لماذا تتخلف الأمم ؟ بين الثقافة والتعليم

محمود كحيلة - مؤلف وناشر مصري


ما الثقافة؟ وما التعليم؟ وما العلاقة الجدلية بينهما؟ وهل هي موجودة على أرض واقعنا المعاصر؟ أم أنها ذهبت؟ وعليها أن تعود؛ لأننا في أمس الحاجة إليها حتى نستكمل مشروعنا القومي، لأجل النهوض بهذه الأمة التي إذا كان نصف أبنائها يريدون لها التقدم والنهضة والرقي فإن النصف الأخر يعملون بقصد أو بغير قصد على ما يحول دون ذلك..


ولذلك سنبحث في أفضل السبل للنهوض بثقافة هذه الأمة العظيمة، من خلال التعليم، وذلك برصد المعوقات التي كانت- ولا تزال- تحول دون دمجه بالثقافة؛ تحقيقًا لمخرجات أجود وأفضل.
لا علم بلا ثقافة، ولا ثقافة بغير علم، لأنهما جناحان لطائر واحد، ووجهان لعملة واحدة.. إذ لا قيمة لأحدهما دون الآخر، ويوم نقدر على جمعهما مجددًا سنعلن أننا أصبحنا على الطريق، وعندما نستطيع أن نجمع شمل العلم بالثقافة سنوقن وقتها أننا على الطريق الذي نحن بمعزل عنه، ما لم نؤمن بأنه لا انفصال بين التعليم والثقافة.
لذلك يجب التواصل التام بين ما يتلقاه المتعلم، وما يحتاج إليه من معرفة بالحياة، فهو يتعلم الحساب لكي يشتري حاجاته وحاجات أسرته بالقدر الذي يناسب دخله وإمكانياته، ودون أن يستغل أحد جهله بالحساب. وهو يتعلم القراءة كي يعرف الفرق بين الصيدلي والبقال، وبين طبيب الأسنان والمحامي، وهكذا، يدرس التاريخ فيتعلم من تجارب أسلافه، ويدرس الجغرافيا ليتعرف على مناخ وتضاريس بلاده والفرق بينها وبين غيرها.. إلخ.



معوقات المزج بين التعليم والثقافة

لاشك أن ما أصاب مؤسسة التعليم من خلل انعكس مباشرة على كافة أنشطة الحياة وجوانبها، بما فيها الثقافة، فالمتأمل فينا سيصل إلى جوانب مؤلمة صرنا إليها.. وسأبدأ بمثال من اللحظة الآنية حيث بعض أبناء العرب يخربون أوطانهم بأيديهم، بتصرف لا يعبر عن وعي أو ثقافة؛ لأن المواطن الراقي الشريف المتحضر المحب لوطنه لا يُقدم على ما يؤذي وطنه، والسلوكات القويمة لابد لها من خلفية تعليمية راقية. ولذلك نقول: إن ما نعانيه اليوم من عبث وانفلات وغوغاء وعشوائيات إنما هي حرب على الأملاك العامة، وتعطيل لمصالح الناس، وهو سلوك لا يعقل أن يتأتى أبدًا من متعلم مثقف يعرف أن ما يخرب من منشآت الوطن هو اعتداء على أملاك عامة، له فيها حق ونصيب، وإعادة إعمارها سيتم من ماله وعلى نفقته، إنها حقائق راسخة ينطق بها الواقع، ويجب أن يؤمن بها كل مواطن ويتعلمها؛ لأن التعليم ليس الدروس والحصص اليومية التي يتعاطاها تلاميذ المدارس.. وإنما هو سلوك مثالي قويم تسهم في الحصول عليه الثقافة التعليمية التي يجب أن تطبق على الفرد منذ الطفولة، حيث يغرس في وجدانه بذور هذا السلوك الذي سينمو معه ويلازمه في مستقبل حياته، وهذه البذور عليها أن تخاطب حواس الطفل وتسيطر سيطرة كاملة على موارده

الثقافية والعلمية والتربوية؛ لتنتهي إلى خبرات متراكمة لدى كل فرد بالمجتمع، يورثها بطريقة طبيعية إلى الأجيال التالية.

