تأملات رمضانية
هذا حديثُ النفس إلى النفس في رمضان، أسجلِّ فيه ما قد يعنُّ لي من خواطر حول حال الناس في هذا الشهر الكريم، مسترشدا بهدي الإسلام في معالجة ما قد يعنُّ، مستهديا بهداية الشريعة في كل موضوع يبحث في كل حلقة من هذه السلسلة.
- 1-
تأملتُ استقبالَ الناس لهذا الشهر كيف يكون فألفيتُ أن أكثرهم في غفلة عن مقاصد الصيام التي من أجلها قد شرع، ذلك أن مظاهر الاستقبال تكون رحاها في هذا الزمان دائرة حول أنواع المأكول والمشروب والملبوس، وذلك وإن كان غير ممنوع منه ولا مرغب عنه، بيْد أن الإكثار منه والإسراف فيه قد يحول دون الاستفادة من مرامي الصيام وأهدافه.
والبحوث الطبية المعاصرة تثبت أن قلة من الناس في العالم الإسلامي هم الذين يصومون صياما صحيا ترجى ثمراته، وتؤمل منافعه على الجهاز الهضمي وبقية أجهزة الجسم الحيوية.
وإذا كانت كثيرٌ من عادات البلاد العربية والإسلامية تقتضي أنواعا مخصوصة من المطعوم في شهر رمضان، فإن سبيل الرشاد فيها أن يتوسط في تناولها، وتسلك فيها الحمية الواجبة، من أجل دفع ضررها، واتقاء شرها.
ولقد جرَّب قوم ممن يمارسون أعمالا فكرية عقب الإفطار، أو يتصدرون المحاريب للقراءة في التراويح أن يكون فطورُهم قصدا، وأكلُهم لاستقبال الطعام عقب المغرب وسطا، فحمدوا جميعا السُّرى، ووجدوا لذلك حسن العُقبى.
وأما من أسرف وطغى، وآثر سبيلَ التخمة والامتلاء، وطريق النهم والإشباع وهو مستقبلٌ المحراب، أو معتل المنبر، فإنه واجد ٌعاقبة ذلك: اضطرابا في القراءة، وغيابا للمعنى، وسوء تقدير في الاستخراج.
ولقد شاهدتُ من الطرفيْن نماذجَ، ورأيتُ من الطائفتيْن عجبا، غدا ذلك منهما أضحوكة الزمان، وقالة الأوان، وحديث الركبان.
ومن الضرب الأول – وهم المتبلِّغون بحد الكفاية، المقتصرون في الفطور على مبلغ القصد والاعتدال- نفرٌ نبغوا فيما وكّل إليهم من وظائف عقب ذهاب يوم الصيام اعترفوا بأنهم من أهل القصد والتوسط في المأكل عند الإفطار.
-2-
تأملت حال الناس في هذا الزمان في السهر في ليل رمضان من غير داع يدعو إلى ذلك من مدارسة علم، أو قراءة قرآن أو وظيفة في شغل، أو مذاكرة لدروس، فألفيت أن أكثرهم على حال في الشرع منكرة، وفي العقل مستهجنة، إذ يواصل أغلبهم السهر في الليل إلى الفجر، في قضاء وطر، أو نزهة على بحر، أو تسلية على لعب، أو لهو على مقهى، أو تجوال في تسوق، حتى شاع في الناس أن رمضان يلذ فيه السهر، ويحلو فيه السمر، وتروق فيه المنادمة والمفاكهة.
وفي الحق فإن السهر إذا لم يكن له داع معقول فإنه مستهجنٌ شرعا، إذ فيه إنهاكٌ للجسد، وإذهاب ٌلنشاطه، وتبذيرٌ لطاقته وقوته، إذْ مطلوبٌ الإبقاء ُعلى النشاط، وتوفير الخفة والقوة، لاستعمال ذلك في شعائر الدين من قيام ليل، أو تهجد في سحر، أو ابتهال في فجر، كما أنه مطلوب مباشرة العمل مبكرا من أول النهار، ولإشراقة الشمس.
وذاع بين الناس في هذا الزمان أن رمضان شهر كسل ونوم، وموسم ضعف وقلة عطاء، وهذا مناف لمقاصد الصوم، وغاياته النبيلة، إذ كان هذا الشهر في تاريخ هذه الأمة شهر انتصارات وبطولات، وفتوحات ومكاسب لتاريخ الإسلام، فتقليل عدد ساعات العمل يزيد هذا المفهوم التواكلي ترسيخا، ويؤصل لمعنى الضعف والتواني في نفوس الشباب، إذ لا علاقة للصيام بعطاء الجسم، ومزاولة مهامه المنوطة به، بل إن التخفف من الطعام، والتقلل من المأكول مدعاة لصفاء العقول، وإقبال القلوب، وخلوص النيات، وذلك داع إلى النبوغ، والإتقان في العمل .
