19-07-2013
مذهب إلحادي محارب لله تعالى ولكل الأديان , لا يؤمن إلا بالمحسوسات وما ينتج عن التجارب , ويجعلون الطبيعة تحل محل الإله , فهي التي تخلق وتقدر الأمور على حقيقتها , ويعتبرون ما جاء خارجا عنها ما هو إلا وهم أو خداع , سواء جاء عن طريق الغقل أو الأديان







منذ أن امتن الله تعالى على البشرية بدين الإسلام , الذي جعله الله تعالى ناسخا للرسالات السابقة والأديان , والذي أتمه وأكمله بقوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } المائدة/3 , ومنذ أن بدأ هذا الدين العظيم يخترق القلوب والعقول , لتوافقه مع الفطرة السليمة وانسجامه مع العقل البشري , مما جعل الناس يدخلون في دين الله أفواجا , وأعداء الإسلام يحاولون بشتى الوسائل والأفكار المنحرفة الضالة , تشويه عقيدة المسلمين الصحيحة , وإفساد دينهم الخاتم .

لقد كانت بدايات هذه المحاولات تلك التي تولى كبرها عبد الله بن سبأ المجوسي , الذي كان له دور كبير في إدخال العقائد الباطلة المنحرفة بين صفوف المسلمين , والتي كان من ثمارها المرة فيما بعد الشيعة الاثني عشرية (الرافضة) والتي يتجرع المسلمون اليوم نار حقدهم وعدائهم للإسلام والمسلمين .

ولم تتوقف هذه المحاولات عبر التاريخ , بل زادت وكثرت وتشعبت , حتى أصبح إحصاؤها والاحاطة بها من الصعوبة بمكان , وقد كتب المسلمون قديما وحديثا في هذه الفرق والمذاهب والأفكار , توضيحا لضلالها وبيانا لفساد أفكارها وعقائدها , والذي نحاول في هذه الزاوية دائما بيان ذلك وتوضيحه .

وتزداد أهمية معرفة المسلم لهذه المذاهب والأفكار الضالة المنحرفة في العصر الراهن , نظرا لافتتان الناس بالألفاظ الحديثة , التي تخفي في طياتها الضلال والكفر والغواية , خاصة بعد انحسار الحضارة الإسلامية وبروز المدنية الغربية , التي تكن العداء للإسلام والمسلمين , وتسعى لإفساد عقيدة المسلمين من خلال نقض دعائمه وأركانه , من خلال هذه المذاهب والأفكار الضالة الباطلة .

ولا مكان لاعتذار البعض أنه لا يحبذ قراءة أمثال هذه الأفكار , فمعرفة الشر باب لا بد منه لتلافيه , وذلك من باب قول الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : إن أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسألون عن الخير وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أدركه . (1)

ومن هذه المذاهب والأفكار الهدامة الحديثة , والتي تخفي سمومها في ثنايا ما يسمى الفلسفة , المذهب الوضعي , فما هو هذا المذهب ؟؟ ومن هم أبرز مؤسسيه ورموزه ؟؟ وما هي الأفكار الهدامة التي يحملها ؟؟ هذا ما سنحاول معرفته في هذا التقرير .

التعريف

المذهب الوضعي: مذهب إلحادي محارب لله تعالى ولكل الأديان , لا يؤمن إلا بالمحسوسات وما ينتج عن التجارب , ويجعلون الطبيعة تحل محل الإله , فهي التي تخلق وتقدر الأمور على حقيقتها , ويعتبرون ما جاء خارجا عنها ما هو إلا وهم أو خداع , سواء جاء عن طريق الغقل أو الأديان , وهو بمثابة تهيئة للماركسية فيما بعد. (2)

وفي تعريف آخر : المذهب الوضعي مذهب فلسفي ملحد , يرى أن المعرفة اليقينية هي معرفة الظواهر التي تقوم على الوقائع التجريبية، ولا سيما تلك التي يتيحها العلم التجريبي. وينطوي الذهب على إنكار وجود معرفة تتجاوز التجربة الحسية، ولاسيما فيما يتعلق بما وراء الماد وأسباب وجودها . (3)

المؤسس وأبرز الشخصيات:

رغم كون سان سيمون الفيلسوف الفرنسي الاشتراكي أستاذا لأوغست كونت , ومنه استقى الفلسفة الوضعية التي انتشرت فيما بعد , إلا أن معظم الباحثين يجعلون من كونت المؤسس للمذهب الوضعي , ولكن البداية التاريخية المنطقية لهذا المذهب تحتم البدء بسان سيمون أولا .

