معاقل العلم: مَاوَرَاء النهر ( 1)





د. محمد المحمدي النورستاني


باحث دراسات إسلامية بوازارة الأوقاف الكويتية


مصطَلَحُ «ما وراء النهر» من المصطلحات الجغرافية التي كان يستخدمُها البُلدانيون القدامى، ولم يعد يُستَخدَم الآن، وهو يُطلق على المنطقة الواقعة بين نهرَيْ «جيحون» و«سَيْحون»، ويُطلقُ البعضُ عليها الآن اسمَ (آسيا الوسطى)، وسيأتي تحريرُه. Untitled-1.jpg


أولًا: المقصود بـ(النهر) في هذا المصطلح :


لتوضيح المقصودِ بـ(النهر) في هذا المصطلح، ولبيان المنطقة التي يُطلق عليها بلاد (ما وراء النهر)، لابدَّ من الحديثِ عن نهرَيْ (جيحون) و(سيحون).


1- نهر جيحون:


المقصودُ بـ(النهر) في هذا المصطلح هو نهر (جيحون)، وكان يُسمَّى قديمًا (أوكسس)، بينما كان نهرُ (سيحون) يُسَمَّى (جكزرتس)، وإطلاقُ اسمَي (جيحون) و(سيحون) على النهرين السابقَين كان من العرب في بداية عصور الإسلام.


وفي بدايات القرن السابع، كاد يُترك استعمالُ اسمَي (جيحون) و(سيحون)، حيث عُرِف الأولُ في الغالب بـ(آمو)، أو (آمو دَرْيَا)، أو (دَرْيَائِ آمو) – ومعناه: نَهر آمو(1) – أمَّا سيحون فعُرِفَ بـ(سَيْر دَرْيَا)(2).


ولازال النهران يُسمَّيان الآن بهذين الاسمَين: (آمو دَرْيا)، أو(دريائِ آمو)، و(سير دريا).


وينبع نهرُ جيحون (آمو) من بحيرةٍ في هضبة (البامير)، التي ترتفعُ منها جبالُ (الهملايا)، وتتفرعُ عنها جبالُ (هندوكوش) في شمال أفغانستان(3).


ويتكوَّنُ نهرُ جيحون من مجموعةٍ من الأنهار التي تصبُّ من جبال بامير، وعمودُه الأساسيُّ هو نهرُ (جرياب) (ويُعرف حاليًّا باسم پَــنْج، ويُعرف أيضًا باسم وخاب، ويخرجُ من بلاد (واخان)، الواقعة أقصى الشمال الشرقيِّ في أفغانستان، ثم تنضمُّ إليه أنهارٌ كبيرةٌ أخرى.


ويقطع نهرُ جيحون من منبعِه إلى مصبِّه مسافة (2540) كيلومترًا، منها (1124) كيلومترًا في أفغانستان، والباقية في الجمهوريات التركستانية الأخرى.


وتقعُ على نهر جيحون مجموعةٌ من المدن، ففي نهر جيحون الأعلى (بالقربِ من منبعِه) في أفغانستان عددٌ منها، كما أنّ اسم (طخارستان) كان يُطلقُ على الأراضي الواقعةِ على ضفتي هذا النهر في مجراه الأعلى في أفغانستان، وذلك في المنطقة الواقعةِ بين بدخشان وبلخ.


ومن المدن المعروفة التي تقعُ على نهر جيحون على الجانب الأفغاني: (شيرخان بَنْدَرْ)، و(حيرتان بَنْدَرْ)، وهما الرابط الوحيد بين أفغانستان وبين جمهورية آسيا الوسطى.


كما تقعُ على النهرِ نفسِه – على الضفة الشماليةِ منه – مدينةُ (ترمذ)، ثم يمرُّ هذا النهرُ على عدة مدن اندثرت، ولم تعد معروفةً إلا للمختصين، وتقعُ أطلالُها في جمهورية تركمانستان، وهذه المدنُ هي: كالف، وزم، وآمل، ودرغان.


