك في تحرير المضامين الداخلية لقيمة العدل.

- يقول ابن القيم-رحمه الله- : [الْعقل يدْرك حسن الْعدْل وَأما كَون هَذَا الْفِعْل الْمعِين عدلا أَو ظلما فَهَذَا مِمَّا يعجز الْعقل عَن إِدْرَاكه فِي كل فعل وَعقد كَذَلِكَ يعجز عَن إِدْرَاك حسن كل فعل وقبح وان تَأتي الشَّرَائِع بتفصيل ذَلِك وتبينه وَمَا أدْركهُ الْعقل الصَّرِيح من ذَلِك أَتَت الشَّرَائِع بتقريره وَمَا كَانَ حسنا فِي وَقت قبيحا فِي وَقت وَلم يهتد الْعقل لوقت حسنه من وَقت قبحه أَتَت الشَّرَائِع بِالْأَمر بِهِ فِي وَقت حسنه وبالنهي عَنهُ فِي وَقت قبحه]
- ويقول : [فمن العدل فيها ما هو ظاهر يعرفه كل أحد بعقله كوجوب تسليم الثمن على المشتري وتسليم المبيع على البائع للمشتري وتحريم تطفيف المكيال والميزان ووجوب الصدق والبيان وتحريم الكذب والخيانة والغش وأن جزاء القرض الوفاء والحمد. ومنه ما هو خفي جاءت به الشرائع أو شريعتنا - أهل الإسلام - فإن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم: دقه وجله؛ مثل أكل المال بالباطل. وجنسه من الربا والميسر. وأنواع الربا والميسر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم مثل بيع الغرر وبيع حبل الحبلة وبيع الطير في الهواء والسمك في الماء والبيع إلى أجل غير مسمى وبيع المصراة وبيع المدلس والملامسة والمنابذة والمزابنة والمحاقلة والنجش وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وما نهى عنه من أنواع المشاركات ..].

- يقول ابن تيمية : - [وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لا بدّ له من فعل وترك، فإن الإنسان همّام حارث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء حارث وهمام) وهو معنى قولهم: متحرك بالإرادة، فإذا كان له إرادة هو متحرك بها، فلا بد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يصلحه أو يفسده؟
وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم، وهدايتهم إياهم.].
مفهوم العدل
مفهوم العدل: ما قام في النفوس أنه مستقيم وهو ضد الجور [ابن منظور].
-يقول دراز في كتابه (الدين) ص [28]
ما الدين؟ هذا السؤال لا غنى لنا عن الرجوع قبل كل شيء إلى معاجم اللغة العربية لنستأنس بما دونه اللغويون فيها من وجوه الاستعمال لهذه المادة. نقول: لنستأنس بما في هذه المعاجم، ولا نقول لنجد فيها ضالتنا المنشودة. فكلنا نعرف مقدار الصعوبة التي يعانيها المزاولون لهذه المعاجم، ومبلغ إخفاقهم في استنباط المعاني المحددة من ثنايا تعريفاتها، وفرط ألمهم لهذا الحرمان.
لكنه إذا كان اليأس كما قيل إحدى الراحتين، فالذي يريح بالنا من ناحية هذه الكتب هو أن نبدأ بتحديد مطامحنا منها، فلا نطلب منها أكثر من طبيعتها ولا نكلفها شيئًا هو وراء أهدافها، ولعله ليس أطيب لقلب الباحث في هذه المعاجم من أن يوطن نفسه بادئ ذي بدء على أنها إنما وضعت لضبط الألفاظ، لا لتحديد المعاني، وأن مهمتها هي لتقويم اللسان، لا تثقيف الجنان، فإن شاء أن يتوسع في حدود هذه المهمة ساغ له أن يقول إنها وضعت أيضًا لسرد المترادفات والمتقابلات، وتقديمها لمن يفرض فيه أنه يعرف معنى كل مفرد على حدته.
حاول مثلًا أن تعرف نعت طير، أو حلية حيوان، أو وصف نبات، أو موقع بلد، وافتح المعجم في باب الاسم المطلوب، ثم انظر ماذا ترى: (طائر معروف) (حيوان معروف) (نبات معروف) (بلد معروف) ذلك هو الجواب العتيد الذي تظر به في غالب الأمر، فهو تذكير للعارفين بالحقيقة التي يشير الاسم إليها، ومن لم يكن يعرف فلا سبيل له بذلك إلى أن يعرف.
أما إذا سمحت هذه المعاجم بأن تقدم لقرائها شيئا من التعريف والتحديد، فإنها لا تبالي في كثير من الأحيان أن تعرّف الشيء بنفسه، أو بأنه غير ضده..
هكذا: البلاغ ما يتبلغ به، والدواء ما يتداوى به، والدين ما يدان به، أو يقال لك: إن الدين هو الملة. فإذا رجعت إلى كلمة الملة في بابها قيل لك إنها هي الدين. وكذلك يقال في شرح لفظ (الحلال) إنه ضد الحرام، وفي تعريف الحرام إنه ضد الحلال وهكذا.
دع ما وراء ذلك من سوء الترتيب، وكثرة الخلط والإعادة، وعدم رد كل طائفة من المعاني المتشابعة إلى أصل واحد يجمعها، على أن هذه الناحية الأخيرة ربما كانت أهون وجوه النقص، وأقلها استعصاء على الإصلاح]
هذا كلامه في نقده لبعض المعاجم، أنهم يذكرون العدل ضد الجور، والجور ضد العدل، لكن ابن منظور هنا قدم شيئًا واضحًا ، والعدل: إعطاء كل ذي حق حقه أو : وضع الأمور في مواضعها. [الحكمة: أحد مواطن استكشاف العدل
].

