23-06-2013 | د. البشير عصام المراكشي
هل النقاش هنا منصب على العلاقة بين النصارى واليهود، من حيث هما طائفتان دينيتان؛ أم على الأصح بين التشكيل الحضاري الغربي من جهة، وبين اليهود من حيث هم شعبٌ ثم دولة؟

النصارى واليهود: عداء فمودة!

يقول الأخ السائل :

ما تفسير كيف تحولت علاقة الغرب من بغض اليهود وازدرائهم إلى حبهم والدفاع عنهم وتمكينهم إلخ ، حتى أن بابا الكنيسة الأسبق برأهم من دم المسيح ..إلخ ، إذن يدور حول تفسير السر في كيف حدث هذا الأمر العجيب مع معرفتنا بالعداء التاريخي بين النصارى واليهود.


الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد
فإن من المعلوم أن بين طائفتي اليهود والنصارى عداء عقديا راسخا، دلت عليه نصوص القرآن الكريم، وبرز جليا في الكثير من وقائع التاريخ.
فأما دلالة النصوص، فقد قال سبحانه وتعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ). فهذا – بقطع النظر عما يذكر في سبب النزول - وصف لحقيقة معتقد كل من الطائفتين في الطائفة الأخرى، وأنه ليس بينهما أدنى اعتراف أو تسامح.
وأخبر القرآن أيضا بعداوة اليهود لعيسى ولأمه مريم عليهما السلام، فقال سبحانه: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُم). وقد حفظ النصارى لليهود هذا البهتان بحق مريم عليها السلام، ودعوى قتل المسيح عليه السلام، فأوقعوا عليهم أصنافا من الاضطهاد والتعذيب.
وأما دلالة وقائع التاريخ، فقد كان بين الطائفتين عداء مستحكم، دام قرونا عديدة. فكان اليهود – مستقوين في ذلك بالروم - يكيدون للنصارى، ويساعدون على اضطهادهم. ثم انقلب الحال لما صارت الغلبة للنصارى بعد أن تنصرت الامبراطورية الرومانية. ومارس النصارى على اليهود أصنافا من الإذلال والتعذيب، بلغت أوجها في محاكم التفتيش بالأندلس وغيرها.
لكن الأمر انعكس تماما في الغرب خلال العقود الأخيرة، وصارت الطائفتان مجتمعتين على قلب رجل واحد، وظهر مصطلح (الحضارة اليهو-المسيحية = Civilisation Judéo-Chrétienne)، تعبيرا عن التلاحم بين الدينين في أصل هوية الحضارة الغربية الحديثة!
فما سبب هذا الانقلاب الفكري الشامل؟

عقبات في طريق الإجابة عن السؤال المطروح
يثير السؤال المطروح مجموعة من الإشكالات المنهجية، لا بد من الإشارة إلى أهمها على سبيل الاختصار.
أولها: هل النقاش هنا منصب على العلاقة بين النصارى واليهود، من حيث هما طائفتان دينيتان؛ أم على الأصح بين التشكيل الحضاري الغربي من جهة، وبين اليهود من حيث هم شعبٌ ثم دولة؟
لا شك أن اعتماد المعنى الأول تسطيح خطير لقضية في غاية التركيب. كما أن إلغاء البعد الديني عند اعتماد المعنى الثاني، يستر تأثير العقيدة النصرانية في التشكيل الحضاري الغربي المعاصر، والعلاقة مع اليهودية من حيث هي دين.
والإشكال الثاني: هل يناصر الغربُ اليهود مطلقا، أم يساند – على الخصوص – الفكر الصهيوني الذي هو –في حقيقته - نتاج غربي، يلتقي في منطلقاته ونتائجه، مع التوجه الفلسفي العام في الغرب؟
والإشكال الثالث: ليس الغرب على منهج واحد في الفلسفة الحاكمة، ولا في التطور التاريخي. فبعض دول أوروبا ذات تاريخ كاثوليكي تقليدي راسخ، وبعضها شهدت قرونا من الإصلاح الديني، المنابذ للكثلكة. كما أن معدلات الإلحاد واللادينية في بعض دول الغرب، أعظم منها في دول أخرى أكثر تدينا. والوجود التاريخي لليهود لم يكن متساويا في مناطق أوروبا كلها. ولذلك، فعلى الرغم من لازمة مساندة الدولة الصهيونية في هذا العصر، فإن الأسباب قد تكون مختلفة جدا تبعا للاختلاف في هذه العوامل الفلسفية والتاريخية المذكورة آنفا.