وتبرر لنا هذه السلسلة في تداول الخبرات الثقافية والتعليمية كيف فقدت شعوبنا تراثها الفكري والعلمي وإرثها الثقافي، لأنها تخلت عنه جيلا بعد جيل، ثم بدأنا في محاكاة الغرب بعد أن أدهشتنا حضارته الهشة، فنشأ- ولا يزال- صراع بين قطرات دماء عريقة تجري في عروقنا، وبين عيون زائغة تحترف التقليد الأعمى.

إذن التعليم هو الأساس الذي يمكن أن ينطلق بأمتنا في كافة مجالات الحياة، ولذلك يجب أن يهدف إلى تطوير مجالات الإنسان العقلية والفكرية عن طريق مزج العلم بالثقافة، وأن يتم تلقين العلوم بطرق غير تقليدية عن طريق ربطها بالحياة، وتيسير المادة التعليمية التي أصبح يعوق تواصلها ثقافيّا معوقات داخلية؛ لأنها تحدث داخل المؤسسة التعليمية، ومعوقات خارجية تتعلق بالمعلمين وأولياء الأمور.. وسوف نرصد هذه المعوقات بمختلف جوانبها:



المعوقات الداخلية للتحول الثقافي

1- عدم اقتناع القيادات التعليمية بأهمية الثقافة، وتركيزهم فقط على تطبيق اللوائح والقوانين المركزية، دون أن يشغلوا أنفسهم بمناقشة جدوى تطبيقها.
2- تدني القابلية الداخلية لتطوير الثقافة التنظيمية للمؤسسة، وهي مجموعة القيم والاعتقادات وأساليب التفكير والسلوكات التي تميز كل مؤسسة عن الأخرى، ولذلك فتعديلها بإجماع الباحثين مسألة ليست سهلة، وتحتاج إلى جهد كبير وإرادة للتغيير وصبر على النتائج، لأنها عملية ترتبط بالعنصر البشري الذي يكره ما يجهل، ولذلك يخشى أي تعديل أو تغيير ربما يحمل خطرًا على مصالحه.
3- تعدد وجهات النظر حول المعوقات التي لا يراها المعلمون كما تراها القيادات الإدارية وأولياء الأمور، حيث ترى كل فئة أن الإصلاح هو ما فيه صالحها لا الصالح العام، بينما يتطلب الإصلاح مشاركة الجميع.
4- عمليات المتابعة والتوجيه التي هي استنساخ مبتذل لعملية الرقابة والتفتيش، تجعل المعلم يهتم فقط بإرضاء الموجه والمتابع (المفتشين الجدد)، وهو أمر غالبًا ما يتم على نفقة العملية التعليمية - المطلب الرئيسي للمؤسسة - ويترتب على ذلك أيضًا استخدام آليات قياس لمستوى الطالب، تركز على الأداء وليس المهارة والإنجاز، مما جعل التلاميذ يستخدمون الحفظ والاستظهار في تعاطي دروسهم، دون الاهتمام بمستوى المعرفة الحقيقية.
5- عدم الاهتمام بمشاكل المستفيدين من العملية التعليمية، لذلك فإن أزمة المدرسة الحالية لا تتمثل في عدم قدرتها على حل المشكلات، بل لأنها لا ترى هذه المشكلات أساسًا، فقلة اهتمامها بالمستفيدين وتمركزها حول ذاتها يصيبها بالعمى الوظيفي الذي يحجب عنها رؤية المنافع.
6- عدم قابلية المعلمين لفكرة التغيير نحو
7- عدم وجود بيئة مناسبة لدعم وتنمية قدرات ومدارس الطلاب والمعلمين والعاملين في المدرسة، بتفعيل أساليب التفكير الإبداعي والعمل الجماعي لإنجاز أفضل، بدافع من الحلم بمستقبل قومي يحمل الخير للجميع.

