من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية :
الرسالة الخامسة والثلاثون:
[تفسير قوله عزوجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ عبد الله بن نصير، وقد ذكر الشيخ عبد الله في رسالة كلام أبي بكر ابن العربي المالكي في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} .
فأجاب -رحمه الله- بهذا الجواب الباهر الفائق، وأرخى عنان قلمه بميدان المعارف والحقائق، وكشف له القناع عن مدارك أحكام أهل التحقيق، ورفع له الأعلام إلى المَهْيَع والطريق، وبَيَّنَ له -رحمه الله- غلطَ أبي بكر بن العربي فيما زعمه وقرره، من أن معناه لبعض أهل السنة، وليس كما زعمه وحرره. بل إن ما اعتمده وعول عليه في معنى هذه الآية هو: كلام القدرية المجبرة، فإما أن يكون جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدا منه لمن كان يحسن فيه ظنه، هذا إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم، فلا ينكره، بل يقرره، ويأخذ به.

وهذا نص الرسالة:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن نصير -سلمه الله تعالى-: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد : فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط الذي ذكرت فيه كلام أبي بكر ابن العربي المالكي في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} . قد وصل وتأملته فوجدته قد اعتمد وعول في معنى هذه الآية على كلام القدرية المجبرة، وغلط في زعمه أن معناه لبعض أهل السنة، وابن العربي إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم ولا ينكره، بل يأخذ به ويقرره، إما جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدا لمن يحسن به الظن، أو لأسباب أخر، وليس هذا خاصا به. بل قد وقع فيه كثير من أتباع الأئمة المنتسبين إلى السنة، فإن قوله في تفسير قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى قضائي، فيكون فعل العبد على مقتضى حكم المولى، وإنما يخرج فعل العبد عن حكم المولى إذا كان مغلوبا، والغالب لا يخرج شيء عن فعله، وهو الله وحده.انتهى.
وهذا الكلام بعينه هو: كلام القدرية المجبرة، فيما حكاه عنهم غير واحد، وهذا التعليل هو تعليلهم بعينه، وهذا القول يقتضي أنه سبحانه خلق الشاكر ليشكر، والفاجر ليفجر، والكافر ليكفر، فما خرج أحد عما خلق له على هذا القول، لأن القدر جَارٍ بذلك كله، والقدرية المجبرة دعاهم لهذا فيما يزعمون إبطال قول القدرية النفاة، ومصادمتهم في قولهم: إن الإرادة هي الأمر، يأمر بها الطائفتين، فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم. وحاصل قولهم: إنكار القدر وأن الأمر أُنُف ، فقابلهم أولئك بالقول بالجبر، وأنهم لا يخرجون عن قدره وقضائه، نظرا منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه -تعالى- خالق كل شيء وربه ومليكه، ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته. كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ}، ونحو ذلك من الآيات.
ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان، لا بد منه في حصول الإيمان، وبإنكاره ضلت القدرية النفاة وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام، لكن لا بد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية، التي نزلت بها الكتب السماوية، ودلّت عليها النصوص النبوية.

[تفسير العبادة لغة وشرعا]
وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما، وآمنوا بكلا الأصلين، وفرقوا بين لام العلة الباعثة الفاعلة، وبين لام الغاية والصيرورة والعاقبة، والقرآن قد جاء ببيان اللامين، فالأولى في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}،: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}،: {لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}.
والثانية في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}،: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} ، {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} على أحد القولين.
فمن نفى الإرادة الأمرية فهو جبري ضال مبتدع، ومن نفى الإرادة الكونية القدرية فهو قدري ضال مبتدع.
ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية، فقد أدخل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم في هذه العبادة، وجعل عابد الأصنام والشيطان، والأوثان عابدا للرحمن، قائما بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول الذي قاله صاحب الفصوص، وطائفة الاتحاد الكفار.
وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق معبدون بجريان الأقدار عليهم. يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية، كما سيأتي حكاية هذا عن غيرهم، والعبادة وإن كانت لغة أقصى غاية الذل والخضوع مطلقا، كما في قوله:

تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد
فهي في الشرع أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية، كما فسر ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} بتوحيده وإخلاص العبادة له، نظرا منه إلى الحقيقة الشرعية لا إلى أصل الأوضاع اللغوية. وقد اعترض ابن جرير هنا بأصل الوضع واللغة، والحق ما قاله ابن عباس خلافا لابن جرير، بدليل قوله تعالى: {لا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، وتعليلهم ما قالوه، بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى إلا إذا كان المولى مغلوبا، والله -تعالى- هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه لأن الله -تعالى- لا يعصى عنوة، بل علمه الصحابة قاطبة، وسائر أهل السنة والجماعة متفقون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ويؤمنون بأن الله -تبارك وتعالى- عالم بجميع الكائنات قبل أن تكون كيف تكون؛ وغلاة منكري القدر قد أنكروا هذا العلم، فكفرهم بذلك الأئمة أحمد وغيره. وأما من قال بإثبات القدر، خيره وشره، حلوه ومره، فلا يلزمه ولا يرد عليه ما ورد على القدرية النفاة من لزوم خروج العبد عن فعل المولى. وإن قال: إن العبد قد يخرج عن الإرادة الدينية الشرعية إلى ما يضادها من المعاصي والكفر والفسوق، فيكون بذلك مخالفا للأوامر الشرعية، وإن كان داخلا تحت المشيئة الكونية القدرية. فالخروج عن القدر والمشيئة نوع، والخروج عن الأوامر الشرعية نوع آخر. فالأول غير ممكن لجميع المخلوقات لجريان الأقدار عليهم طوعا وكرها. أما الثاني فيقع من الأكثر: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، ولله -سبحانه وتعالى- في خروج الأكثر عن أمره حكمة، يحبها ويرضاها، لائقة بعلمه وحكمته وعدله وربوبيته، يستحق أن يُحمد عليها.