لهذه الإشكالات المنهجية وغيرها، فإنه لا يمكن ضبط الجواب إلا بتحرير طويل، يراعي الاختلافات عند تفسير هذه الظاهرة. وهذا لا يلائم هذا الجواب المختصر.
ولذلك فسوف أكتفي بذكر عوامل متنوعة، بعضها أكثر تفسيرا للظاهرة الكلية من بعضها الآخر. وبعضها يصلح للتفسير بشكل جزئي، أو في منطقة معينة دون بعضها الآخر.
وسأذكر ضمن ذلك ما يفيد القارئ في التمييز بين التنزيلات على الأحوال المختلفة.

العامل اللاهوتي
عرفت أوروبا لقرون طويلة سيطرة دينية كاملة للكنيسة الغربية التي مقرها مدينة روما. واشتهرت هذه الكنيسة بالفساد الإداري والمالي، والانحلال الأخلاقي، ورعاية الظلم والاستبداد، وتشجيع الخرافة والشعوذة.
وكان لا بد أن ينفجر في وجهها تيار جارف من الإصلاح الديني، الذي ثار على جميع مفاسد الكنيسة وانحرافاتها، واقترح أصولا لاهوتية جديدة، ومناهج مستحدثة في التعامل مع ''الكتاب المقدس''.
والذي يهمنا من هذا التجديد الديني ما يلي:
• ألغت البروتستانتية احتكار الكنيسة لتفسير ''الكتاب المقدس''، وأباحت لعموم الشعب قراءته وتفسيره.
• اعتمدت البروتستانية شِقَّي ''الكتاب المقدس'': العهد القديم والعهد الجديد، بعد أن كان العهد القديم حبيس الأديرة، لا يُسمح بالاطلاع عليه إلا لقلة من الناس.
• أصبحت العبرية لذلك لغة معتمدة في مناهج التعليم الديني عند النصارى البروتستانت. ولما كانت اللغة وعاء الثقافة والحضارة، فإن ذلك ساهم في انتشار الثقافة اليهودية في المجتمعات الأوروبية، وفي آدابها وفنونها.
• انتشار ''الكتاب المقدس'' بين عموم الناس، اقتضى من البروتستانتيين اعتماد التفسيرات الظاهرية للنبوءات الواردة في العهد القديم، في مقابل التفسيرات المجازية التي كانت سائدة في الكنيسة الكاثوليكية. ومن أهم هذه النبوءات تلك المتعلقة بحتمية عودة اليهود إلى فلسطين، وتجمعهم فيها، وارتباط ذلك بعودة المسيح عليه السلام.

وتبعا لهذه التطورات، فقد صارت الكنائس البروتستانتية حليفا طبيعيا لليهود، ثم لمشروعهم الصهيوني الاستيطاني في فلسطين.
وبلغ هذا الحلف ذروته عند الكنائس الجديدة، خاصة ما يعرف بالأصولية الإنجيلية في أمريكا، وهي المذهب الرسمي لكثير من رجال السياسة والحكم والإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية.
وهؤلاء ''الصهيونيون المسيحيون'' يعتقدون أن هناك ثلاث إشارات تسبق عودة المسيح عليه السلام. أولها: قيام دولة لليهود على أرض فلسطين، والثانية: احتلال مدينة القدس، والثالثة: إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى. وبعد ذلك يعتقدون أن المعركة العظمى (هرمجدون) ستقع، ثم يظهر المسيح عليه السلام!
ومن هنا يظهر أحد أهم أسباب التزام السياسة الأمريكية والبريطانية بحماية أمن دولة إسرائيل، على الرغم من كل المتغيرات السياسية الكبرى.

