إن الفطرة السوية التي نتكلم عنها كعلاج من الإلحاد, يمكن أن تقبل الإسلام وتهتدي إليه سبحانه وتعالى, وتترك الإلحاد الذي تلوثت به, بما أودع الله فيها وفي كل الخلائق من قوانين كلية، تظهر آثارها في الطفل الناشئ الذي لم يتعلم أو يتكلم، فهو يدرك أن الحادث لابد له من محدث، وأن الجزء دون الكل، وأنه يستحيل الجمع بين المتناقضين.
بعد بيان أهمية قضية الإلحاد في المقال الأول, وبعد ذكر خطورة هذه القضية ومدى تأثيرها على شبابنا وبناتنا, في عصر أصبح العالم بأسره قرية صغيرة, بل قل: جهازا صغيرا في جيب مسلم أو مسلمة, مع ما يحتويه هذا العالم من أفكار هدامة, ومذاهب فكرية وفلسفية كافرة, ومن بينها الفكر الإلحادي الذي بدأ يزداد وينتشر بين أبنائنا وبناتنا, وبعد بيان أسباب وطرق الوقاية من هذا الداء, وتوضيح الأساليب الفعالة لعدم الوقوع فيه من البداية, تطبيقا للمبدأ والمثل الشائع: درهم وقاية خير من قنطار علاج.
بعد بيان كل ذلك, واستكمالا وتتميما لعنوان المقال, كان لا بد من بيان وسائل العلاج من هذا المرض بعد وقوع الداء, فقد يغفل بعض المسلمين عن بعض أبنائهم وبناتهم في وقت الوقاية واللقاح,الذي لو تلقوه في وقته في الصغر, لكان مانعا لهم من احتمال الوقوع في مثل هذا المرض -بإذن الله- في الكبر, ونظرا لكون (لو) تفتح عمل الشيطان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكونها لا تنفع بعد وقوع المحذور وحصول المكروه, فإن الأهم معالجة المرض ومقاومته, بدلا من البكاء والنواح على نتائجه وآثاره.
وعلاج أي داء أو مرض –كما هو معلوم عند الأطباء– متوقف على مدى انتشاره في الجسد, فكلما كان انتشاره أقل كلما كانت إمكانية الشفاء منه أفضل وأنجع, فالمرض قد يكون واحدا, ولكن درجات شدته وانتشاره في الجسد تختلف من شخص لآخر, ولذلك تتوجه النصيحة دائما للآباء والمربين في الإسلام, لملاحظة درجة انخفاض تدين المسلم وتلوثه بأي لوثة فكرية أو نفسية إلحادية, وذلك من أجل المسارعة إلى علاجها قبل استفحالها, وقبل أن يستيقظ الوالد أو المربي على ولده أو ابنته أو تلميذه, وقد اجتاح الإلحاد عقله ونفسه, فيندم على التفريط في العلاج, في وقت كان يمكن فيه الشفاء.
وإذا كانت طرق معالجة الإلحاد كثيرة ومتشعبة, إلا أن عنوان المقال يجعلنا نتقيد بالمعالجة المتعلقة بالفطرة الإنسانية السليمة, تلك الفطرة التي هي في الأصل وقاية من الوقوع في الإلحاد, كما رأينا في المقال السابق, وهي بنفس الوقت علاج ودواء من هذا الداء الخطير, وذلك من خلال:
1- اتباع وسيلة القرآن الكريم الحوارية مع الفطرة الإنسانية، تلك الوسيلة التي خاطب الله بها الكافرين والمنكرين لوجوده سبحانه و تعالى, كما خاطب بها أولئك الذين يجعلون مع الله إلها آخر, من المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم, فيذكرهم بفطرتهم التي لا بد أن يلجؤوا إليها ويعودوا لظلها في أوقات الشدة والكرب والمصيبة, من دون آلهتهم التي يعبدونها من دون الله, كوسيلة لمعالجتهم من شركهم وكفرهم بالله تعالى وبوجوده ووحدانيته.