[الأقوال في قوله عز وجل {إلا ليعبدون} ]
وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كلاما حسنا في معنى قوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، ذكر فيه ستة أقوال (1):
(أحدها): قول نفاة الحكم كالأشاعرة ومن وافقهم، كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني والجويني والباجي، وهو قول جهم بن صفوان، ومن اتبعه من المجبرة، قائلين بنفي الحكمة، وأنها تفضي إلى الحاجة. فنفوا أن يكون في القرآن لام كي، وقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا القدرة والمشيئة وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة.
(الثاني) قول المعتزلة ومن وافقهم: وهو أنه -تعالى- يخلق ويأمر لحكمة تعود إلى العباد، وهي نفعهم والإحسان إليهم، فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك، لكن قالوا بأنه يخلق من يتضرر بالخلق، فتناقضوا بذلك. ثم افترقوا على قولين: من أنكر القدر، ووضع لربه شرعا بالتجويز والتعديل، وهذا هو قول القدرية، ومنهم من أقر بالقدر، وقال: حكمته حقت علينا، وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر، فهم يوافقون المعتزلة على إثبات الحكم، وأنها ترجع إلى المخلوق، ويقرون بالقدر.
(الثالث): قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه فقال: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه. فمن وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس بمخلوق له. وهذه حكمة مقصودة، وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد؛ ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق، بل يتضرر، فتناقضوا كما تقدم. ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع فوقعت، وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لأجل نفع العباد، وإن تضرر البعض. قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهادهم ومصالحهم، وهذا اختيار القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى، قالوا: فقوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة. وهذا قول طائفة من السلف والخلف، وهو قول الكرامية. وعن سعيد بن المسيب في معنى الآية قال: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، كذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة، هذا خاص بأهل طاعته. قال الضحاك: هي للمؤمنين. وهذا اختيار أبي بكر بن الطيب، وأبي يعلى، وغيرهما ممن يقول: لا يفعل لعلة، قالوا: واللفظ لأبي يعلى هذا بمعنى الخصوص، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار، بدليل قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة.
(قلت): قوله: وهذا قول طائفة من السلف والخلف، يعني بالتخصيص في الآية، لا أصل القول الثالث، ثم قال شيخ الإسلام: قلت: قول الكرامية ومن وافقهم، وإن كان أرجح من قول المعتزلة، لما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف، مخالف لقول الجمهور.
(والقول الرابع): إنه على العموم، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهرهم ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقوا له من السعادة والشقاوة، وفسروا العبادة بالتعبيد القدري، وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين : أنا كافر برب يعصى. فإنه جعل كل ما يقع من العباد طاعة، كما قال قائلهم:
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعا

وأما هؤلاء فجعلوا عبادة الله كون العباد تحت المشيئة، وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع القدر والمشيئة. وما رواه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} قال: جبلهم على الشقاوة والسعادة. وقال وهب: جبلهم على الطاعة، وجبلهم على المعصية. وقد روي أيضا عن طائفة نحوه، وهؤلاء، وإن وافقوا من قبلهم في معنى الآية فهم -أعني زيد بن أسلم ووهب بن منبه- من أعظم الناس تعظيما للأمر والنهي والوعد والوعيد، وأما من قبلهم فهم إباحية يسقطون الأمر والنهي.
(والقول الخامس): قول من يقول: إلا ليخضعوا لي، ويذلوا لي، قالوا: ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد. وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، ومتذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له. وقد ذكر أبو الفرج عن ابن عباس: إلا ليقروا بالعبادة طوعا وكرها، قال: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، وهذه الآية توافق قول من قال: إلا ليعرفوني -كما سيأتي- وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم، لم يقروا بذلك كرها، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له، فإنه يكون كرها، وأما نفس الإقرار فهو فطري فطروا عليه وبذلوه طوعا. وقال السدي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} قال: خلقهم للعبادة، ولكن من العبادة عبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} الآية .
هذا منهم عبادة، وليس تنفعهم مع شركهم. وهذا المعنى صحيح؛ ولكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله، وهذا ليس مراد الآية، فإن مجرد الإقرار بالصانع لا يسمى عبادة لله مع الشرك به، ولكن يقال كما قال -تعالى-: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . هذا آخر ما وجدت من هذه الرسالة، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.


_________
(1) انظر مجموع الفتاوى 8 / 37 - 50 .