العامل الفلسفي
لقد رافق التطورات الدينية في أوروبا، تطورات فلسفية عظمى، تحرر فيها العقل الأوروبي من سيطرة اللاهوت الكنسي، وانطلق في فضاءات إلحادية تركز على فردية الإنسان وحريته، ومبادئ المساواة أمام القانون.
وتحولت أوروبا تبعا لذلك إلى فسيفساء من الدول القومية، التي يتلاحم أهلها بمقتضى عقد اجتماعي بين الفرد والدولة المدنية، يتبنى الفكر الديمقراطي في التسيير السياسي، ويتعزز فيه مفهوم المواطنة، التي تختفي معها فروق الدين، ولو نظريا.
ولا شك أن أعظم مستفيد من إلغاء دور الدين في تأطير الأفراد والمجتمعات، هم الأقليات الدينية، وعلى رأسهم اليهود. وأعظم خاسر هو: الكنيسة الكاثوليكية التي كانت إلى عهد قريب تهيمن على الفكر والسياسة والحضارة الغربية كلها، فإذا بها تصبح على هامش ذلك كله، تصارع من أجل البقاء، ولو بتقديم أكبر التنازلات.
ولذلك فإن قضية تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام، لا تخرج عن إطار عام تريد فيه الكنيسة أن تظهر حسن نيتها تجاه الفلسفة الإنسانية العلمانية السائدة اليوم في أوروبا، بل في العالم بأسره. فهو تنازل لاهوتي تلتحق به الكنيسة بعصرها، الذي لا مكان فيه للصراعات الدينية.

العامل التاريخي
لقد تطور الوجود اليهودي في أوروبا خلال القرون الأخيرة، من جماعة وظيفية تقوم بأدوار قذرة بين أنظمة الحكم القائمة، وعموم الشعوب المقهورة؛ إلى شعب متحرر معنويا، متسلط ماديا، يعيش داخل أوروبا، ويحرص مع ذلك على عدم الاندماج التام في المكونات العرقية للشعوب المحيطة به.
وصار هذا الشعب يشكل لأكثر السياسيين الأوروبيين في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، تحديا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا هائلا، اصطلح على تسميته بـ(المسألة اليهودية)، وتطلب جهودا كبيرة في إيجاد حل له.
ونظرا لصعوبة اندماج اليهود في شعوب الاستقبال الأصلية، فقد كادت كلمة الأوروبيين تتفق على أن الحل للمسألة اليهودية، هو توطين اليهود في فلسطين، التي كانت آنذاك تحت الانتداب البريطاني.
وإذا كانت العقيدة الصهيونية قد قامت للدعوة لهذه الفكرة، فإن ذلك لا يمنع أن غير الصهاينة أيضا، لم يكونوا يمانعون فيها، بل كانوا يسعون إلى تحقيقها:
وهكذا كان الأصوليون البروتستانت يشجعون على توطين اليهود في فلسطين، لاعتبارات لاهوتية سبق بيانها. وكان النازيون لا يمانعون في ذلك أيضا، بل سعوا إلى حصوله، قبل أن يتبين لهم تفضيل حل النقل إلى معسكرات الترحيل.
ولا ننسى أن الأوروبيين عموما كانوا موافقين على هذا الحل، وما وعدُ بلفور إلا أحد تجليات هذا الاتفاق السياسي العام على حل المسألة اليهودية!
ولذلك، فلنا أن نقول بكامل الثقة: إن إقامة دولة إسرائيل مشروع غربي (أوروبي/أمريكي) لحل مشكلة عاجلة عندهم، هي مشكل الوجود اليهودي في أوروبا خصوصا.
فهل يستغرب بعد ذلك من مناصرة الغربيين لصنيعتهم، ووقوفهم غير المشروط إلى جانبها، في كل قضاياها الظالمة؟