1- سان سيمون : مفكر فرنسي ولد عام 1760 وهو المؤسس النظري للمذهب الوضعي الذي يرى تطبيق المبادئ العلمية على جميع الظواهر الطبيعية والإنسانية ، وفهمها بعيداً عن الدين تماماً وقد ناصر سان سيمون الثورة الفرنسية , بل يعتبره البعض من أبرز محركيها , كما أستاذ أوجست كونت الذي تعرف عليه سنة 1817م , وجعله سكرتيراً له لمدة ست سنوات ، ومنه استقى أوجست كونت مبادئ تقويض الدين وتدميره ، وقد تأثر بأفكاره كارل ماركس .

يرى سيمون أن الإنسان هو الذي اخترع الله مدفوعاً بدوافع مادية! وبعد أن تم له ذلك الإختراع اعتقد في أهمية نفسه، ويذهب سان سيمون إلى أبعد من ذلك فيقول: إن الله في الحقيقة فكرة مادية، وهي نتيجة لدورة السائل العصبي في المخ.(4)

2- أوغست كونت 1798 - 1857م : وهو الفيلسوف الفرنسي المؤسس الفعلي للمذهب، عمل أميناً للسر(سكرتيراً) للفيلسوف الاشتراكي سان سيمون , وبدأ بإلقاء محاضرات عن فلسفته الوضعية سنة 1826م ، ثم أصيب بمرض عقلي وحاول الانتحار , وقد نشر كتابه بعد ذلك تحت عنوان : محاضرات في الفلسفة الوضعية بسط فيه نظريته في المعرفة والعلوم .

نادى بضرورة قيام دين جديد هو الدين الوضعي , يقوم على أساس عبادة الإنسانية كفكرة تحل محل الله - سبحانه وتعالى - في الأديان السماوية .

3- ريتشاد كونجريف: وهو مفكر إنكليزي ناصر الوضعية واعتنق أفكارها .

4- زكي نجيب محمود: مفكر عربي مصري ولد عام 1905 وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن عام 1944- 1947 م , عمل في التدريس الجامعي للفلسفة في الولايات المتحدة الأمريكية , وفي جامعة الكويت , و مستشارا ثقافيا للسفارة المصرية في واشنطن , وأستاذا زائرا في الجامعة العربية , ومحرر مجلة الثقافة1949- 1952 , ومجلة الفكر المعاصر1965 – 1968 .

يعد الدكتور زكي نجيب محمود أحد رواد الفلسفة الوضعية ، والمروّج الأول لها بين المسلمين ، وقد ألف لأجل هذا ثلاثة كتب هي (المنطق الوضعي) (خرافة الميتافيزيقا) (نحو فلسفة علمية) .

يقول عن نفسه وفكره : مذهبي الفلسفي هو فرع من فروع المذهب التجريبي ، يمكن تسميته بالوضعية المنطقية . (5).

ويقول: إنني في الفلسفة نصير الوضعية المنطقية التي ما فتئ أصحابها حتى اليوم يجاهدون في تبليغ دعواها ، وإن دعواها تتطلب جهاداً شاقاً طويلاً لتبقى في عقول الناس. (6).

أهم الأفكار والمعتقدات:

لقد شهد النصف الأول من القرن التاسع عشر اضطرابات اجتماعية وتقلبات فكرية منوعة ، فقد سقطت أنظمة وأوضاع دامت قروناً متوالية , وانهارت قواعد ومبادئ كانت تسد حاجات المجتمع وتلبي رغباته في مجالات كثيرة , ولم يعقب هدم الماضي الذي أوغل فيه عصر التنوير بناء جديد للحاضر والمستقبل , وظهر لكثير من المفكرين حقيقة أن الهدم قد يتم بوسائل وأفكار خاطئة تماماً , إلى درجة أنها لا تستطيع أن تبنى شيئاً جديداً .

