الإمام الحافظ أبو محمد ابن حزم الأندلسي أحدُ بحور العلم الزاخرة ، لا يرتابُ منصِفٌ في فضلهِ وعلمِهِ ، فَلَقد كان نادِرةً من نوادر الدهر ، والمتأمّلُ في كتاباتِهِ لا يملكُ إلاّ أن يقِف مشدوها أمام تلك العبقريّة الفَذّة .

وكانَ هذا الأندلُسي أنموذَجا نادراً في الجُرأةِ العلميّة ، إذ عَاشَ حياتَهُ يصولُ ويجولُ غيرَ عابئٍ بخِلافِ أحدٍ أو وِفاقِهِ ، وقامَ بين ظَهراني متعصّبة المذاهبِ رافعاً عقيرتَه في نَسفِ ما يَراهُ مخالفاً للدليل ، حتّى أزعج خُصومَهُ بقوّة حُجَجه و سَعةِ علومِهِ ، ممّا اضطرّهم إلى نفيهِ وإحراق كتبِهِ ، لكنّهُ بقي يناضلُ ويجادلُ حتّى لَقيَ ربّهُ .

وقد كان ممّا يُكدّرُ صفوَ ( رَوائعِ أبي محمّد ) : ما كانَ يتميّز بهِ من شراسةٍ في الأسلوب ، وسَلاطةٍ في اللسان حتّى قُرِن لِسانُهُ بسيفِ الحجّاج ، وكان في طريقتِهِ مع مخالِفيهِ (يصك من عارضه صك الجندل وينشقه إنشاق الخردل) .. وتلك سِمَةٌ ظاهرةٌ على كتاباتِهِ لا سيّما كتابَهُ الأعجوبة "المحلّى" ، فإنّهُ نالَ من ذلك النصيب الأوفرَ والقِدحَ المُعَلّى ، إذ اشتَملَ على قسوةٍ في الردّ غيرُ معهودةٍ عن أهل العلمِ ، ممّا حَملَ كثيراً من الطَلَبةِ على الإعراضِ عن القراءةِ فيهِ لِكونهِ شديد اللهجةِ في نقد أئمّتهم ـ على الجميعِ رَحمةُ الله .

وقد حَذّرَ جماعةٌ من المشايخِ والمؤدّبين من أن يقرأ المبتدئُ في مؤلّفاتِ ابن حزمٍ لا سيّما " المُحَلّى " ، وهي منهم نصيحةٌ في مَحلّها فإنّ الأدبَ مع أهل العلمِ يقتضي ذلك ، فإذا ما أتقنَ الطالبُ التأدّبَ مع أهلِ العلمِ فلا حَرجَ حينئذٍ من الاستفادة من ذلك الكتاب على حَذَرٍ من شُذوذاتٍ وغرائبَ وَقَعَ فيها أبو محمّد رحمه الله تعالى .

منقول من يعقوب بن مطر العتيبي