-3-
تأمَّلتُ حالَ الناس في هذا الزمان في اهتمامهم بالقيام في ليالي رمضان، فألفيتُ طائفة منهم وهي كثيرة بحمد الله تعالى تقوم من الليل ما شاء الله لها من قيام، ومنهم طائفة لا تبالي بالأمر بالةً، فتصلي العشاء حسْبُ مع الإمام في جماعة المسلمين في المسجد، ثم ينصرف الواحد منها ماضيا إلى عادته الغالبة في سائر أيام السنة: جلوسا في المقاهي، ولعبا بالورق، ومنادمة للخلان، ومعاقرة للدخان، ومفاكهة في أعراض الناس، وكـأن رمضان الذي كُتب لهذه الطائفة إدراكه شهرٌ كسائر الشهور، وموسم مثل مواسم أخرى، وزمن كبقية الأزمان؟!!!
وفي الحق فرمضان الذي أهلَّ هلالُه على هذه الطائفة ليس شهرا كبقية الشهور، وموسما كبقية المواسم، وزمنا كسائر الأزمان، كيف والحسناتُ فيه بالآلاف، والأعمال يجازى عليها بالأضعاف، ويُثاب عليها بالموازين الثِّقال الحِفالِ؟؟ ولعل الواحدَ من هذه الطائفة لا يُعمَّر إلى رمضان الآتي، ويقضي نحبَه قبل إهلال هلال الموالي، والله هو العليم المحيط بذلك الكافي؟
والقيام في أول الليل يُعان عليه المسلم من جهتين: فأولُ ذلك نشاطه بعد فطوره في شرابه وأكله، وثانيه: وقوعه في جماعة المسلمين، وذلك مظنة للتشجيع على الأداء، وسبب في الإقبال، ومدعاة للسرور في الإيقاع.

-4-
تأمَّلتُ حالَ الناسِ في هذا الزمان مع القرآن الكريم في شهر القرآن فألفيتهُم فيه شِيعا، وأمرَهم فيه مختلفا، فمنهم ضربٌ رَضُوا منه بسماع ما قد يترامى إلى مسامعهم من آيات مفرقات تأتي عفوا من وسائل الإعلام، أو منابر المساجد أو صفحات الإنترنيت، ومنهم ضربٌ جفَوْه أشد جفوة فحالهم معه كحالهم في غير رمضان: إعراضٌ مستمر، وهجرٌ متواصل، وقطيعة مقيتة، وجهلٌ به مطبق، ومنهم ضربٌ أنِسوا به في رمضان فهُو هِجيرِّاهم في لياليه وأيامه، وهو أنيسُهم في أوقاته ولحظاته، قد عَمُرتْ به حياتُهم، وتنوَّرتْ به قلوبهم وعقولُهم، وابتهجتْ له بيوتهم ودُورهم، قد ختموه فيه لِليالٍ قصيرة، ومُدد من أزمانٍ يسيرة، فعاشوا للقرآن وبالقرآن في شهر القرآن، وضربٌ ثالث قد حرَموُا آذانهم سماع القرآن، ومنعوا أرواحَهم من ريْحان القرآن، فلا أنسَ لهم بالقرآن، ولا سميرَ لهم من القرآن، ولا صديق لهم من القرآن، وقد يزيِّن الشيطان لبعض هؤلاء أنهم معذورون لأميتهم، وكلا فليس يُعذر أحدٌ في هذا الزمان بجهالة، ولا يقال عنه إن القالي الجافي للقرآن ليس يحسن التلاوة، ولا يدري ما القراءة، كيف والقرآن الكريم ُفي هذا العصر مسجَّل في وسائل متاحة للسماع، مُعَدَّة للمتابعة والاستعمال بأيسر طريق، وأسهل سبيل؟!!