استراتيجيات النهوض بالتعليم

كيف ندعو مواطنينا إلى التعليم ولا نجبرهم عليه؟
هناك تجارب عظيمة جرت في أنحاء متفرقة من العالم، منها تجربة طريفة لمخرج برازيلي يدعى «أوجستو بوال» وهو مؤلف ومخرج ومنظر مسرحي، درس المسرح في جامعة «كولومبيا» الأميركية حتى حصل على درجة الدكتوراه في الدراما، وذلك بعد دراسته للهندسة، وقد بدأ «بوال» حياته المسرحية كاتبا عام 1957م، واتجه بعد ذلك إلى الإخراج عام 1961م، موجهًا رسالته الدرامية إلى جمهور بلاده من الفقراء والمقهورين، محتجّا بالتمثيل على أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية عاشتها شعوب أميركا اللاتينية.. فكان يحرض مشاهديه ويدعوهم إلى الاحتجاج والثورة ضد امتصاص الأغنياء لدماء الفقراء.

سنة 1973م كلف (أوجستو بوال) من قبل حكومة بلاده بتنظيم عرض مسرحي لمقاومة الأمية، وحث الناس على طلب العلم في إطار برنامج قومي لمحو الأمية، عن طريق المسرح، استخدم بوال أسلوبًا يعتمد على عرض المشكلة على الجمهور ليشارك في البحث عن حل! وكان العرض يستمر حتى يصل إلى لحظة الأزمة، عند نقطة حرجة ينبغي فيها على البطل أن يتخذ قرارًا، وفي هذه اللحظة يوقف التمثيل ليسأل الجمهور عن الحل الأمثل الذي ينبغي على العرض أن يعتمده، وكان المشاهدون يقترحون حلولًا يرتجلها الممثلون على منصة التمثيل استكمالا للعرض، حتى ينهك المشاركون من كثرة المشاهدة والتشخيص، فينتهي العرض..


ثم تطور الأمر فأصبح العرض كله تشخيصًا لمشاكل الجمهور التي بدأت بالسياسة، ثم ظلت تتنوع وتتجدد حتى تعلقت ذات يوم بمشاكل عاطفية ذات أبعاد ثقافية تعليمية، منها مشكلة امرأة كان زوجها يسلبها الأموال مرة بعد مرة، مدعيا بناء منزل جديد لهما في منطقة جديدة، وفي كل مرة يأخذ منها المال كان يعطيها ورقة «معطرة» لتحتفظ بها على أنها إيصال سداد، وأصابها القلق ذات يوم عندما تهرب من إجابة مطلبها المتكرر بمشاهدة منزلهما الجديد، فاستدعت جارتها المتعلمة وطلبت منها أن تقرأ لها الإيصالات المعطرة التي لم تكن إلا خطابات غرامية حال الجهل (الأمية) دون قراءتها لها، ولما طرحت هذه المشكلة على الجمهور، وطلب منه اقتراح الحلول، تنوعت الآراء وتعددت، فكان أهمها رأي تلك المرأة الغاضبة التي طالبت بحوار صريح ومباشر، بعده تعد الزوجة لزوجها العشاء وتستمر حياتهم بشكل طبيعي.. عملت الفرقة على تنفيذ المقترح مرات عدة، ومع ذلك لم يرض السيدة الغاضبة تمثيلهم، فطالبها بوال آخر الأمر أن تؤدي الدور بنفسها، فأمسكت بالممثل وأوسعته ضربا «هكذا الحوار من وجهة نظرها» ثم نهضت فأعدت له الطعام.


خلص «بوال» من ذلك إلى حقيقة مهمة، وهي أن صعود المتفرج إلى خشبة المسرح يجعله يصنع ما يتخيله بطريقته الخاصة، وهي دائما طريقة شخصية وفريدة وغير قابلة للنقل، وهكذا عرف بوال «مسرح المنتدى» حينما يصنع المشاهد مسرحه، فيكون الفاعل الإيجابي صاحب القول والفعل، فيتعلم كيف يحل مشاكله بنفسه.