العامل الاقتصادي والإعلامي
لقد أثمر العامل التاريخي تركيز اليهود على عالم الاقتصاد، فوُجدت في أوروبا ثم في أمريكا عائلات يهودية فاحشة الثراء، لها سيطرة أخطبوطية على دواليب الاقتصاد الغربي.
ثم لما صار الإعلام سلطةً رابعة، اتجه اليهود – بقوتهم المالية الهائلة – إلى السيطرة عليه، فصار الأخطبوط اليهودي متحكما في أكبر المنابر الإعلامية الغربية، خاصة في أمريكا. ثم انتقل الأمر إلى سيطرة كبيرة على السينما وبرامج التلفاز.
وإذا علم ما لذلك من تأثير كاسح في تشكيل الرأي العام في البلدان الغربية، ظهر لك أن صناع القرار السياسي لا يمكنهم – على فرض رغبتهم في ذلك – أن يسبحوا عكس التيار، ويخالفوا عمدا ما يكرره الإعلام اليهودي على مسامع الناس ليل نهار.

العامل الفكري السياسي المعاصر
لقد كانت الحرب العالمية الثانية كارثة عسكرية وإنسانية ضخمة، تركت أثرا واضحا على الفكر الباطن المتحكم في شعوب الغرب عموما. ومن أعظم ما بقي أثره لعقود طويلة، ما يسمى الهولوكوست أو (الشواه = Shoah)، ويراد به ما وقع على اليهود خصوصا من التنكيل والإبادة في معتقلات النازية، بألمانيا والدول التي وقعت تحت احتلالها خلال الحرب.
وقد أثمر هذا ما يمكن أن يسمى: عقدة الذنب أمام اليهود، لأن الغربيين إما ساهموا بشكل مباشر في كارثة الهولوكست – كما وقع من الفرنسيين مثلا تحت حكومة فيشي-، وإما سمحوا بوقوعها حين لم يقفوا إلى جانب اليهود المضطهدين أو أغلقوا الحدود أمام الهاربين منهم – كما صنع الأمريكيون خلال الثلاثينيات.
بل يمكن أن يقال إن الغربيين شعروا بأن النازية في ما قامت به ضد اليهود، كانت تحقق على أرض الواقع أفكارا وفلسفات غربية، تؤصل للعنف والإبادة وبقاء الأصلح، كالداروينية والنيتشوية. فكانت عقدة الذنب لذلك أعظم وأثقل.
وقد حرص الإعلام الصهيوني على تنمية عقدة الذنب هذه، وتقويتها في العقل الجمعي الغربي.
ولا سبيل إلى تخفيف أثر هذه العقدة إلا بتقديم فروض الولاء لدولة إسرائيل، التي تحمل – بحق أو بباطل - راية الدفاع عن اليهود ومصالحهم التاريخية.
وتتضخم العقدة أكثر عند الكنيسة الكاثوليكية التي وقفت بعضُ قياداتها خلال الحرب مع الحكم النازي، أو داهنته على الأقل رعايةً لمصالحها؛ أو اتهمت بتسهيل هرب القادة النازيين بعد الحرب إلى أمريكا الجنوبية وغيرها.
ولذلك وجدت هذه الكنيسة نفسها بعد الحرب مضطرة إلى النأي بنفسها عن كل اتهام بمعاداة السامية (والمراد بهذا المصطلح في الغرب: معاداة اليهود خصوصا). ولا يستبعد أن يكون ما صدر عن البابا من تبرئة اليهود من دم المسيح، نوعا من إظهار حسن النية، والتكفير عن الذنب في هذا الباب.

فهذا ما تيسر ذكره من العوامل المختلفة التي تفسر بها ظاهرة مناصرة النصارى والغربيين عموما، لليهود ودولتهم الهجينة المسماة بـ(إسرائيل). وجميع ما ذكر يحتمل بسطا كثيرا، وشرحا لكثير من التفصيلات، لا يحتملها هذا المقام.
والله أعلم.