بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ.
وبعد،،
إلى الأخ/ عبد الله بن عبد العزيز الغزي، أنا أطلب منك أولًا: ألا تربط بيني وبين أحد ممن أجاب على كلامك؛ فتقول: (أنت قلت كذا.. وفلان قال كذا)، بل عليك بأن تجيب كل واحد، ولا تربط بينه وبين الآخر، وعليك أن تكون واسع الصدر؛ وإلا فكيف تطلب من الناس سعة الصدر في نقد شيخ الإسلام، ولا تكون أنت واسع الصدر إذا تعرض الناس لكلامك بالنقد؟!
ثانيًا: أطلب منك - وبهدوء شديد دون تعصب لرأي - أن تذكر لي رأيك في هذا الكلام لشيخ الإسلام رحمه الله:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
«وَالْأَشْعَرِيّ ُ اُبْتُلِيَ بِطَائِفَتَيْنِ : ... فَلِذَلِكَ وَافَقَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي بَعْضِ أُصُولِهِمُ الَّتِي الْتَزَمُوا لِأَجْلِهَا خِلَافَ السُّنَّةِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ تِلْكَ الْأُصُولِ وَبَيْنَ الِانْتِصَارِ لِلسُّنَّةِ، كَمَا فَعَلَ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ وَالصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُخَالِفُو نَ لَهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَة ِ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ وَإِنَّ مَا وَافَقَ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةَ يُنَاقِضُ مَا وَافَقَ فِيهِ أَهْلَ السُّنَّةِ.. بَلْ جُمْهُورُ الْمُخَالِفِينَ لِلْأَشْعَرِيِّ مِنَ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ يَقُولُونَ: إنَّ مَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ..
وَأَمَّا ابْنُ كُلَّابٍ والقلانسي وَالْأَشْعَرِيّ ُ فَلَيْسُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ مَعْرُوفُونَ بالصفاتية مَشْهُورُونَ بِمَذْهَبِ الْإِثْبَاتِ؛ لَكِنْ فِي أَقْوَالِهِمْ شَيْءٌ مِنْ أُصُولِ الْجَهْمِيَّة، وَمَا يَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ يُلْزِمُهُمْ بِسَبَبِهِ التَّنَاقُضُ وَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَإِنَّهُمْ قَالُوا مَا لَا يُعْقَلُ وَيَجْعَلُونَهُ مْ مُذَبْذَبِينَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ فَهَذَا وَجْهُ مَنْ يَجْعَلُ فِي قَوْلِهِمْ شَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة»ا هـ([1]).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
«بَلْ أَئِمَّةُ الْمُتَكَلِّمِي نَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا طُرُقٌ؛ كَأَبِي سَعِيدٍ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ»اهـ([2]).
ما رأيك في كلمة: (فِي الْجُمْلَةِ) وكلمة: (وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا طُرُقٌ)؟
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
«أَبُو الْحَسَنِ كِتَابُهُ فِي اخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ مِنْ أَجْمَعِ الْكُتُبِ، وَقَدِ اسْتَقْصَى فِيهِ أَقَاوِيلَ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ذَكَرَهُ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ، وَتَصَرَّفَ فِي بَعْضِهِ فَذَكَرَهُ بِمَا اعْتَقَدَهُ هُوَ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْقُولًا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ؛ وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ إلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ؛ فَأَمَّا ابْنُ كُلَّابٍ فَقَوْلُهُ مَشُوبٌ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ فِي الصِّفَاتِ»اهـ([3]).
بمَ تفسر هذا الكلام لشيخ الإسلام؟
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
«وَلَمَّا ظَهَرَتْ مَقَالَةُ الْجَهْمِيَّة جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ يُوَافِقُ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ؛ وَبَيَّنَ أَنَّ الْعُلُوَّ عَلَى خَلْقِهِ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ؛ وَكَذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ الْحَارِثُ المحاسبي وَأَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُتَكَلِّمِي نَ الْمُنْتَسِبِين َ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فَاتَّبَعَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَمْثَالِهِ وَذَكَرَ فِي كُتُبِهِ جُمَلَ مُقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ وَأَنَّابْنَ كُلَّابٍ يُوَافِقُهُمْ فِي أَكْثَرِهَا وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ الصفاتية؛ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَة ِ»اهـ([4]).
فأنت ترى أن شيخ الإسلام رحمه الله في هذا النص قد وصف ابن كلاب بأنه موافق للسلف والأئمة على إثبات صفات الله تعالى.
فهل يُفهم من هذا أن ابن كلاب كان موافقًا للسلف في كل شيء؟
فإن أجبتَ بـ«نعم»، كان هذا مخالفًا لإجماع أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام، حيث اتفقوا على أن ابن كلاب لم يكن على طريقة السلف.