(مرادفات العدل)
1-القِسْط: [وزنوا بالقسطاط المستقيم] والقسطاس: لفظة رومية، وهناك تقارب مع justice. يقول أبو هلال العسكري في (الفروق اللغوية) [1/234] : الْفرق بَين الْعدْل والقسط
أَن الْقسْط هُوَ الْعدْل ابين الظَّاهِر وَمِنْه سمي الْمِكْيَال قسط وَالْمِيزَان قسطا لِأَنَّهُ يصور لَك الْعدْل فِي الْوَزْن حَتَّى ترَاهُ ظَاهرا وَقد يكون من الْعدْل مَا يخفى وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْقسْط هُوَ النَّصِيب الَّذِي بيّنت وجوهه وتقسط الْقَوْم الشَّيْء تقاسموا بِالْقِسْطِ.
2- الوسط: [وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا] عدولًا خِيارًا.
3-الحق: وهو من أسماء الله تعالى وأسماء القرآن، وهي أرفع درجة.
4- الإنصاف: [وَمِمَّا يُخَالف الظُّلم الْمَذْكُور فِي الْبَاب الْعدْل الْفرق بَينه وَبَين الْإِنْصَاف
أَن الانصاف إِعْطَاء النّصْف وَالْعدْل يكون فِي ذَلِك وَفِي غَيره أَلا ترى أَن السَّارِق إِذا قطع قيل أَنه عدل عَلَيْهِ وَلَا يُقَال إِنَّه أنصف وأصل الْإِنْصَاف أَن تعطيه نصف الشَّيْء وَتَأْخُذ نصفه من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَرُبمَا قيل أطلب مِنْك النّصْف كَمَا يُقَال أطلب مِنْك الْإِنْصَاف ثمَّ اسْتعْمل فِي غير ذَلِك مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَيُقَال أنصف الشَّيْء إِذا بلغ نصف نَفسه وَنصف غَيره إِذا بلغ نصفه] أبو هلال العسكري [المرجع السابق].
5-السواء: العدل الوسط.




[
من إشكالية المترادفات]

العدل والمساواة:
حصل ارتباك وإشكال في مفهوم العدل بسبب بعض مفرداته كمثل المساواة وهذا حصل عند بعض المفكرين، فقد يجامع العدل المساواة وقد يفارقها.
ومن الملاحظات الطريفة التي ذكرها "لويس ميهو":
[
القانون الوضعي الغربي يهتم بالمواساة، بينما يهتم الإسلام بتحقيق العدالة].
فمن القواعد لفهم الشريعة: أن الشريعة لا تساوي بين المختلفات، ولا تغاير بين المتماثلات، هذه قيمة شرعية أساسية.

يقول ابن تيمية-رحمه الله-: [وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُخْتَلِفِين َ، فَقَدْ نَسَبَ إِلَيْهِ الْحُكْمَ السَّيِّئَ، وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَي ْنِ، بَلِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَي ْنِ وَالتَّفْضِيلُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِين َ هُوَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْحُكْمِ الْحَسَنِ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى]. انظر منهاج السنة النبوية [5/107].


هل الشارع ألغى اعتبار المساواة مطلقًا؟
لا، ولكن عينه على العدل دائمًا، فإن كان في المساواة عدل فيسوي، وإلا فيغاير ولا يسوي، ولذا تجد أن من أكثر الأبواب هي موارد الشبهات في تقرير الأحكام الشرعية هي ذهنية تفترض ضرورة المساواة، ومن قال إن الشارع يتشوف للمساواة، كالتفريق بين الذكر والأنثى تنطلق إلى فكرة التساوي بينهما، بينما الشارع يوجب العدل.
والعقل البشري منحاز تلقائيا إلى محاولة التسوية، لأن التسوية هو الخيار الأكثر بساطة وأقرب للعقلية السطحية، فحين تطالب بإقامة العدل والنظر في الفوارق مما يستوجب تغيير الحكم هو أكثر وعورة وتعقيدا وصعوبة من التسوية للمشتركات القائمة بينهما.
وإجمالًا إن المساواة في التصور الإسلامي يكون في (المساواة القانوينة) أي إن نظر المسلمين سواء في نظر القانون الشرعي[والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها] [المسلمون سواء تتكافئ دماؤهم] وقد طُبق حد القف على بعض صلحاء الصحابة.




[من إشكالية المترادفات]
العدل والوسطية:
فيتوهم أن موقع العدل هو في موقع الوسط، وبعض الناس يفتعل طرفين ليكون هو وسطًا بينهما، ويصير بدهيًّا في كل الأمور، فالمسألة تحتاج إلى تحرير.
فالوسطية الممدوحة: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا "
والوسطية المذمومة: " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " "ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا"
فقد تجامع موضع الوسط، وقد تفارقة،
فالوسطية المطلوبة: هي وسطيّة بين باطلين.
والوسطية المرفوضة: وسطية بين حق وباطل.