إزالة المعوقات

وبناءً عليه فإن الخطط المقترحة لإزالة المعوقات في مجال المزج الواجب بين التعليم والثقافة هي:
1- قيادة المؤسسة التعليمية عليها المسؤولية الكبرى في التغيير وإزالة أي شعور سلبي لدى القيادات التحتية، وإقامة علاقات اتصالية جيدة ومباشرة بين من هم في مهام قيادية وبين جميع العاملين، مع متابعة مراحل تطور هذه العلاقات.
2- وضع مخطط واع وواف للتحول، يعتمد على دراسة علمية وعملية للمعوقات.
3- إعادة صياغة المناهج الدراسية بما يناسب مرحلة جديدة، يتوفر فيها مساحة مناسبة لمعرفة كيفية عمل الأشياء، بما يصاحب ذلك من دعم مهارات التفكير، مع هجر الأسلوب التقليدي المرهق للمتعلم.
4- إعداد مناهج معاصرة توفر مساحات مناسبة لإبداع المعلمين والمتعلمين، بحيث تتناول هذه الموضوعات جوانب ثقافية تتوافق مع متطلبات المجتمع، لتكون المناهج بذلك محققة لطلبات المجتمع.
5- الاهتمام ببناء مدارس تحتوي على المعدلات العالمية المعتمدة بالنسبة لكل مرحلة من المراحل التعليمية، والاهتمام بتصميم مبان مدرسية جيدة التهوية والإضاءة والمساحات والألوان.
6- تفعيل دور أولياء الأمور ومؤسسات المجتمع وهيئاته، لأن دعم هذه الكيانات يعكس في الواقع حقائق غاية في الأهمية، منها أن حماس الآباء أو المؤسسات لكيان مدرسي إنما هو انعكاس لإيمان هذه الجهات بالعمل الذي يتم فيها.
7- السياسات وأنظمة العمل يجب أن تنبع من الداخل، بأن تشعر المؤسسة التعليمية أنها صاحبة قرار ودور في إدارة عملها، ولتكتف القيادات المركزية بتوفير دورات تدريبية لوضع العاملين على الطريق والمراقبة عن بعد، وإلغاء دور الرقباء والمتابعين المعمول به حاليا.
8- استخدام نظريات وأساليب حديثة في التعلم، توظف أفضل أنواعها التي تعتمد على الخبرة وخلق الرغبة والدافعية لدى المتعلم في البحث عن المعلومات بنفسه من مصادرها المتعددة.
9- تفعيل دور المكتبات المدرسية وإصلاحها من حيث المبنى، لتكون في مكان جيد ومهم بالمنشأة، وعامرة بالكتب الجيدة المثيرة التي تشبع الرغبات الثقافية للطلاب، مع مراعاة المراحل التعليمية المختلفة، بأن تكون كتب كل مرحلة مدرسية مناسبة لعمر الطلاب.
نخلص من كل ذلك إلى أن التعليم يصنع محيطا مناسبًا لازدهار ونمو الثقافة عندما يتجه إلى غرس القيم العليا في نفوس التلاميذ في المراحل التعليمية المختلفة، بما له من تأثير كبير على مستوى الوعي والاهتمام الثقافي، ولذلك نجد التعليم في كل بلد يعكس الأوضاع التاريخية والفكرية والنفسية والاجتماعية لهذه البلد، وعندما نتأمل ذلك على المستوى التاريخي نرى الدور الأساسي الذي لعبه التعليم في التبشير بالقيم الأخلاقية والأنساق الثقافية المختلفة.. ولذلك يجب الحفاظ على ثقافة المجتمع التاريخية بكل إيجابياتها وسلبياتها؛ لأن من كان بلا ماض فلا حاضر له ولا مستقبل.. والميزة الحقيقية للبشر أنهم يتعلمون من أخطائهم، ولولا ذلك ما قامت الحضارات التي ما كانت سوى انعكاس لتعليم جيد وثقافة عميقة، لأنهما الركنان الأصليان لتنمية المجتمع بما يوفره من قواعد نفسية وعقلية لاستيعاب برامج التنمية بخطواتها المختلفة.
وقد اتجهت بعض دول العالم إلى دمج العمل في التعليم والثقافة؛ لأنه ما من اتصال واجب وممكن بين مجالين من مجالات الحياة قدر اتصال التعليم بالثقافة، لأنهما أصحاب رسالة واحدة وهدف واحد هو تعلم الناس ما ينفعهم ويعود بالنفع على الوطن..
فبالعلم والثقافة يصنع المواطن المثالي الصالح.