كلمة ("لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ") من أعظم الأذكار التي فيها الإقرار بربوبية الله جل وعلا وإلهيتهوبأسمائه وصفاته، وفيها الإقرار بتخلّي العبد عن كل حول له وقوة ورؤية لما عنده من الآلات والقُدَر إلى ما عند الله وحده، ففيها الفرار من الله جل وعلا إليه وحده سبحانه وتعالى، وفيها التخلّي من رؤية النفس التي أوجبت الهلكة في الدنيا والآخرة على طائفة من الخلق.
فمعنى (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ)، (لَا) هنا نافية للجنس؛ يعني جنس الحول، وهو إن كان التحوّل من حال إلى حال وحتى رَفع الكأس إلى فيك، وحتى حركة ثوبك وحركة عمامتك، وحتى حركة عينيك، فإن هذا التحوّل من حال إلى حال في أي شيء تفعله فإنك تنفي جنسه، وتنفي القدرة على هذا التحول، إلا أن يكون بالله جل جلاله، وهذا فيه التبرؤ من الحول والقوة، وأنه لا يمكنك أن تتخلّى عن الله جل وعلا طرفة عين، حتى في طرفة عينك وفي حركة لسانك وفي حركة أنفاسك فإنه لا تغير من حال إلى حال ولا قدرة لك إلى تحول شأن من شؤونك مهما قلّ إلا بالله جل وعلا.
(وَلَا قُوَّةَ) يعني أيضا، (لَا) نافية للجنس؛ يعني أنك تنفي جنس القوة التي بها توجَد الأشياء والتي بها تُحصِّل الأمور، تنفي جنسها أن تكون حاصلة لك استقلالا، أو حاصلة لك في إحداث الأشياء، وهذا منفي إلا أن تكون بالله جل وعلا، وهذا حقيقة توحيد الربوبية لله جل وعلا، فإن الإيقان بأن الله جل وعلا المدبر للأمر، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه جل وعلا ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾[الأنعام:59] وأنه جل وعلا ﴿يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾[المؤمنون:88]، وأنه ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾[فاطر:2]، وأنه ما تسقط من ورقة، وأنه ما من شجرة، ولا هبوب ريح، ولا تحرك في وليد ولا في جنين ولا في دم في العروق، ولا في حركة حيوان صغر أم كبر، وأن ذلك كلَّه بتدبير الله جل وعلا، وأن كلماته الكونية جل وعلا وسعت كل شيء، كما قال جل وعلا في آخر سورة الكهف ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾[الكهف:109]، يعني الكلمات الكونية لكثرة أوامره جل وعلا الكونية فيما يحدث في أحوال العباد.
فتنظر إلى توحيد الربوبية وتعلم أنك لا فعل لك ولا حول في أي شيء ولا قوة إلا بالكريم جل جلاله، ومن أعظم ذلك أن تتبرأ فيه من الحول والقوة الهداية وصلاح النفس وصلاح الظاهر وصلاح الباطن، فإنه لا يمكن لعبد يرى نفسه أنه يفعل ويفعل وأنه يقدر وأن يوفَّق أبدا؛ بل لا يوفق إلا من تبرأ من الحول والقوة في شأن التكليف وفي شأن الهداية ﴿وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾[الإسراء:97]، سبحانه وتعالى.
وفيها توحيد الإلهية أيضا في أنه إذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله وأنّ المرء والمخلوق لا يمكن له أن يفعل بالله وحده دون ما سواه، فلماذا يتعلق قلبه إذن بغير الله من الآلهة والأنداد والأموات والأولياء والقوى المختلفة في حال البشرية القوة المادية أو غيرها؟ لماذا يتعلق قلبه بهذه الأشياء؟ فإنما يكون إذن تعلق القلب لمن يملك الانتقال والنقلة من حال إلى حال ويملك القوة، فإذن تتوجه القلوب بالدعاء ويتوجه المرء في عباداته إلى الله جل وعلا وحده، ويعلم أن من توجّه إليه الخلق بالعبادة وألهوه من دون الله جل وعلا هم كما وصفهم الله جل وعلا بقوله ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) [وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ]([1])﴾[الأعراف:191-192]، وقال جل وعلا في وصفهم يعني في وصف الآلهة ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء﴾[الأحقاف:5-6]، وفي قوله جل وعلا ﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً(56)أُو لَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾[الإسراء:56]، فالآلهة المختلفة محتاجة ذليلة إلى الرب جل جلاله، لا تملك لأنفسها شيئا من الضر ولا النفع، فإذن وجب التوجه إلى الله جل وعلا.
الثالث في هذه الكلمة العظيمة فيها توحيد الأسماء والصفات عن طريق التّضمّن واللزوم؛ لأنّ وصف الله جل وعلا هنا بأنه القوي القدير جل جلاله يتضمن إثبات صفات الكمال التي تقتضي أنّه لا انتقال من حال إلى حال إلا به، فهل ينتقل المرء من حال إلى حال إلا برحمته، هل يستقيم في حياته إلا بهدايته؟ هل يستقيم في أموره إلا بقدرته جل وعلا وبرحته وبعفوه وبمغفرته وبعدله إلى آخر الصفات. فإذن هذه الكلمة متضمنة ويلزم أيضا من إثباتها إثبات أنواع من الأسماء والصفات للرب جل جلاله، فهي كلمة عظيمة جليلة لذلك كانت من أعظم الكلمات التي هي غراس الجنة ووسيلة إلى الرب جل جلاله.[ شرح الطحاوية]