(العدل في المبحث العقدي)
-يتعلق بالأسماء والصفات، القدر، التحسين والتقبيح العقلي.


مسألة: هل الظلم مقدور لذات الله أم ممتنع عليه لا يتعلق بقدرته؟
رؤية أشعرية أنه ممتنع عليه لا تتعلق قدرته عليه كما هو إفناء نفسه أو خلق إله آخر؛ لانهم عرفوا الظلم "التصرف في ملك الغير".

ورؤية معتزلية أن العدل " إعطاء كل شيء حقه " فمن مقدور الله الظلم من حيث هو، ولو جعلناه غير مقدور عليه لقدر مخلوق مما لا يقدر عليه خالق، لكنه حرمه على نفسه لكمال ضده، لا لامتناع الظلم عليه.

(إشكال فلسفي: معضلة يوثيفرو)
هل أراد الله للعدل أن يكون حسنًا فكان حسنًا، أم أنه حسنٌ فأراد الله الاتصاف به لأنه حسن؟
فاجاب يوثيفرو أنه أراد أن يكون حسنًا، فقالوا: فانتزع بذلك القيمة من العدل ذاتهِ، وإنما الشارع هو من أعطاه القيمة، فتنتزع عنه القيمة، ثم قال: هو حسن ثم أراده الله، فقالوا: إذًا هو أمر مادي يتطلبه الله كما يتطلبه غيره.
- من الأغلاط حصر الأسئلة في ثنائية أو ثلاثية وهي تحتمل أكثر من ذلك.
- من تجليات ابن تيمية: خروجه عن الصندوق كأفضيلة عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر؟ من أفضل خديجة أم عائشة؟ السمع أم البصر؟ الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟ فيفصل ولا يعط اختيارا من اثنين.
- فالخيار المطروح : لماذا كان العدل كمالًا؟ فالجواب اتصاف بالله بالكمال جعله كاملًا، وواجب على الله اتصافُهُ بالكمالات.

- كتابان مهمان في العدل بتفاصيله العقدية:
(1) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم.
(2) مشكلة الشر ووجود الله، الشيخ سامي العامري.


- كتب ومؤلفات تختص بـ العدالة:
1- سبق كتاب مايكل.
2- دستور الأخلاق للشيخ عبد الله دراز.
3- الأخلاق الإسلامية وأساسية للشيخ عبد الرحمن حبنكة.
4- سؤال الأخلاق لـ طه عبد الرحمن.
5- مدخل إلى الفلسفة السياسة المعاصرة لـ ويل كميشكا.
6-/7- العدالة كإنصاف ونظرية العدالة لـ جون رونز.
8- الليبرالية وحدود العدالة لـ مايكل وهو رد على كتاب جون رونز وهو أكثر علميا من كتابه الأول.








- اتجاهات تحقيق العدل في البحث الفلسفي حيال تحرير تفاصيل العدل:
· محاور تكيّف وتمثّل تحقيق العدالة:
1- تعظيم الرفاه:
2- احترام الحرية:
3- إشاعة الفضيلة:
ثلاث مدارس، كل مدرسة أخذت بمحورٍ من هذه المحاور والعصر القديم ينحاز للثالث، والحديث للمحور الثاني.

المدرسة النفعية:
المؤسس: (جيرمي بنتام) وله تلميذ وللتلميذ ولد، وهو
المطور: (جون ستيورات مل) قام بتطوير المشروع.
المبدأ: (تعظيم السعادة والرفاهية والمنفعة).
المعيار: الألم واللذة الجماعية لا الفردية (أكبر خير لأكثر عدد) فكل ما أسهم في اللذة فهو مطلوب، وكل ما أسهم في الألم فهو مرفوض.
إشكالياته:
1- نسيان أمر الخالق وأمر النفس كُلِّيًا. [ما قيمة السعادة إن لم تكن للسعادة قيمة في النفس الأمر؟]
2-انتزاع القيمة الأخلاقية عما يعتقد أنه قيمة أخلاقية، مثلًا: التلذذ بما هو غير سليم كتلذذ الرومان بتعذيب المسيحيين بإلقائهم للأسود. [هل تقبل هذه المدرسة ذلك؟ الجواب: لا، ولكن يوضحون عدم ترتيب منفعة في ذلك = وهذا يوضح عدم النظر للمنظومة الأخلاقية].
3- ترسية القيمة على قاعدة فلسفية.


