سُورَةُ طه مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ وَمِائَةٌ
{طه}[طه: 1]

{طه}[طه: 1] يَا رَجُلُ؛ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي عَكٍّ فِيمَا بَلَغَنِي، وَأَنَّ مَعْنَاهَا فِيهِمْ: يَا رَجُلُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا فِيهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوَجَّهَ تَأْوِيلُهُ إِلَى الْمَعْرُوفِ فِيهِمْ مِنْ مَعْنَاهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَافَقَ ذَلِكَ تَأْوِيلَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: يَا رَجُلُ.
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}[طه: 2]

{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} مَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ فَنُكَلِّفَكَ مَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ.
{إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}[طه: 3]

{إِلَّا تَذْكِرَةً} مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً..
{لِمَنْ يَخْشَى}[طه: 3] عِقَابَ اللَّهِ، فَيَتَّقِيهِ بِأَدَاءِ فَرَائِضِ رَبِّهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذَنْ: يَا رَجُلُ، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ لِتَشْقَى بِهِ، مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى.
{تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَا}[طه: 4]

{تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ} هَذَا الْقُرْآنُ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّبِّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ..
{وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَا}[طه: 4] جَمْعُ عُلْيَا.
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5]

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} الرَّحْمَنُ عَلَى عَرْشِهِ.. وَلِلرَّفْعِ فِي الرَّحْمَنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ: تَنْزِيلًا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: نَزَّلَهُ مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ ، نَزَّلَهُ الرَّحْمَنُ الَّذِي عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَالْآخَرُ بِقَوْلِهِ: «عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ اسْتَوَى، ذِكْرًا مِنَ الرَّحْمَنِ..
{اسْتَوَى}[طه: 5] ارْتَفَعَ وَعَلَا.
{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}[طه: 6]

{لَهُ} لِلَّهِ..
{مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}[طه: 6] مُلْكًا لَهُ، وَهُوَ مُدَبِّرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمُصَرِّفُ جَمِيعِهِ.. وَيَعْنِي بِالثَّرَى: النَّدَى، يُقَالُ لِلتُّرَابِ الرَّطْبِ الْمُبْتَلِّ: ثَرًى.. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ: وَمَا تَحْتَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ.
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}[طه: 7]

{وَإِنْ تَجْهَرْ} يَا مُحَمَّدُ..
{بِالْقَوْلِ} أَوْ تُخْفِ بِهِ، فَسَوَاءٌ عِنْدَ رَبِّكَ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ..
{فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ} فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا اسْتَسْرَرْتَهُ فِي نَفْسِكَ، فَلَمْ تُبْدِهِ بِجَوَارِحِكَ وَلَمْ تَتَكَلَّمْ بِلِسَانِكَ، وَلَمْ تَنْطِقْ بِهِ..
{وَأَخْفَى}[طه: 7] مِنَ السِّرِّ، وَهُوَ مَا عِلْمُ اللَّهُ مِمَّا أَخْفَى عَنِ الْعِبَادِ، وَلَمْ يَعْلَمُوهُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ وَلَمَّا يَكُنْ؛ لِأَنَّ مَا ظَهَرَ وَكَانَ فَغَيْرُ سِرٍّ، وَأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ غَيْرُ كَائِنٍ فَلَا شَيْءَ، وَأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ كَائِنٌ فَهُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَنْ أَعْلَمَهُ ذَلِكَ مِنْ عِبَادِهِ..
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[طه: 8]

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الْمَعْبُودُ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، يَقُولُ: فَإِيَّاهُ فَاعَبْدوا أَيُّهَا النَّاسُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ..
{لَهُ} لِمَعْبُودُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ..
{الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[طه: 8] فَقَالَ: الْحُسْنَى، فَوَحَّدَ، وَهُوَ نَعْتٌ لِلْأَسْمَاءِ، وَلَمْ يَقُلِ الْأَحَاسِنُ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ تَقَعُ عَلَيْهَا هَذِهِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ أَسْمَاءٌ، وَهَذِهِ فِي لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا قَالَ: «حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ»[النمل: 60]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: «مَآرِبُ أُخْرَى»[طه: 18]، فَوَحَّدَ أُخْرَى، وَهِيَ نَعْتٌ لِمَآرِبَ، وَالْمَآرِبُ: جَمْعٌ، وَاحِدَتُهَا: مَأْرُبَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ أُخَرُ، لِمَا وَصَفْنَا، وَلَوْ قِيلَ: أُخَرُ، لَكَانَ صَوَابًا.
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}[طه: 9]

{وَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَلِّيهِ عَمَّا يَلْقَى مِنَ الشِّدَّةِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ، وَمَعْرِّفَةَ مَا إِلَيْهِ صَائِرٌ أَمْرُهُ وَأَمْرُهُمْ، وَأَنَّهُ مُعْلِيهِ عَلَيْهِمْ، وَمُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْجِدِّ فِي أَمْرِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى عِبَادَتِهِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ فِيمَا يَنُوبُهُ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِيمَا يُزَاوِلُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ، مَا نَابَ أَخَاهُ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ عَدُوِّهِ، ثُمَّ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا لَقِيَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ طِفْلًا صَغِيرًا، ثُمَّ يَافِعًا مُتَرَعْرِعًا، ثُمَّ رَجُلًا كَامِلًا..
{هَلْ أَتَاكَ} يَا مُحَمَّدُ..
{حَدِيثُ مُوسَى} بْنِ عِمْرَانَ.
{إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}[طه: 10]

{إِذْ رَأَى نَارًا} ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الشِّتَاءِ لَيْلًا، وَأَنَّ مُوسَى كَانَ أَضَلَّ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَى ضَوْءَ النَّارِ..
{فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} آنَسْتُ: وَجَدْتُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأُنْسِ..
{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا} لَعَلِّي أَجيئُكُمْ مِنَ النَّارِ الَّتِي آنَسْتُ..
{بِقَبَسٍ} بِشُعْلَةٍ، وَالْقَبَسُ: هُوَ النَّارُ فِي طَرَفِ الْعُودِ أَوِ الْقَصَبَةِ، يَقُولُ الْقَائِلُ لِصَاحِبِهِ: أَقْبِسْنِي نَارًا، فَيُعْطِيهِ إِيَّاهَا فِي طَرَفِ عُودٍ أَوْ قَصَبَةٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُوسَى بِقَوْلِهِ لِأَهْلِهِ: «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ» لَعَلِّي آتِيكُمْ بِذَلِكَ لِتَصْطَلُوا بِهِ..
{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}[طه: 10] دَلَالَةً تَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي أَضْلَلْنَاهُ، إِمَّا مِنْ خَبَرٍ هَادٍ يَهْدِينَا إِلَيْهِ، وَإِمَّا مِنْ بَيَانٍ وَعِلْمٍ نَتَبَيَّنُهُ بِهِ وَنَعْرِفُهُ.