قال تعالى : {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يونس/22
قال ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي: هلكوا {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: لا يدعون معه صنما ولا وثنا، بل يفردونه بالدعاء والابتهال، كما قال تعالى في آية الإسراء: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا} (67)، وقال هاهنا: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ} أي: هذه الحال {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي: لا نشرك بك أحدا، ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء هاهنا. (1)
وقال القرطبي: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ فِي الشَّدَائِدِ، وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ يُجَابُ دُعَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، لِانْقِطَاعِ الْأَسْبَابِ وَرُجُوعِهِ إِلَى الْوَاحِدِ رَبِّ الْأَرْبَابِ , فَقد أَجَابَهُمْ الله تعالى عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ وَوُقُوعِ إِخْلَاصِهِمْ ، مَعَ عِلْمِهِ سبحانه أَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ . (2)
فهذه الآيات وأمثالها في القرآن الكريم كثير, يمكن أن تكون علاجا للمسلم الذي وقع في براثن الإلحاد , فإذا كان الله تعالى قد خاطب بهذه الآيات من كان على شركه وكفره الأصلي , فيمكن من باب أولى التوجه بهذه الآيات إلى المسلمين المتأثرين ببعض شبهات الإلحاد وأوهامه , وتذكيرهم بافتقارهم إلى الله تعالى في كل وقت وحين , وخاصة في وقت الشدة والكرب والمحن .
2- اتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في معالجة المشركين, ممن كان يشرك مع الله إلها آخر, وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم, ما يثبت اتباعه لأسلوب الرجوع إلى فطرة الإنسان المودعة في تكوينه, لاستنهاضها من أوحال الشرك التي طمست معانيها وأخفت معالمها.
ومن ذلك حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي : يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ اليَوْمَ إِلَهًا ؟؟ قَالَ أَبِي : سَبْعَةً سِتَّةً فِي الأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ. قَالَ : فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ ؟؟ قَالَ : الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ : يَا حُصَيْنُ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ . قَالَ : فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِيَ الكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي ، فَقَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي ، وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي.
قال الترمذي هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوَجْهِ.(3)
إن أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة ظاهرة الشرك والكفر التي كانت منتشرة في عهده, والذي اعتمد في معالجته على الحوار المستند على الفطرة السليمة المخلوقة في الإنسان, تؤكد أهمية ودور هذه الفطرة في معالجة الإلحاد وإنكار الإله المنتشرة في زماننا هذا, وذلك من خلال استحضار المواقف الصعبة والحرجة التي لا تخلو منها حياة أي إنسان, والتذكير بما يجول وقتها داخل غمار نفسه وقلبه, وتذكيره بنداء الفطرة الذي يدعوه ساعتها, باللجوء إلى جهو واحدة ومصدر واحد, هو الله سبانه وتعالى.
3- اللجوء إلى العقل الذي لا يمكن أن يخالف الفطرة: فالعقل والفطرة في توافق تام, فلا العقل يخالف الفطرة, ولا الفطرة تنافي العقل, ولذلك كانت دعوة القرآن الكريم للإنسان باستخدام العقل الفطري للوصول إلى التوحيد والإيمان بالله تعالى, مع بيان أن كل من خالف التوحيد والإيمان بوجود الله تعالى, فقد خالف العقل الفطري الذي وهبه الله لهذا الإنسان.
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم/30
فمخالفتهم لفطرة الله عز وجل إنما كانت من جهلهم بربهم, وعدم استخدامهم لعقولهم التي توصل إلى الإيمان بوجوده لا محالة.
وقال تعالى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} الحج/71 , فبين عز وجل أن عبادتهم لما عبدوا كانت بغير هدى من الله ولا علم وإنما هو جهلهم وعبثهم.
وفي القرآن حوار للكفار والمشركين رائع, يصلح نموذجا لحوار من تلوث بشيء من الكفر والإلحاد في هذه الأيام, قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُ مْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الأعراف/191/193 .
