الحمــد للــه رب العالميــن


ما قطع العبد عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والاجلة قاطع اعظم من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مركبها بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة وعزم صادق يميز به بين الوهم والحقيقة .

أصل كل طاعة إنما هي الفكر وكذلك اصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة فإن الشيطان يصادف ارض القلب خالية فارغة فيبذر فيها حب الافكار الردية فيتولد منه الارادات والعزوم فيتولد منها العمل فإذا صادف ارض القلب مشغولة ببذر الافكار النافعة فيما خلق له وفيما امر به وفيم هيء له واعد له من النعيم المقيم او العذاب الاليم لم يجد لبذره موضعا .

إذا تأملت ما دعى الله سبحانه في كتابه عباده الى الفكر فيه اوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته واحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه فبهذا تعرف الى عباده وندبهم الى التفكر في آياته ونذكر لذلك امثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه يستدل بها على غيرها فمن ذلك خلق الانسان وقدندب سبحانه الى التفكر فيه والنظر في غير موضع من كتابه كقوله تعالى " فلينظر الانسان مم خلق " وقوله تعالى " وفي انفسكم افلا تبصرون " .

قال ابو هريرة القلب ملك والاعضاء جنوده فان طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده وجعلت الرئة له كالمروحة تروح عليه دائما لانه اشد الاعضاء حرارة بل هو منبع الحرارة واما الدماغ وهو المخ فإنه جعل باردا .

كان الحسن إذا رأى السحاب قال في هذا والله رزقكم ولكنكم تحرموه بخطاياكم وذنوبكم .

قال الحسن ما زال اهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها اسماع وابصار فاعلم ان التفكر طلب القلب ما ليس بحاصل من العلوم من امر هو حاصل منها هذا حقيقته فإنه لو لم يكن ثم مراد يكون موردا للفكر استحال الفكر لان الفكر بغير متعلق متفكر فيه محال وتلك المواد هي الامور الحاصلة ولو كان المطلوب بها حاصلا عنده لم يتفكر فيه فإذا عرف هذا فالمتفكر ينتقل من المقدمات والمبادي التي عنده الى المطلوب الذي يريده فإذا ظفر به وتحصل له تذكر به وابصر مواقع الفعل والترك وما ينبغي ايثاره وما ينبغي اجتنابه .

إن الافكار الردية هي قوت الانفس الخسيسة التي هي في غاية الدناءة فإنها قد قنعت بالخيال ورضيت بالمحال ثم لا تزال هذه الافكار تقوى بها وتتزايد حتى توجب لها آثارا ردية ووساوس وأمراضا بطيئة الزوال .

كل طالب لشيء فهو محب له مؤثر لقربه ساع في طريق تحصيله متوصل اليه بجهده وهذا يوجب له تعلق افكاره بجمال محبوبه وكماله وصفاته التي يحب لاجلها وتعلقها بما يناله به من الخير والفرح والسرور ففكره في حال محبوبه دائر بين الجمال والاجمال والحسن والاحسان فكلما قويت محبته ازداد هذا الفكر وقوى وتضاعف حتى يستغرق اجزاء القلب فلا يبقى فيه فضل لغيره بل يصير بين الناس بقالبه وقلبه كله في حضرة محبوبه فإن كان هذا المحبوب هو المحبوب الحق الذي لا تنبغي المحبة إلا له ولا يحب غيره إلا تبعا لمحبته فهو اسعد المحبين به وقد وضع الحب موضعه وتهيأت نفسه لكمالها الذي خلقت له والذي لا كمال لها بدونه بوجه .