حقيقةُ التوكلِ:
________________________
"اختلفت عبارات العلماء من السلف والخلف في حقيقة التوكل:
فحكى الإمام أبو جعفر الطبري، وغيره، عن طائفة من السلف، أنهم قالوا: لا يستحق اسم التوكل؛ إلَّا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى، من سبعٍ، أو عدوٍ، حتى يترك السعي في طلب الرزق، ثقة بضمان الله تعالى له رزقه، واحتجوا بما جاء في ذلك من الآثار.
وقالت طائفة: حده الثقة بالله تعالى، والايقان بأن قضاءه نافذ، واتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، في السعي فيما لا بد منه من المطعم، والمشرب، والتحرز من العدو، كما فعله الأنبياء -صلوات الله تعالى عليهم أجمعين-.
قال القاضي عياض: وهذا المذهب؛ هو اختيار الطبري، وعامة الفقهاء. والأول مذهب بعض المتصوفة، وأصحاب علم القلوب والإشارات، وذهب المحققون منهم إلى نحو مذهب الجمهور، ولكن لا يصح عندهم، اسم التوكل، مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله، وحكمته، والثقة بأنه لا يجلب نفعاً، ولا يدفع ضراً، والكل من الله تعالى وحده. هذا كلام القاضي عياض.
قال الإمام الأستاذ أبو القاسم القشيري -رحمه الله تعالى-: اعلم أن التوكل؛ محله القلب، وأما الحركة بالظاهر؛ فلا تنافي التوكل بالقلب، بعد ما تحقق العبد، أن الثقة من قبل الله تعالى، فان تعسر شئٌ؛ فبتقديره، وإن تيسر؛ فبتيسيره.
وقال سهل بن عبد الله التستري -رضي الله عنه-: التوكل: الاسترسال مع الله تعالى، على ما يريد.
وقال أبو عثمان الجبري: التوكل: الاكتفاء بالله تعالى، مع الاعتماد عليه.
وقيل التوكل: أن يستوي الإكثار والتقلل والله أعلم".
"المنهاج شرح مسلم بن الحجاج" (3/91-92) للنووي.