وهكذا نرى أن نهر جيحون (آمو دريا) – مع نهر سيحون - يرسم الخريطةَ لبلاد ما وراء النهر، ويحدِّدُ معالمها الجغرافية، وعلى ضفافِه قامت المدنُ والدولُ الكثيرة(4).


وإذا أُطلِقَ (ما وراء النهر) فالمراد به: ما وراء هذا النهر المذكور، إلى نهر (سيحون) ويُسمى الآن (سَيْر دَرْيَا) كما سبق.


وكان نهر (جيحون) يعدُّ قديمًا الحدَّ الفاصل بين الأقوام الناطقةِ بالفارسية والتركية، أي: إيران، وتوران، فما كان في شمالِه من أقاليم – أي: ورائه: فقد سمَّاها العربُ (ما رواء النهر)(5).


وفيما يلي توضيحٌ عن نهر (سيحون).


2- نهر سيحون (سير دَرْيا)(6) :


ينبعُ هذا النهرُ من مرتفعاتِ (بامير) الشمالية، وعمودُه الأساسيُّ هو نهرُ (قر دريا)، ثم يتصلُ به نهرٌ رافدٌ أكبر منه، وهو نهرُ خيلام (ويُسمَّى حاليًّا: نارين)، وهذه المنطقةُ تقعُ في جمهورية قرغيزيا (السوفيتية سابقًا).


ويتّجهُ نهرُ سيحون (سير دريا) غربًا من منبعِه في قرغيزيا حتى يدخلَ في جمهورية أوزبكستان عند مدينة (خوقَند)، التي أصبحت تابعةً لجمهورية أوزبكستان، ثم يتجه شمالًا صوب مدينة طشقند عبر أقاليم:


إيلاق، وأشروسنة والشاش. ويُعرف (سيحون) في هذه المنطقة باسم نهر الشاش، وتقع مدينةُ طشقند – عاصمة أوزبكستان – إلى الشرقِ من نهر سيحون.


ثم يدخلُ نهرُ سيحون أراضي جمهورية قازاقستان من جنوبها الغربي، ويواصلُ زحفَه شمالًا حتى يصبَّ في بحيرة خوارزم (بحر الآرال)، قاطعًا بذلك الجزء الغربيَّ من جمهورية قازاقستان.


ويبلغُ طولُ نهر سيحون (سير دريا) من منبعِه إلى مصبِّه (2700) كيلومتر، يجري خلالها عبر ثلاث جمهوريات إسلامية (سوفيتية سابقًا)، وهي: قرغيزيا، ثم أوزبكستان، ثم قازاقستان.


فـ(ما وراء النهر) هو المنطقة الواقعة بين هذين النهرين، ويشغلُ أكثَرَه الآن: جمهوريةُ (أوزبكستان)، والجزء الباقي يشغله: جزءٌ يسيرٌ من قرغيزيا، والجزء الجنوبيُّ الغربيُّ من جمهورية (كازاكستان).


على أن البعضَ لا يتقيَّدون بهذا التحديد، فيُطلِقون (ماوراء النهر) على جميع الأقاليم الواقعةِ شمالَ نهر (جيحون)(7).


أقاليم بلاد (ما وراء النهر) :


يمكن تقسيم بلاد (ما وراء النهر) إلى خمسة أقاليم:


1-إقليم الصُّغد: وهو صُغديان القديمة، مع قصبَتَيْه: بخارى، وسمرقند.


2- إقليم خوارزم: وهو في غرب الصُّغد، وهو الإقليم المعروف بـ(خيوة)، ويشملُ على دلْتا نهر جَيْحون.


3- إقليم الصَّغانيان: وهو في الجنوب الشرقيِّ، ومعه الـخُتَّل وغيرهما من الكور الكبيرة التي تقعُ في أعالي جيحون.


وقد درجَ البلدانيون على ضَمِّ إقليم (بدخشان) إلى ما وراء النهر، وأنه يشكِّلُ مع إقليم (الصغانيان) إقليمًا واحدًا، وقد عدُّوا بدخشان من ما وراء النهر وإن وقعت في ضفته اليسرى – أي: الجنوبية-، لأن المنعطف الكبيرَ للنهر فيما وراء طخارستان وحول بدخشان يكادُ يُطوِّقُها.