إنه العقل المتضمن لبدهيات العلوم والمعارف كافة, كاستحالة اجتماع النقيضين, وبطلان التسلسل والدور وغيرها, والتي من خلالها تمكن الإنسان من الوصول إلى ما نراه اليوم من تقدم وتكنولوجيا.
إنها الفطرة الإنسانية التي نطق بها ذلك الأعرابي البسيط عندما سئل: بم عرفت ربك ؟؟ فأجاب بقوله: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير, فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج أفلا تدل على السميع البصير.
لقد استخدم الصحابة الكرام هذا الأسلوب في إقناع أقرب الناس إليهم بوحدانية الله تعالى, وترك عبادة الأصنام والشرك بالله, وذلك من خلال إيقاظ الفطرة العقلية البدهية المودعة في نفس كل إنسان.
فقد ورد في قصة إسلام عمرو بن الجموح رضي الله عنه, أنه قد اصطنع صنما أقامه في داره وأسماه (منافا)، فاتفق ولده معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل على أن يجعلا من هذا الصنم سُخرية ولعب، فكانا يدلُجان عليه ليلا فيحملانه ويطرحانه في حفرة يطرح الناس فيها فضلاتهم، ويصبح عمرو بن الجموح رضي الله عنه فلا يجد (منافا) في مكانه؛ فيبحث عنه حتى يجده طريح تلك الحفرة؛ فيثور ويقول: ويلكم! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟؟ ثم يقوم بغسله وتطهيره وتطيبه، فإذا جاء الليل صنع الصديقان من جديد بالصنم مثل ما صنعا من قبل، حتى إذا سئم عمرو بن الجموح جاء بسيفه ووضعه في عنق (مناف) وقال له: (إن كان فيك خير فدافع عن نفسك)!
فلما أصبح لم يجده مكانه بل وجده بالحفرة نفسها، ولم يكن وحيدا بل كان مشدودا مع كلبٍ ميتٍ في حبلٍ وثيق, وبينما هو في غضبه وأسفه، اقترب منه بعض أشراف المدينة الذين سبقوا إلى الإسلام، وراحوا وهم يشيرون إلى الصنم يخاطبون عقل عمرو بن الجموح وفطرته، محدِّثينه عن الإله الحق الذي ليس كمثله شيء، وعن محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، وعن الإسلام الذي جاء بالنور,وفي لحظات ذهب عمرو بن الجموح فطهر ثوبه وبدنه، وتطيب وتألق، وذهب ليبايع خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم على الإسلام.(4)
إن الفطرة السوية التي نتكلم عنها كعلاج من الإلحاد, يمكن أن تقبل الإسلام وتهتدي إليه سبحانه وتعالى, وتترك الإلحاد الذي تلوثت به, بما أودع الله فيها وفي كل الخلائق من قوانين كلية، تظهر آثارها في الطفل الناشئ الذي لم يتعلم أو يتكلم، فهو يدرك أن الحادث لابد له من محدث، وأن الجزء دون الكل، وأنه يستحيل الجمع بين المتناقضين، وهذا من أوائل العقل وبواكيره، وقلوب بني آدم جميعا مفطورة على قبول الإسلام وإدراك الحق، ولولا هذا الاستعداد ما أفاد النظر ولا البرهان، شأنها في ذلك شأن الأبدان، فطرها الله تعالى قابلة للانتفاع والاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا هذا الاستعداد لما حصل انتفاع بذلك الطعام والشراب.
فهل أدركنا قيمة هذه الفطرة الإلهية ؟؟!! وهل وعينا عظيم قدرتها على الوقاية من آفة الإلحاد وعلاجه ؟؟!!
============================== =================
الفهارس
(1) تفسير القرآن العظيم ابن كثير 4/259
(2) الجامع لأحكام القرآن 8/325 و 13/223
(3) سنن الترمذي 5/397 برقم 3484
(4) أسد الغابة 1/842
|