القول المأثور في إحياء الصواب المهجور (15)

لا خفاء أن حذاق اللغة وجلتهم المشبلون عندما يحرصون على صيانة اللغة عما يقترف فيها من شائنات؛ إنما يسعون إلى إرجاع الأمر إلى نصابه ومستقره، لأن الذي يسمح لنفسه أن تنام عيناه ملء جفنيهما على فشو وباء اللحن، يكون كمن يبصر نارًا تشب
في غابة، ثم ينكص على عقبيه من دون أن يفعل أي شيء لإخمادها, أو أن يدل الناس عليها، فينتهي به الحال إلى عض إبهامه حسرة على تفريطه، ولات حين ندم. لأجل ذلك فإن أحسن جابة عن هذه الخلية السرطانية التي تنمو وتتسع في العربية لأجل النمو
العبثي، تتمثل في قرع ظنبوب الاجتهاد لإبادة نوابت الفساد، ولاسيما أن سيرة نبينا محمد " صلى الله عليه وسلم" قد علمتنا أنه لم يسكت قط عن خطأ، قائلًا عندما لحن أحدهم في حضرته: «أرشدوا أخاكم فقد ضل»، كما قال " صلى الله عليه وسلم" :
«رحم الله امرأ أصلح من لسانه» فتابعه خليله أبوبكر الصديق "رضي الله عنه" عندما أعلن: «لأن أقرأ فأسقط، أحب إلي من أن أقرأ فألحن». هذا هو ديدن الرسول " صلى الله عليه وسلم" والخلفاء والبصراء بأفانين العربية من بعده، لا تظهر
نبتة شر إلا استأصلوها، ولا يسمع لحن إلا بادروا لتصحيحه خوفًا من أن يندس إلى لغة القرآن العظيم ما لا ترضاه، وما لا يتوافق مع حكمتها وبراعتها وخلابتها التي جعلت الخزامى في أنف كل مفوه قوال؛ ولأنهم أدركوا بحصافة ألبابهم أن تصور مفهوم
الأمة من دون لغة موحدة وموحدة ضرب من الوهم، لأن الأمة التي لا تعيش بلغة واحدة، تكبر أمرها وتعلي شأنها، وتصنع بها أشياءها وتربي عليها ناشئتها وتصرف عنها مكائد غيرها؛ أمة ضائعة حائرة لا يوزن لها رأي، ولا يحسب لها حساب، ولا يجمعها
أي شيء سوى جمع تبديد وتنافر يشعل الفتن ويذكي الصراعات؛ ولا ريب فالناس ــ عند التحقيق ــ لا يقتتلون إلا عندما يسيئون استعمال ما تقوله ألفاظ لغتهم بغيًا بينهم.
لذا ليس من الأسلم لنا ولا للغتنا العربية التي أعلن الرسول " صلى الله عليه وسلم" حبه لها لأنه عربي، ولأن القرآن العظيم عربي، ولأن كلام أهل الجنة عربي؛ ليس من الأسلم أن نترك هذا التلوث اللغوي الذي بلغ مبلغه في التكاثر والخبل من دون البحث
عن ترياق مضاد ينجينا وينجي لغتنا من هذا السم الزعاف الذي تقذف به وسائل اتصالنا وتواصلنا عوجًا غير مسدد طعنًا في الفصحى، التي تعد بلا امتراء عسل العروبة الذي لابد أن تتلمظه الأفواه لتذوق حلاوة طعمه، فتدرك مبلغ طاقته في إبادة الأسقام التي
تحول بيننا وبين لغتنا الجميلة؛ اقتداءً بمنهج أسلافنا الذين كانوا يوقنون أن العربية الفصحى المعافاة هي جوهر المشروع الوجودي للأمة العربية، وهي الخميرة التي تضمن نضج عقول أبنائها، فتجعلها مدركة لحاجاتها، ومتممة لما لم تمتد إليه جهود الآخرين،
فترتاد الآفاق ويتوسع التفكير وتستثار العقول وتتجدد مطارف اللغة؛ بما يضيفه إليها علماؤها ومفنوها ونطاسيوها من كلمات واصطلاحات لم يلهجها السابقون في زمانهم، فتكون تلك الإضافات وقودًا لضمان الاشتعال في صناعة المعرفة العربية المفيدة كما
صنعها أسلافنا الذين بلغوا في العلم بالعربية قرن الكلإ.