4- إقليم فرغانة: وهو في أعلى نهر سيحون.


5- إقليم الشاش: وهو اليوم (طشقند)، مع النواحي التي في الشمال الغربي الممتدَّة حتى مصبِّ سيحون في مناقع بحرِ آرال(8).


دخول الإسلام إلى بلاد ما وراء النهر:


أصبحَ نهرُ جيحون إسلاميًّا منذ عهد عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" ، عندما أرسلَ الأحنفَ بن قيس لفتح بلخ وهراة، وتوالت الفتوحات في عهد عثمان بن عفان "رضي الله عنه" ، ثم توقفت أيام الفتنة، لتعاودَ مسيرَها في عهد معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – وتبلغ ذروتَها في أيام عبدالملك بن مروان والوليد بن عبدالملك، على يد القائد قتيبة بن مسلم الباهلي، فتجعلَ نهرَ جيحون وجميعَ روافده نهرًا إسلاميًّا خالصًا، من منبعه إلى مصبِّه، كما جعلت أيضًا نهرَ سيحون (سير دريا) من منبعِه إلى مصَبِّه – تقريبًا– نهرًا إسلاميًّا خالصًا(9).


وفي المقال القادم سأتحدَّث– بإذن الله تعالى- عن أسماء (ماوراء النهر) قديمًا وحديثًا، وعن وصف البلدانيين لهذه المنطقة، وعن مآثرها.


الهوامش:


1- ذكر بعضهم أنه سمي بهذا الاسم إلى مدينة (آمل)، وتقع في خراسان، إلى الغرب من جيحون على مسافة ميل واحد منه، على الطريق من (مرو) إلى (بخارى)، وكان يطلق عليها (آمل زم) أو (آمل شط)، تمييزًا بينها وبين (آمل طبرستان)، وكانت تسمى أيضا (آمو)، أو (آمويه)، وبها سمي هذا النهر الذي يمر بجوارها، وقد دمرها المغول، ثم أعيد بناؤها، وتسمى الآن (جهار جوي)، أي: الأنهار الأربعة، على أن لسترنج لم يرتض هذا التعليل، مع أنه قوي، والله أعلم.


انظر: (بلدان الخلافة الشرقية) (ص:477- 479).


2-انظر: (بلدان الخلافة الشرقية) (ص:477).


3- تسمى جبال بامير سقف العالم، لأن فيها أكثر الجبال ارتفاعًا في العالم، وهي تدخل في عدة دول، منها: جمهورية طاجكستان، والتبت، وكشمير، وتتفرع منها جبال هندوكوش الواقعة في شمال أفغانستان.


4- (المسلمون في الاتحاد السوفيتي) للدكتور محمد علي البار (1/230-231).


5- (بلدان الخلافة الشرقية) (ص:476).


6-انظر (المسلمون في الاتحاد السوفيتي) للدكتور محمد علي البار (1/241-242).


7- على أن بعضهم يكون مصيبًا في تحديد بلاد ما وراء النهر، إلا أنه يخطئ في نسبة الأقاليم والمدن إليه، كما هو حال الدكتور رمضان رمضان متولي، والذي ألف كتابًا بعنوان: (أئمة علم الحديث النبوي في بلاد ما وراء النهر: دراسة تاريخية)، وأدخل فيه أئمة سسجستان وخراسان وفارس، أمثال الأئمة: مسلم بن الحجاج النيسابوري، وأبي داود السجستاني، والنسائي، وابن حبان والبستي، وهذا خطأ واضح، فبلاد سجستان تحد بلاد خراسان جنوبًا، كما أن بلاد خراسان تحد بلاد ما وراء النهر جنوبًا.


8- انظر: (بلدان الخلافة الشرقية) (ص476- 477).


9- انظر: (المسلمون في الاتحاد السوفيتي) للدكتور محمد علي البار (1/231).