المدرسة الليبرتالية/الليبرالية:
المؤسس: (جورن لوك).
المبدأ: أصالة الحرية والمِلكية، فالعدالة تتمثل في المحافظة واحترام (الحرية) و (الفردية).
مثال: " الحرية الدينية " بتشريع ذلك نمط من حرية الإنسان، لا تعظيمًا للدين وإنما تعظيمًا لـ الحرية.
إشكالياته:
1- إعطاء تميزات خاصة للحرية الدينية، فمن يريد شرب المخدرات يأتي بقرار محكمي أنه من شعائره.
2- تحجيم حضور الدولة لأنها تعتمد على " الفردية " والدولة تضمن السلامة للشعب والمحافظة على الحريات فعملها محصور.
ثلاث لاءات عند الليبرالي:
(لا للأبوية) فلا تمارس الدولة مثلًا ربط الحزام، والضمان الاجتماعي، أو الرخص الطبية.
(لا للتشريعات الأخلاقية).
(لا لإعادة توزيع الثروة).
اثنان ساهموا في تطوير الليبرالية:
الأول:
(ايمانويل كانت)
فيرفض: النفعي والقيَمي ويراهما لا تحترم حرية الإنسان.
ويرى: أن الحرية حين تقدم تقدم في تغييب العوائق في الوصول إلى ما نريد، ويراها ليست هي الواجب احترامها وإنما يرى أنه عندما يسعى الإنسان في تحقيق لذة أو دفع ألم هل هو يمارس حرية حقا؟ يرى أنه لم يختلف عن الحيوان بهذا النظر، ولأن ما يحقق لك اللذة ويدفع عنك الألم هو أمر متوهم.
والحرية: هي العقلانية يتخلص من حكم القانون الطبيعي، فيضع لنفسه قانون عقلانيا ثم يتمشى عليه، بالانطلاق من قدسية الإنسان وحريته لا احترام الشيء الحيوان في الإنسان، فالشق العقلاني هو المحترم فيه لا نزعاته ونزواته، وناقشها صاحب" دستور الأخلاق".
فهو لا ينظر في النتائج، وإنما في الدوافع (فرضية الواجب) فإن كان نشأ عن عقل فهو أخلاقي، وإن نشأ عن فطرة أو شيء آخر فهو ليس شيئًا أخلاقيًّا، كبخيلٍ يُتصدق فهو يخالف طبعه إلى عقلانيته فهي الأخلاق.
الثاني: (جون رولز) أولوية الحق الشخصي على الخير، وفكرته قائمة على جحتين.

المدرسة الجماعاتية: (القيَمي/إشاعة الفضيلة)
المبدأ: العدالة تتحقق بفرض قيَم الجماعة على الجماعة، وليست هي الخيار الديني ضرورةً، فقد تكون دينًا وقد تكون عُرفًا، فإرادة الأغلبية هي التي يجب أن تسود، وفرضها هي العدالة، وتتأسس العدالة على رأي الأغلبية وهي مرتبطة بـ الخير فيدرك الخير بإدراك رأي الجماعة، ويعرف قيم رأي الجماعة " مبادئ العدالة تأويل ثقافي أكثر مما هو احتجاج فلسفي ".
وتتجلى الدولة عند الجماعاتية: أن تفرض ثقافة المجتمع، من أسماء بعض المحسوبين إليهم: مايكل ساندل، دانيال، شايل،


(ملاحظة).
* عرض هذه الاتجاهات يضطر الإنسان إلى الاختزال والموضوع مدخل، والمدارس تتداخل نظريًّا في بعض الأمور، وواقعًا الأمر أعقد وأعقد.

[العدل في التصور الإسلامي]
كثير مما يقال هو عبارة عن اجتهاد شخصي، والإشكالية: أنه لا يجد حضورًا لألفاظ العدالة بل هو مستبطن وبعضها يدخل في القطعي وبعضها يدخل من قبيل الاجتهاد، وإشكالية أخرى: أن ترضح مفهوم العدالة في الإسلامي بأن يغلب المزاج الغربي على مفهوم إسلامي، فينظر في الملامح الإسلامي بحضور مفاهيم غربية.
قيمة العدالة في نص الوحي قرآنا وسنة حضور مركزي ومهم:
قال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل .."
قال تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .."
قال تعالى: "ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .."
قال تعالى: "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى .."
قال تعالى: "كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ... فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا" ويسميها شيخ الإسلام [آية العدل].



من أنماط إقامة العدل:
1- النهي عن الظلم، فقد ذكر صريحًا في القرآن (293) مرةً ومن أعظم الآيات "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل فيه الظالمون..".
2- الآداب والأخلاق العامة، قال تعالى " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها .. ". و"النهي عن الجلوس بين الظل والشمس" لعدم إقامة العدل في البدن، وكذا "النهي عن المشي في نعل واحدة".
3- أصالة العدل والظلم في النفوس البشرية.
يقول ابن تيمية –رحمه الله-[وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الْعَدْلَ مَحْمُودٌ مَحْبُوبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَحْبُوبٌ فِي النُّفُوسِ، مَرْكُوزٌ حُبُّهُ فِي الْقُلُوبِ، تُحِبُّهُ الْقُلُوبُ وَتَحْمَدُهُ، وَهُوَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْقُلُوبُ، وَالظُّلْمُ مِنَ الْمُنْكَرِ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْقُلُوبُ فَتُبْغِضُهُ وَتَذُمُّهُ].
ويقول: [وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لعارض فهو وإن كان ظلومًا جهولاً فذاك في كثير من الأمور].

أسس نظرية العدالة في التصور الإسلامي:
الأساس الأول: التبرير الأخلاقي، من وجودِ الله ابتداءً واتصافه بالكمال المطلق دون تطلّب قاعدة لتتأس عليه قيمة العدالة عبر عمل جماعي أو طبيعي، وفائدتاه:
1- من خلال إدراكنا وجود الله (انطولوجي).
2- من خلال الوحي ومرجعية الشريعة (الابستمولوجي).
يقول الشاطبي: (مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ إِنَّمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حَقًّا لَهُ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ ذَلِكَ لَهُ، لَا بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ) فتبطل (النزعة المستغنية عن الله).
قال ابن تيمية –رحمه الله-:[فالعدل هو الشرع، والعدل هو الشرع].