هذا هو دأب أجدادنا. فما بال عقولنا لا تبتغي أن تتحرر من الاتباع الأصم للكلام المرذول المخسول الخارج عن أنظمة الصحة والسلامة، وما بال ألسنتنا تشرح صدرًا بالصدود عن الفصحى، وتتنكب السبيل الجدد المهيع؟! أسئلة عديدة تدعونا إلى مساءلة
أسباب بعدنا وازورارنا عن القواعد والنواميس التي ضمنت للعربية سلامتها، كما تدعونا إلى البحث عن دوافع ضآلة المنجز التصحيحي بالنسبة إلى ما ينشر في صحفنا ومجلاتنا وكتبنا، وما تتفوه به ألسنتنا غير الفصاح، وما ينشر من كلام رقمي مخسول على
الشابكة، ناهيك عن النظر إلى التصحيح اللغوي بنظرات الضرائر، وبعقليات الضيق وهز الأكتاف سخرية واستهزاءً، علمًا أن من صحح لفظة أو مفهومًا فكأنه صحح النظرة إلى الحياة والوجود، ولاسيما إذا كان الأمر يخص قضية «التذكير والتأنيث» في
العربية؛ لأن الذي يذكر مؤنثًا ويؤنث مذكرًا يقلب الحقائق ويغمض الفكر ويفسد المعاملات، ولذلك جعل علماء العربية معرفة المذكر والمؤنث من تمام معرفة النحو والإعراب. قال ابن الأنباري: «إن من تمام معرفة النحو والإعراب، معرفة المذكر والمؤنث،
لأن من ذكر مؤنثًا أو أنث مذكرًا كان العيب لازمًا له كلزومه من نصب مرفوعًا، أو خفض منصوبًا، أو نصب مخفوضًا»(1) لذا فإن المرء يعجب ويعمد من مثل هذه العبارات التي تظهر عدم إلف قائليها بلغة القرآن المعجز، والشعر العربي البليغ على هذه
الشاكلة: هنيئًا لدولة البرازيل التي فازت بكأس العالم للشبان. لا ريب أن هذه العبارة من السوءة الصلعاء التي يجب أن نرميها في سفط السقط، لأنها تنكبت سبيل الفصحى من عدة أوجه؛ فهي قد ذكرت لفظة الكأس، وهي مؤنثة كما نطق بذلك القرآن الكريم
والشعر العربي البليغ على هذه الشاكلة: قال تعالى من سورة الإنسان آية 17:
{ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا}
وقال الشاعر عبيد بن الأبرص:
حتى سقيناهم بكأس مرة
فيها المثمل ناقعًا فليشربوا
ناهيك أن الكأس لا تطلق على الزجاجة إلا إذا كانت مملوءة، أما إذا كانت فارغة فهي إما زجاجة أو كوب أو قدح. وكذلك لفظة «المائدة» لا تسمى مائدة إلا إذا كان عليها طعام، وإلا فهي خِوان وخُوان أو طاولة، وكذلك «العهن» لا يسمى عهنًا إلا إذا
كان مصبوغًا وإلا فهو صوف، و«الثرى» لا يقال له ذلك إلا إذا كان نديًا وإلا فهو تراب، ولا يقال للإسراع في السير «إهطاع» إلا إذا كان معه خوف، ولا «إهراع» إلا إذا كان معه رعدة(2). لكن المعاصرين لا يعبأون بهذه الفروق اللغوية
الدقيقة التي أوردها القرآن الكريم، والتي أشبعها القدامى بحثًا وتمحيصًا، فأكثرنا من التجوزات التي لا توجبها ضرورة، حتى اعتاص علينا التعبير الدقيق عن المراد بوضوح تام. وما ذلك إلا من تداني هممنا عن تدبر وتثوير القرآن الكريم، وعدم إلفنا بلغة
الشعر العربي البليغ، حتى كاد أن يضرب بيننا وبين هذين المصدرين بسور لا قبل لنا بتوقله.
وبعد. هذا رأس الكلام الذي بدت عليه مخايل البراعة. أرجو ألا يكون عملي دون ما يطمح إليه أملي في التصحيح بعقلية استبصارية غير محصورة في القوالب اللغوية الجامدة، التي لا تمزج الإنارة بالإثارة.
الهوامش
1 - المذكر والمؤنث. أبوبكر محمد بن القاسم الأنباري. تحقيق طارق عبدعون الجنابي. ص 87. بغداد 1978م.
2 - الصاحبي. أبوالحسن أحمد بن فارس بن زكريا. تحقيق السيد أحمد صقر. (ينظر باب الأسماء التي لا تكون إلا باجتماع صفات وأقلها ثنتان. ص 118و119). دار إحياء الكتب العربية. كما ينظر كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها. للعلامة
عبدالرحمن جلال الدين السيوطي. شرح وتعليق محمد جاد المولى بك ومحمد أبوالفضل إبراهيم وعلي البجاوي. النوع الثلاثون «معرفة المطلق والمقيد» الجزء الأول. ص 449 وما بعدها. ط 1408هـ/ 1987م. المكتبة العصرية. صيداـ بيروت.