وإن أجبتَ بـ«لا»، عُلِم أن شيخ الإسلام رحمه الله قصد بكلامه هذا أن ابن كلاب كان موافقًا للسلف من وجه دون وجه، وكذلك أبو الحسن الأشعري فإنه كان موافقًا لطريقة السلف من وجه دون وجه، كسالفه ابن كلاب؛ كما صرح شيخ الإسلام نفسه في نفس النص سالف الذكر بذلك؛ حيث قال: (ثُمَّ جَاءَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فَاتَّبَعَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَمْثَالِهِ).
كما يتبين لك من هذا النص ومن غيره من النصوص أن شيخ الإسلام رحمه الله قد يُطلق القول على بعض الأشخاص أنهم (ثبوتية) أو (مثبتة الصفات) أو (على طريقة السلف)؛ كما أطلق على ابن كلاب وعلى أبي الحسن الأشعري وغيرهما، ومقصوده من ذلك رحمه الله: أي: مقارنةً بغيرهم من الجهمية والمعتزلة ممن ينفون الصفات .
فإذا رأيت شيخ الإسلام رحمه الله يذكر أن فلانًا كان على طريقة السلف، فلا تفهم منه مباشرة أن فلانًا هذا كان متبعًا لطريقة السلف اتباعًا محضًا؛ بل قد يكون كذلك، وقد يكون اتباعًا للسلف في الجملة مقارنة بغيره؛ فهو متبع للسلف من وجه دون وجه.
وأما هذا الإطلاق من شيخ الإسلام رحمه الله بأن فلانًا من مثبتة الصفات أو بأن فلانًا متبعٌ للسلف، هكذا مطلقًا، فيتبين المراد منه من كلام آخر لشيخ الإسلام، وهذا الكلام الآخر إما أن يكون في موضع آخر من كتب شيخ الإسلام، وإما أن يكون في نفس الموضع؛ كما في النص سالف الذكر؛ فإن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر فيه أن ابن كلاب كان على طريقة السلف موافقًا لهم في إثبات الصفات، ثم ذكر في نفس الموضع وفي مواضع أخرى أنه كان على طريقة أهل الكلام؛ وإنما أطلق كونهم على طريقة السلف مقارنة بغيرهم من الجهمية والمعتزلة، كما قال رحمه الله في النص سالف الذكر: «ثُمَّ جَاءَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فَاتَّبَعَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَمْثَالِهِ وَذَكَرَ فِي كُتُبِهِ جُمَلَ مُقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ وَأَنَّ ابْنَ كُلَّابٍ يُوَافِقُهُمْ فِي أَكْثَرِهَا وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ الصفاتية؛ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَة ِ»؛ فابن كلاب والأشعري على طريقة السلف مقارنة بالمعتزلة؛ لأنهم ثبوتية والمعتزلة نفاة.
وهذه دقيقة لا بد أن يفهما كلُّ من يقرأ كتب شيخ الإسلام رحمه الله، وهي أنه رحمه الله قد يُطلق قولًا ما أو مصطلحًا ما، ثم يبينه في نفس الموضع أو في موضع آخر.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
«وَجَاءَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَهُ - وَكَانَ تِلْمِيذًا لِأَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِي الْمُعْتَزِلِيّ ِ، ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ مَقَالَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَيَّنَ تَنَاقُضَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَبَالَغَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ حَتَّى نَسَبُوهُ بِذَلِكَ إلَى قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَبْرِيَّة ِ وَالْوَاقِفَةِ - وَسَلَكَ فِي الصِّفَاتِ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ»اهـ([5]).
فقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله أن أبا الحسن الأشعري كان على طريقة ابن كلاب.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
«وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - جَعَلُوا النُّزُولَ وَالْإِتْيَانَ وَالْمَجِيءَ حَدَثًا يُحْدِثُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، فَذَاكَ هُوَ إتْيَانُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ؛ فَقَالُوا: اسْتِوَاؤُهُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ فِي الْعَرْشِ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَقُومُ بِالرَّبِّ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَالَفُوهُمْ»اه ـ([6]).
فبيَّن شيخ الإسلام هنا أن طريقة الأشعري في الصفات الخبرية كانت مخالفة لطريقة الناس.
فما أنت قائل في هذا الكلام كله؟
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم وكتبه
أبو يوسف محمد بن طه
صبيحة يوم الأربعاء التاسع من شهر رجب 1438 هـ
[1])) «مجموع الفتاوى» (12/ 204- 206).
[2])) «مجموع الفتاوى» (4/ 147).
[3])) «مجموع الفتاوى» (16/ 308).
[4])) «مجموع الفتاوى» (6/ 520).
[5])) «مجموع الفتاوى» (12/ 178).
[6])) «مجموع الفتاوى» (12/ 251).