ملامح ومعطيات العدل في التصور الإسلامي:
1- العدل يمثل قيمة تكليفية، فهو مكلف برعاية هذه القيمة.
2- قيمة العدل قيمة تعبدية.
3- شرعيتها الذاتية ليست مفتقرة لإرادة الناس واختياراتهم. [فإرادة البشر شرط في تطبيق الشريعة وشرعية الشريعة غير منوطة بالبشر].
4- موافقة الأحكام الشرعية لما يحقق مقصود العدالة "القياس"
موافقة العقل الصحيح مع الشرع الصحيح [تأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها].
قال ابن تيمية-رحمه الله-: [وَالرَّسُولُ لَا يَأْمُرُ بِخِلَافِ الْعَدْلِ، وَلَا يَحْكُمُ فِي شَيْئَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يُحَرِّمُ الشَّيْءَ وَيُحِلُّ نَظِيرَهُ].

5- موافقة الفطرة.
(إشكاليات)
الإشكال الأول: المفارقة بين الشرع والعدل.
والجواب:
يقول ابن تيمية –رحمه الله-: [فالكتاب والعدل متلازمان والكتاب هو المبين للشرع؛ فالشرع هو العدل والعدل هو الشرع ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع ولكن كثيرا من الناس ينسبون ما يقولونه إلى الشرع وليس من الشرع؛ بل يقولون ذلك إما جهلا وإما غلطا وإما عمدا وافتراء وهذا هو الشرع المبدل الذي يستحق أصحابه العقوبة؛ ليس هو الشرع المنزل الذي جاء به جبريل من عند الله إلى خاتم المرسلين فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل].

الإشكال الثاني: التشريعات التفصيلية لحكاية قيمة العدل مجرد وسائل لغاية كبرى، فلربما يتحقق العدل بوسائل أخرى، كالاعتياض عن قطع اليد بسبب السرقة بشيء آخر كالسجن.
والجواب: إن القتل قد يحقق مقصودًا أكبر إلا أن الشارع لم يُرده، وكذا غيرَهُ مما يُظهر أن تفصيل إقامة العدل مراد وسيلة كما هو مقصود غائيًّا، قال ابن تيمية-رحمه الله-: [وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، فَمَنِ اسْتَحَلَّ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا يَرَاهُ هُوَ عَدْلًا مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعٍ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ ; فَإِنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَهِيَ تَأْمُرُ بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَدْلُ فِي دِينِهَا مَا رَآهُ أَكَابِرُهُمْ، بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِين َ إِلَى الْإِسْلَامِ يَحْكُمُونَ بِعَادَاتِهِمُ الَّتِي لَمْ يُنْزِلْهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَسَوَالِفِ الْبَادِيَةِ، وَكَأَوَامِرِ الْمُطَاعِينَ فِيهِمْ، وَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الْحُكْمُ بِهِ دُونَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَهَذَا هُوَ الْكُفْرُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَسْلَمُوا، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يَحْكُمُونَ إِلَّا بِالْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ لَهُمُ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْمُطَاعُونَ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا عَرَفُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ إِلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ، بَلِ اسْتَحَلُّوا أَنْ يَحْكُمُوا بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُمْ كُفَّارٌ، وَإِلَّا كَانُوا جُهَّالًا، كَمَنْ تَقَدَّمَ أَمْرُهُمْ].


الإشكال الثالث: كيف يكون القانون العام عدلًا؟
الجواب: أن ما لا يستطاع إدارك كله فلا يترك كله، ويقول الشيخ المعلمي –رحمه الله-: [وفوق ذلك فإن الرب عَزَّ وَجَلَّ يتمِّم العدل بقضائه وقدره، فيستر هذا، ويفضح هذا، ويزيد هذا تتمةَ ما يستحقُّه من العقوبة، ويعوِّض هذا فيما إذا كان الذي ناله من العقوبة أشدَّ مما يستوجبه جرمه، وهكذا .. وههنا حقائق ودقائق، ليس هذا موضع بسط ما ندركه فيها].
ويقول:- [لكننا قد قدَّمنا أن القوانين الشرعية يَجْبُر واضعها سبحانه وتعالى ما قد ينشأ عنها من خلل، فيقضي ويقدر ما يتم به العدل، وهو سبحانه المحيط بكل شيء علمًا وقدرةً، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ].
ويقول: [ولكنَّ الحَكَمَ العَدْل تبارك وتعالى يَجْبُر ما يستلزمه القانون العام من خَلَلٍ في بعض الجزئيات بقَدَرِه الذي لا يعجزه علم الحقيقة، ولا تقدير ما يوافق الحكمة.
ولذلك صورٌ قد ذكرت بعضها في غير [هذا] الموضع، والذي يختصُّ بهذا الموضع هو أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد يعلم أنَّ هذا الشيء الذي دلَّت الآية بعمومها على أنَّه حلالٌ، وبيَّنت آيةٌ أُخرى أنّه حرام = يعلم سبحانه أنَّ الحِكْمة لا تقتضي تحريم ذلك الشيء على هذا الشخص، فيَسَّره سبحانه بقَدَرِه إلى أن يسمع الآية العامَّة ولا يسمع الآية الأخرى، فهو وإن كان مخطئًا بالنَّظر إلى الحكم الشرعيِّ، فهو مصيبٌ بالنَّظر إلى الحكم الذي علم الله عزَّ وجلَّ أنَّه أنسب به، ولا يأتي مثل هذا في الكفر]. فإذًا يكملُ العدلُ الشرعيُّ بالعدل الكوني.