وكان الإنجاز الوحيد الذي استقطب الأذهان وبهر الأنظار هو التقدم العلمي في مجالات البحوث الطبيعية , إلا أنه مهما بلغ من العظمة لم يكن ليغطي القبائح والأمراض التي يعاني منها المجتمع الأوروبي المتناقض , والتي سببها تدهور وانحطاط القيم الاجتماعية , بعد أن عجز الفلاسفة عن الإتيان ببديل لقيم الكنيسة الآخذة في الاضمحلال .

وتساءل كثير من زعماء الفكر والفلاسفة : أليس في إمكان العقل البشري بعد تحريره من نير الكنيسة البغيض , أن يحقق النجاح الذي ظفر به في مجالات الطبيعة , فيبتكر (دينا وضعيا يوازي العلم الوضعي) الذي استطاع أن يحل محل علم الكنيسة الميتافيزيقي ؟؟!!

وكان أبرز من أجاب على هذا السؤال عملياً هو الفيلسوف الفرنسي (أوجست كونت) رائد المدرسة الوضعية في الفكر والحياة , والذي يمثل التيار الأهوج الذي انبعث لمواجهة طغيان الكنيسة وحماقاتها من خلال :

1- ينطلق كونت في فلسفته الوضعية من زعمه أنه اكتشف القانون الأساسي للتقدم الإنساني وهو قانون تتابع المراحل الثلاث لتقدم العقل البشري من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الميتافيزيقية إلى المرحلة الوضعية , أي من مرحلة الخرافة إلى مرحلة الدين إلى مرحلة العلم الوضعي .

2- قسم كونت المرحلة اللاهوتية إلى ثلاث مراحل :

المرحلة الوثنية والمرحلة التعددية والمرحلة التوحيدية , وهي المرحلة الأخيرة التي بدأت بظهور النصرانية والإسلام , والمرحلة الوضعية بدأت بالثورة الفرنسية ، وهي المرحلة التي تفسر الظواهر عن طريق الاستقرار القائم على الملاحظة.

ويطبق كونت هذا القانون في التطور على جميع العلوم الإنسانية والاجتماعية مثل الحضارة والسياسة والفن والأخلاق .

3- يرى كونت إنه لكي نتجنب أخطاء المرحلة الثانية لنصل إلى علمية المرحلة الثالثة , فإنه على الفكر أن يتجرد من الغيبيات والأوهام , ويركز اهتمامه على فكرتي (الواقع والمنافع) لا غير , وهذا هو أساس الوضعية .

أما (الواقع) فشرط ضروري لقيام علماء الاجتماع مقام رجال الدين بقوله : (علينا الآن أن نعدل عمل رجال الدين معتمدين على الوقائع وحدها وعلى العقل وحده) .

والمنهج الذي يحقق ذلك في نظره هو (استخلاص العنصر الوضعي الإنساني الثابت من العناصر السلبية الهرمة التي تحتويها الأديان التقليدية والتي اتخذت من ذلك العنصر الوضعي مطية لها وبذلك يكتمل المذهب الوضعي ويتوجه على هذا النحو الدين الوضعي ) , والدين الوضعي يقوم على الانتقال من الواقع إلى المنافع .

4- يرى كونت أن تعاليم الأديان يمكن تلخيصها في معتقدين : الله والخلود . والدين الوضعي يعمد إلى اختيار المضمون الوضعي لهذين المعتقدين.

فالمضمون الوضعي لفكرة الألوهية هو (فكرة موجود كلي عظيم أزلي تتصل به نفوس العباد فيضفي عليها القدرة على قمع ميولهم الأنانية) , والمضمون الوضعي للخلود هو (فكرة مشاركة أهل الحق والعدل في جانب من الحياة الأزلية للموجود الإلهي) ومن هذين المضمونين يستخلص كونت فكرة واحدة شاملة هي (الإنسانية)

فالإنسانية هي الفكرة الوضعية المتطورة لفكرتي الله والخلود , اللتين كانت البشرية تدين بهما في المرحلة الثانية .

