قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ودِين الإسلام وسَطٌ بين الأطراف المتجاذِبة، فالمسلمون وسطٌ في التوحيد بين اليهود والنصارى، فاليهودُ تصف الربَّ بصفات النقْص، التي يختصُّ بها المخلوق، ويُشبِّهون الخالق بالمخلوق، كما قالوا: إنَّه بخيل، وإنه فقير، وإنه لَمَّا خلق السمواتِ والأرض تعب فاستراح.
وهو سبحانه الجواد الذي لا يبخل، والغنيُّ الذي لا يحتاج إلى غيره، والقادر الذي لا يمسُّه لغوب، والقدرة والإرادة، والغِنى عمَّن سواه، هي صِفات الكمال التي تستلزم سائرَها.

والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها، ويشبهون المخلوق بالخالق؛ حيث قالوا: إنَّ الله هو المسيح ابن مريم، وأن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: المسيح ابن الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا، لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

فالمسلمون وحدوا الله، ووصفوه بصفات الكمال، ونزهوه عن أن يُماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصِّفات، فهو موصوف بصفات الكمال لا بصفات النَّقص، وليس كمثله شيء لا في ذاتِه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله،-------------- ----------------------------------وكذلك في النبوات، فاليهود تقتل بعض الأنبياء، وتستكبر عن اتِّباعهم، وتُكذبهم وتتهمهم بالكبائر.
والنصارى يجعلون من ليس بنبي ولا رسول نبيًّا ورسولاً، كما يقولون في الحواريين: إنَّهم رسل، بل يطيعون أحبارهم ورهبانهم كما تطاع الأنبياء، فالنصارى تصدق بالباطل واليهود تكذب بالحق.------------------------------
----------------------------وأما الشرائع -فاليهود منعوا الخالق أن يبعثَ رسولاً بغير شريعة الرسول الأول، وقالوا: لا يَجوز أن ينسخ ما شرعه، والنصارى جوزوا لأحبارهم أن يغيروا من الشرائع ما أرسل الله به رسوله، فأولئك عجزوا الخالق ومنعوه ما تقتضيه قدرته، وحكمته في النبوات والشرائع، وهؤلاء جوزوا للمخلوق أن يغير ما شرعَه الخالق، فضاهوا المخلوق بالخالق،--------- -----------------------------وكذلك في العبادات، فالنصارى يعبدونه ببدع ما أنزل الله بها من سلطان.واليهود معرضون عن العبادات حتى في يوم السبت الذي أمرهم الله أن يتفرغوا فيه لعبادته، إنَّما يشتغلون فيه بالشهوات، فالنصارى مشركون به واليهود مستكبرون عن عبادته، والمسلمون عبدوا الله وحْدَه بما شرع، ولم يعبدوه بالبدع.

وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به جميعَ النبيِّين، وهو أن يستسلم العبدُ لله لا لغيره وهو الحنيفية دين إبراهيم، فمن استسلم له، ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له، فهو مستكبر.
وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء: 48]، وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[غافر: 60].----------------------------------
وكذلك في أمر الحلال والحرام-- في الطعام واللباس، وما يدخل في ذلك من النجاسات، فالنصارى لا تُحرِّم ما حرمه الله ورسوله، ويستحلون الخبائث المحرمة كالميتة والدم ولحم الخنزير، حتى إنَّهم يتعبدون بالنجاسات كالبول والغائط ولا يغتسلون من جنابة، ولا يتطهرون للصلاة، ولما كان الراهب عندهم أبعد من الطهارة وأكثر ملابسة للنَّجاسة، كان مُعظَّمًا عندهم، فاليهود حرمت عليهم طيِّبات أحلت لهم، فهم يحرمون من الطيبات ما هو منفعة للعباد، ويجتنبون الأمور الطاهرة مع النجاسات، فالمرأة الحائض لا يأكلون معها ولا يُجالسونها، فهم في آصار وأغلال عذبوا بها، وأولئك يتناولون الخبائث المضرة، مع أن الرهبان يحرمون على أنفسهم طيبات أحلت لهم فيحرمون الطيبات ويباشرون النجاسات.
وهؤلاء يحرمون الطيبات النافعة، مع أنَّهم من أخبث الناس قلوبًا وأفسدهم بواطن، وطهارة الظاهر إنَّما يقصد بها طهارة القلب، فهم يطهرون ظواهرهم وينجسون قلوبهم والمسلمون يطهرون قلوبهم وظواهرهم، ويتناولون الطيبات، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32].["منهاج السنة"، لشيخ الإسلام ابن تيمية]