الأساس الثاني: العدل بين الأحكام والتشابه.
يقول ابن تيمية –رحمه الله-: [وَالشَّرْعُ هُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ; فَكُلُّ مَنْ حَكَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ، لَكِنَّ الْعَدْلَ قَدْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ، فَيَكُونُ الْعَدْلُ فِي كُلِّ شِرْعَةٍ بِحَسَبِهَا ........ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا، فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَلِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ عَدْلٌ خَاصٌّ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْعَدْلِ وَأَحْسَنُهَا، وَالْحُكْمُ بِهِ وَاجِبٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافِرٌ.].

ويقول: [الشَّرَائِعُ ثَلَاثَةٌ: شَرِيعَةُ عَدْلٍ فَقَطْ، وَشَرِيعَةُ فَضْلٍ فَقَطْ، وَشَرِيعَةٌ تَجْمَعُ الْعَدْلَ وَالْفَضْلَ، فَتُوجِبُ الْعَدْلَ، وَتَنْدُبُ إِلَى الْفَضْلِ، وَهَذِهِ أَكْمَلُ الشَّرَائِعِ الثَّلَاثِ وَهِيَ شَرِيعَةُ الْقُرْآنِ الَّذِي
جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ. مَعَ أَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْجَبَ الْعَدْلَ وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ الْمَسِيحُ - أَيْضًا - أَوْجَبَ الْعَدْلَ وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ.
وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَسِيحَ أَوْجَبَ الْفَضْلَ وَحَرَّمَ عَلَى كُلِّ مَظْلُومٍ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ ظَالِمِهِ، أَوْ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَنْدُبْ إِلَى الْإِحْسَانِ، فَهَذَا فِيهِ غَضَاضَةٌ بِشَرِيعَةِ الْمُرْسَلِينَ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذِكْرَ الْعَدْلِ فِي التَّوْرَاةِ أَكْثَرُ، وَذِكْرَ الْفَضْلِ فِي الْإِنْجِيلِ أَكْثَرُ، وَالْقُرْآنُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى غَايَةِ الْكَمَالِ].

الإشكال الرابع: امتيازات الحق على الباطل، كيف تفرض خيارات الأكثرية على الأقلية؟
فمن معطيات العدل الإسلامي: أن الشارع جعل للحق امتيازات ليست في الباطل، وأن للحق حقًّا ليس للباطل، سواء كان في الدنيا أو الآخرة، فجعل الشارع للحق ويمتد ما ليس لأهل الباطل، في عدم تساوي المؤمن والكافر، قال تعالى [أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم ..] [هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون؟..] [لا يقتل مسلم بكافر ..].
6- الهدف الأساسي من إقامة العدل: هو إقامة دين الله، والعبودية له، وتحقيق المصالح والمفاسد.
ففي العدل الإسلامي شيء من "النفْعِي" وهي المنفعة الدنيوية، واهتمت به الشريعة، وفارقت المدرسة النفعية أن لها اعتباراتٍ أخروية فقد تكون ألمًا في الدنيا منفعة في الآخرة، وهي المطلوبة المرغوبة " حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره ".
7- الشمولية، قال ابن تيمية –رحمه الله-: [وَالله تَعَالَى بعث الرُّسُل وَأنزل الْكتب ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ وَأعظم الْقسْط عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ ثمَّ الْعدْل على النَّاس فِي حُقُوقهم ثمَّ الْعدْل على النَّفس].
ويقول: [والاعتدال هُوَ صَلَاح الْقلب كَمَا أَن الظُّلم فَسَاده وَلِهَذَا جَمِيع الذُّنُوب يكون الرجل فِيهَا ظَالِما لنَفسِهِ وَالظُّلم خلاف الْعدْل فَلم عدل على نَفسه بل ظلمها فصلاح الْقلب فِي الْعدْل وفساده فِي الظُّلم وَإِذا ظلم العَبْد نَفسه فَهُوَ الظَّالِم وَهُوَ الْمَظْلُوم كَذَلِك إِذا عدل فَهُوَ الْعَادِل والمعدول عَلَيْهِ فَمِنْهُ الْعَمَل وَعَلِيهِ تعود ثَمَرَة الْعَمَل من خير وَشر].


الإشكال الخامس: إذا كان العدل الديني أولى من العدل الدنيوي فلم تُنصر الأمة الكافرة العادلة وتغلب الأمة المسلمة الظالمة؟
يقول ابن تيمية:
[ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام:
أحدها: ما فيها ظلم للناس، كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق، والحسد ونحو ذلك.
والثاني: ما فيه ظلم للنفس فقط، كشرب الخمر والزنى، إذا لم يتعد ضررهما.

والثالث: ما يجتمع فيه الأمران، مثل أن يأخذ المتولي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر، ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم. كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (سورة الأعراف: آية 33) .
وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم» فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة، فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له، والتعدي عليه في حقه].