-5-
تأمَّلتُ حال الناس في رمضان من حيث التزامهم بالوقار والتؤدة والسمت الحسن خلال فترة الصيام، فألفيتُ بعضهم سريع الغضبة، لا يملك نفسه إنْ أسيء إليه أن يؤآخذ بالفلتة، ويأخذ بالجريرة، ويجزي بالسقطة، فتراه في الأسواق دائم الشغب، كثير الخصومات، عنيفا في المنازعات، قد ملأ نهاره مقاتلات، وعمَّر صيامه بالفلتات، حتى إذا رُدَّ إلى الصواب، ورجع إلى ذلك وأناب، قال إني صائم، ولولا الصيام لما كان ما كان، كأن الصيام هو الدافع إلى القتال، والمحرِّض على النزاع، والداعي إلى ارتكاب أنواع الحماقات.
وفي الحق فالصيام داع إلى الصبر، محرض على الوقار والسمت، مشجع على استعمال العفو والصفح ، وكذلك كان صيام السلف الذين غايروا بين يوم صومهم وفطرهم، فإنهم كانوا إذا صاموا صامت جوارحهم، وعلتهم سكينة، وزيَّنهم وقار، وغشيتهم رحمة، فأين حالهم من حال أهل زماننا في زحامهم على الطرقات، ومقاتلتهم على أدنى المقترفات والهنات؟!!
وتجد أصحاب العادات ممن ابُتلي بشيء من هذه السجائر وأنواع المخدرات صائما سريع الانفعال كثير المؤاخذات وربما قيل له في ذلك فقال إنه مبتلى بشيء من هذه القاذورات، فيجب أن يُتقى ويحسب له ألف حساب؟؟!! وهل رمضان إلا مدرسة يتُعلم فيها الصبر على الشهوات وأنواع البلايا والمقترفات؟؟ وهل هو إلا فرصة لتجنب مثل هذه الرزايا والمصائب والعادات؟؟ بلى والله إنه لكذلك: دورةٌ في الصبر، وورشة في المصابرة، وتدريب على الترك، وامتحان في الالتزام....
-6-
تأمَّلتُ حال الناس اليوم في توقيرهم لشهر الصيام فألفيتُهم طائفتين: الطائفة الأولى تقدِّر رمضان حقَّ قدره، فتصومه متقربة من الله تعالى، راجية ثوابه، متأملة رضاه، ومن هذه الطائفة قومٌ قد يفرقون بين شعائر الإسلام في الالتزام، فيصومون لا يفطرون أبدا، وهم لا يصلون أبدا، ولا يزكون أبدا ولايحجُّون أبدا، ويرابون ويزنون ويشربون المسكر، لكن إذا جاء رمضان تقربوا إلى الله بالصوم فلم يفطروا ربما كان ذلك منهم مجاراة للعادة، ومسايرة لما يفعله الناس؟!!
الطائفة الثانية: قوم من بني جلدتنا من الذين انسلخوا من الدين، وتبرأوا من شرائعه، ورأوا ذلك تخلفا ورجعية، وانهزامية وظلامية، ومنافاة لروح لعصر، وخصومةً لمتطلبات المدنية المعاصرة، وقالوا : الصلاة أمر شخصي ولا دخل لأحد فيمن لا يصلي، والصوم أمرٌ شخصيٌّ ولا دخل لأحد فيمن لا يرى الصيام واجبا؟؟!!
وأنشأ هؤلاء العلمانيون من اللادينيين مواقع على الإنترنيت دعوا فيها إلى مقاطعة الصيام، وانتهاك حرمة الشهر الكريم بالأكل والشرب علانية نهارا جهارا ، وسموا أنفسهم بأسماء مختلفة وتدثروا في ذلك بشعارات متعددة.
وفي الحق فالصوم فعل شخصي وشعيرة سرية بين المسلم وخالقه، لا يطلع على حقيقتها إلا من أمر بها وفرضها، فمن آمن بالله ربا وصدق برسوله نبيا، واعتقد أن شريعة الإسلام تعدُّ في هذا العصر حكما وقانونا بادر إلى الصيام طواعية وعن طيب خاطر، وخلوص نية، ومن اعتقد غير ذلك فالله حسيبه وكفيله وجاعل كيده في نحره، وماذا عسى ينقص من ملك الله تعالى أن لا يصوم فلان أو فلان، أو عشرات أو مئات، أو آلاف؟؟!!
وماذا يضير الإسلامَ إذا وُجد من يأكل ويشرب ويضع موائد الغذاء جهرا وسرا، ومكرا وكيدا في نهار رمضان ويرفعها وقد ملأ بطنه بما يلذ ويشتهي، وواللهِ إنْ هو إلا جندٌ من جنود إبليس اللعين، مرق مع الشيطان الأكبر والعفريت الأحمر ، ففسق وفجر، وأفطر فجهر، فليصُم أو ليفطر فلن يُنقص من الإسلام شيئا.