5- يعتقد كونت أن الإنسانية إذا فهمت على هذا النحو فإنها تكون هي نفسها الإله الذي ينشده الناس , أي الموجود الحق العظيم الأزلي , يتصلون به اتصالا مباشرا , ويستمدون منه الوجود والحركة والحياة .

أما الأسلوب العلمي الحديث فهو أن يعتنق الناس الدين الوضعي , ويعبدوا الإله (غير المشخص) الإنسانية , وعليهم أن يستمدوا مثلهم وأخلاقهم وقوانين تنظيمهم الاجتماعي من ذخيرته وحدها , وعن هذه الذخيرة من القوى الخلقية المتجمعة على مر الأجيال في الموجود تفيض إلى القلوب الأفكار العظيمة والمشاعر النبيلة. (7)

الانتشار ومواقع النفوذ

انتشرالمذهب الوضعي من فرنسا أولا ثم زحف إلي إنكلترا ، واعتنق بعض الفلاسفة مبادئ المذهب الوضعي , إلا أن بعض كبار المفكرين والفلاسفة رفضوا متابعة كونت في مفهوم دين الإنسانية الذي وضعه .

أُنشئت جمعيات وضعية في أجزاء مختلفة من العالم على غرار النموذج الذي أسسه كونت نفسه عام 1848م , وفي هذه الجمعيات كانت الإنسانية هي موضوع الشعائر الدينية ، واتخذ من علم الاجتماع سنداً لمثل هذه الديانة الاجتماعية ، وقويت هذه الحركة بصورة خاصة في أمريكا اللاتينية ، ولكنها ازدهرت لعدة سنوات في إنكلترا .

صدرت المجلة الوضعية التي أطلق عليها فيما بعد اسم الإنسانية من عام 1893م إلي عام 1925م , وقامت محاولات لإحياء الوضيعة في إنكلترا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ، من خلال أعمال الفلاسفة الإنجليز إير وراسل .

حكم الإسلام في المذهب الوضع؟

بداية لا بد من التأكيد على أنه من أهم الأسباب التي أدت لقيام المذهب الوضعي عدم قناعة واضعيه لتعاليم النصرانية المحرفة , والعناد الذي كان يبديه رجال الكنيسة حيال المعرفة والعلم , مما أدى لمعاداة كل ما هو ديني أو يمت إلى الله تعالى والوحي بصلة , وهو ما عرف بمعركة العلم مع الكنيسة في أوربا , ولا يخفى دور اليهود في كل حركة إلحادية ضالة كالمذهب الوضعي هذا . (8)

والواضح من أفكار المذهب الوضعي وعقائده أنه كفر صريح بالله تعالى وبالدين بشكل عام , فهو مذهب فلسفي ملحد ، يركز المعرفة اليقينية في الظواهر التجريبية ، وينكر وجود معرفة مطلقة ، ويقول إن التقدم بدأ في العلوم الطبيعية وبدأ ينتقل للعلوم الاجتماعية , وأن العقل البشري يتقدم من المرحلة اللاهوتية الدينية إلي المرحلة الميتافيزيقية , لكي يصل في النهاية إلي المرحلة الوضعية التي هي قمة التخلي عن كل العقائد الدينية .

فهل بعد كل هذا كفر بالله تعالى وبالدين أكثر ؟؟!!

ــــــــــــ

الفهارس

(1) جامع الأحاديث للسيوطي 34/266 , وتاريخ دمشق لابن عساكر 16/435

(2) المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها / د . غالب عواجي 993

(3) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة 2/58

(4) المسلم بين الهوية الإسلامية والجاهلية علي بن نايف الشحود 2/32

(5) المنطق الوضعي ، د . زكي نجيب محمود المقدمة .

(6) مجلة الكتاب، ج3، 1952، ص197

(7) العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الاسلامية المعاصرة 1/316- 318 وانظر العلم والدين 42 , 50 – 59

(8) المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها / د . غالب عواجي 997