8- دخول العدل في الأقوال والأفعال والاعتقادات، وهذا لم يمر مثله في المدراس السابقة، يقول ابن القيم –رحمه الله-: ثم أمره أَن يُخْبِرهُمْبِأَنَّهُ أَمر بِالْعَدْلِ بَينهم وَهَذَا يعم الْعدْل فِي الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال والآراء والمحاكمات كلهَا فنصبه ربه ومرسله للعدل بَين الْأُمَم فَهَكَذَا وَارثه ينْتَصب للعدل بَين المقالات والآراء والمذاهب].
9- الضمانات المساعدة، وهي على نوعين:
أ- دنيوية، تتمثل في التشريعات المتكاملة.
فالأصل براءة الذمة، الإثبات على المدعي، شخصية العقوبة، بطلان الإكراه، استقلالية القضاء، المساواة بين الجميع في مجلس القضاء، لا يقضي وهو غضبان.
ب-تعزيز العدل بالترغيب فيه والترهيب من الظلم.

يقول ابن تيمية: [من اعتاد الانتقام ولم يصبر، لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها، لا علما، ولا إرادة، وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول وما يفعل، فبين4 هو مظلوم ينتظر النصر والعز، إذ انقلب ظالماً ينتظر المقت والعقوبة].
10- بين المثالية والواقعية:
أ- بعض العدل عجز بشري: (ولن تعدلوا بين الناس ولو حرصتم) والمطلوب ما قُدِر عليه.
ب- ما روي (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران فإن أخطأ فله أجر) فلا يمكن الوصول إلى تمام العدل.

[خاتمة في مسألة لابن تيمية]
مَسْأَلَةٌ:
فِي رَجُلٍ مُتَوَلَّى وِلَايَاتٌ، وَمُقْطَعٌ إقْطَاعَاتٌ، وَعَلَيْهَا مِنْ الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّ ةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَهُوَ يَخْتَارُ أَنْ يُسْقِطَ الظُّلْمَ كُلَّهُ، وَيَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْطَعَهَا غَيْرَهُ وَوَلَّى غَيْرَهُ، فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ رُبَّمَا يَزْدَادُ، وَهُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ تِلْكَ الْمُكُوسَ الَّتِي فِي إقْطَاعِهِ، فَيُسْقِطُ النِّصْفَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ جِهَةُ مَصَارِفَ لَا يُمْكِنُهُ إسْقَاطُهُ، فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ لِتِلْكَ الْمَصَارِفِ عِوَضَهَا، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهَا، فَهَلْ يَجُوزُ لِمِثْلِ هَذَا بَقَاؤُهُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَإِقْطَاعِهِ، قَدْ عَرَفْت نِيَّتَهُ وَاجْتِهَادَهُ، وَمَا رَفَعَهُ مِنْ الظُّلْمِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ، أَمْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عَنْ هَذِهِ الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ، وَهُوَ إذَا رَفَعَ يَدَهُ لَا يَزُولُ الظُّلْمُ، بَلْ يَبْقَى وَيَزْدَادُ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ كَمَا ذُكِرَ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي هَذَا الْفِعْلِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ فَهَلْ يُطَالَبُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ لَهُ: أَنْ يَسْتَمِرَّ مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي رَفْعِ الظُّلْمِ وَتَقْلِيلِهِ، أَمْ رَفْعُ يَدِهِ مَعَ بَقَاءِ الظُّلْمِ وَزِيَادَةٍ؟ وَإِذَا كَانَتْ الرَّعِيَّةُ تَخْتَارُ بَقَاءَ يَدِهِ لِمَا لَهَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِهِ، وَرَفْعِ مَا رَفَعَهُ مِنْ الظُّلْمِ، فَهَلْ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُوَافِقَ الرَّعِيَّةَ أَمْ يَرْفَعَ يَدَهُ، وَالرَّعِيَّةُ تَكْرَهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهَا أَنَّ الظُّلْمَ يَبْقَى وَيَزْدَادُ بِرَفْعِ يَدِهِ؟ .
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَعَمْ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ، وَوِلَايَتُهُ خَيْرٌ
وَأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ
مِنْ وِلَايَةِ غَيْرِهِ، وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَى الْإِقْطَاعِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِيلَاءِ غَيْرِهِ، كَمَا قَدْ ذَكَرَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، بَلْ بَقَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ إذَا تَرَكَهُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاجِبًا إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَنَشْرُ الْعَدْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَرَفْعُ الظُّلْمِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، يَقُومُ كُلُّ إنْسَانٍ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ، وَلَا يُطَالَبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ رَفْعِ الظُّلْمِ.
وَمَا يُقَرِّرُهُ الْمُلُوكُ مِنْ الْوَظَائِفِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهَا لَا يُطْلَبُ بِهَا، وَإِذَا كَانُوا هُمْ وَنُوَّابُهُمْ يَطْلُبُونَ أَمْوَالًا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا إلَّا بِإِقْرَارِ بَعْضِ تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِمْ أُعْطُوا تِلْكَ الْإِقْطَاعَاتِ وَالْوِلَايَةَ لِمَنْ يُقَرِّرُ الظُّلْمَ أَوْ يَزِيدُهُ وَلَا يُخَفِّفُهُ.
كَانَ أَخْذُ تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَدَفْعُهَا إلَيْهِمْ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إقْرَارِهَا كُلِّهَا.
وَمَنْ صَرَفَ مِنْ هَذِهِ إلَى الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ تَنَاوَلَهُ مِنْ هَذَا شَيْءٌ أَبْعَدُ عَنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُقْطَعُ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْخَيْرَ يَرْفَعُ عَنْ لْمُسْلِمِينَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الظُّلْمِ، وَيَدْفَعُ شَرَّ الشِّرِّيرِ بِأَخْذِ بَعْضِ مَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ، فَمَا لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ هُوَ مُحْسِنٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ يُثَابُ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَأْخُذُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَهَذَا كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَالْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِيكِ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ أَوْ الْوَكَالَةِ إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ مَصْلَحَتِهِمْ إلَّا بِأَدَاءِ بَعْضِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِلْقَادِرِ الظَّالِمِ، فَإِنَّهُ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مُسِيءٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا يُعْطِي هَؤُلَاءِ الْمَكَّاسِينَ وَغَيْرَهُمْ فِي الطُّرُقَاتِ، وَالْأَشْوَالِ، وَالْأَمْوَالِ، الَّتِي اُؤْتُمِنُوا، كَمَا يُعْطُونَهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْعَقَارِ وَالْوَظَائِفِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى مَا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ أَوْ لِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ وَنَحْوِهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الْوَظَائِفَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ فَسَادُ الْعِبَادِ وَفَوَاتُ مَصَالِحِهِمْ.
وَاَلَّذِي يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقَعَ ظُلْمٌ قَلِيلٌ لَوْ قَبِلَ النَّاسُ مِنْهُ تَضَاعَفَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانُوا فِي طَرِيقٍ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يُرْضُوهُمْ بِبَعْضِ الْمَالِ أَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَمَنْ قَالَ لِتِلْكَ الْقَافِلَةِ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُعْطُوا لِهَؤُلَاءِ شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي مَعَكُمْ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهَذَا حِفْظَ ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يُنْهَى عَنْ دَفْعِهِ، وَلَكِنْ لَوْ عَمِلُوا بِمَا قَالَ لَهُمْ ذَهَبَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَسُلِبُوا مَعَ ذَلِكَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يُشِيرُ بِهِ عَاقِلٌ فَضْلًا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ الشَّرَائِعُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ
لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا
بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
فَهَذَا الْمُتَوَلَّى الْمُقْطَعُ الَّذِي يَدْفَعُ بِمَا يُوجِدُ مِنْ الْوَظَائِفِ وَيَصْرِفُ إلَى مَنْ نَسَبُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى وِلَايَتِهِ وَإِقْطَاعِهِ ظُلْمًا وَشَرًّا كَثِيرًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِذَلِكَ، إذَا رَفَعَ يَدَهُ تَوَلَّى مَنْ يُقِرُّهُ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا هُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا ضَمَانَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَنَاظِرِ الْوَقْفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ مَصْلَحَتِهِمْ إلَّا بِدَفْعِ مَا يُوصَلُ مِنْ الْمَظَالِمِ السُّلْطَانِيَّ ةِ، إذَا رَفَعَ يَدَهُ تَوَلَّى مَنْ يَجُورُ وَيُرِيدُ الظُّلْمَ، فَوِلَايَتُهُ جَائِزَةٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَدْفَعُهُ، بَلْ قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَكَذَلِكَ الْجُنْدِيُّ الْمُقْطَعُ الَّذِي يُخَفِّفُ الْوَظَائِفَ عَنْ بِلَادِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا كُلُّهَا لِأَنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ خَيْلٌ وَسِلَاحٌ وَنَفَقَةٌ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَتُهَا إلَّا بِأَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَهَذَا مَعَ هَذَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِهَادِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، بَلْ ارْفَعْ يَدَك عَنْ هَذَا الْإِقْطَاعِ فَتَرَكَهُ وَأَخَذَهُ مَنْ يُرِيدُ الظُّلْمَ وَلَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ هَذَا الْقَائِلُ مُخْطِئًا جَاهِلًا بِحَقَائِقِ الدِّينِ، بَلْ بَقَاءُ الْخَيْلِ مِنْ التُّرْكِ وَالْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَقْرَبُ لِلْعَدْلِ عَلَى إقْطَاعِهِمْ مَعَ تَخْفِيفِ الظُّلْمِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ تِلْكَ الْإِقْطَاعَاتِ مَنْ هُوَ أَقَلُّ نَفْعًا وَأَكْثَرُ ظُلْمًا، وَالْمُجْتَهِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُقْطَعِينَ كُلِّهِمْ فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ يَجْزِيهِ اللَّهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الْخَيْرِ، وَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَأْخُذُ وَيَصْرِفُ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا ذَلِكَ كَانَ تَرْكُ ذَلِكَ يُوجِبُ شَرًّا أَعْظَمَ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.





_ رابط كتاب " العدالة " لمايكل :
https://archive.org/details/moamenquraish_gmail_20170203_1 749

-معضلة يوثيفرو: الشيخ سلطان العميري
http://atheistsguide.com/euthyphro.htm