بسم الله الرحمن الرحيم



لم أجد مشكلة وأنا أشاهد حلقة (ولا تفرقوا) من برنامج خواطر في تقبل قضية التعايش من حيث المبدأ, فهو مبدأ معروف له إطار إسلامي ضمن مقاصد حكيمة ومجموعة قواعد وأحكام تنظمه, فليس هناك حساسية من هذا الموضوع أبدا إذا لم يخرج عن إطاره الصحيح, بل هو شامة في جبين التاريخ الإسلامي طبقه المسلمون وجسدوه في صورة مشرقة في غاية الجاذبية.

ولكن استوقفتني محاولات الحلقة وضع هذا المبدأ في إطار آخر غير الإطار الذي نعرفه من تعاليم ديننا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, إطار يخلّ بنظام الدولة الإسلامي وعلاقته بمقاصد الرسالة, و يخلّ بموقف المسلم من الأديان الأخرى وأتباعها, ويتبين ذلك من القراءة الشاملة لنصوص الوحي والدراسة غير المجتزأة لسيرة النبي على صاحبها أفضل الصلاة والسلام, وسأحاول تسليط الضوء على شيء من ذلك في هذا المقال.

التعايش ونظام الدولة وموقع الإسلام فيه

فمن جهة نظام الدولة وموقع الإسلام فيه, يقول تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } فغاية إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم هي الدعوة للحق وهداية الخلق وظهور دينه على كل دين, وهيمنة كتابه على كل كتاب, والحكم بين الناس بما أنزل الله, كما قال تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله } الآية, وأمر الله بالقتال حتى يتحقّق نظام سياسي يكون به انتفاء الفتنة ويكون الدين كلّه لله, كما قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله }. ومن خلال هذه الآيات وغيرها نعلم يقيناً أنّ الإسلام ليس مجرد مكوّن من مكونات النظام السياسي بل هو المهيمن عليه الحاكم له الظاهر فيه على غيره, وهو نظام يحمل هم دعوة الإسلام ونشرها والدفاع عنها ونفي كل ما يفتن الناس عنها, وعلى ذلك أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولته, مع وجود أهل أديان أخرى تعايشوا ضمن هذا النظام.

إنّ الإشكال الكبير إذاً ليس في وجود التعايش في ظل هذه الهيمنة والظهور والحكم بما أنزل الله, ولكنّ الإشكال أن يتم تحويل الإسلام باسم التعايش إلى مجرد جزء من مجموعة العقائد الشخصية التي تعتنقها فئات في المجتمع, فيكون مكوناً ثقافياً اجتماعياً فحسب وليس حاكماً سياسياً, وقد أشارت الحلقة لذلك في دعوتها لتقديم الوطن كجامع مشترك والتركيز على المشتركات الإنسانية بين الجميع وتناسي ما سوى ذلك, وكان النموذج المطلوب اقتفاؤه في الحلقة هو النموذج الغربي العلماني (الذي يلغي هيمنة الدين على الحياة) الليبرالي (الذي لا تتقيد فيه الحرية بالدين).

لقد نتج النموذج الغربي العلماني عن تاريخ طويل من الصراع مع الكنيسة واضهادها وتحريفها للدين, فتم تقدم هذا النموذج للمشاهد المسلم الذي لم يعرف تاريخه هذا الاضطهاد – كما أشارت الحلقة نفسها - , ولا يكاد يوجد في حاضره أيضا, بل كثيراً ما يكون هو الضحية لأقليات متوحشة لم تعترف بجميل التاريخ, فمن الظلم وضع الأمة مكان الجلاد والجلاد مكان الضحية، فالأمة اليوم مضهدة يتلاعب في مقدراتها ويقتطع من بلادها ويسفك في دمائها, والأقليات فيها كثيرا ما تتآمر أو حتى تبطش بالأكثريات, وهذا الظلم هو أكبر مهدد للتعايش. إن محاولات عكس هذه الصورة في الضخ الإعلامي تؤدي إلى سوق الجماهير لنقمة ظالمة على الدين وأهله, وذلك تحت وهم المقارنة وإغراء التطور, الذي تُزيّف له عوامل وهمية تشتت عن عوامله الحقيقية التي تحتاجها الأمة, وتدخلها في معارك وهمية. ولسان حال المسلمين:

ملكنا فكان العدل منا سجية ::: فلما ملكتم سال بالدم ابطح
وحللتم قتل الاسارى و طالما ::: غدونا على الاسرى نمن ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا ::: فكل إناء بالذي فيه ينضح

لقد عرف تاريخنا المعاصر محاولات مكثفة متواصلة لتسويغ وترسيخ المقارنة بين واقع المسلمين وبين تاريخ الحكم الكنسي لأوروبا - والذي كان معاكسا في كثير من جوانبه المظلمة لما أشرق في جنبات التاريخ الإسلامي - وهي محاولات تركز على محاكاة التحول الأوروبي للعلمانية وإقصاء الدين, وذلك تحت إغراء القفزة الحضارية الدنيوية التي شهدها الغرب بعد ذلك التحول, مع أن السياق التاريخي مختلف تماماً, فالعلم كان يشع تحت الحكم الإسلامي حين كانت أوروبا الكنيسة تقتل العلماء, وحين حرّف الدين عندهم ليتعارض مع العلم لم يتعارض الإسلام أبدا مع حقائق العلم, بل كان ولا يزال يحمل وجوهاً من الإعجاز العلمي في إشارات نصوصه الكثيرة لحقائق ومكتشفات العلم. ولا مجال للمقارنة أيضا في جانب فرض الكنيسة رأيها بالعنف، فالإسلام منهج كامل ووحي محفوظ لا مجال فيه لفرض رأي بشري لا يمكن مسائلته ، بل كل اجتهاد بشري هو خاضع للوحي يحاكم إليه ويبطل بمخالفته, ولذلك لايؤدي تطبيقه لظلم وظلامية وإقصاء الكنيسة الذي قتل الحضارة وحاصر العلم.

نعم, لقد كان البعد عن التحريف الديني والاضطهاد الكنسي شرطاً لتطوّر الغرب لوجود التحريف والاضطهاد, ولكنّ كمال التطور وبقية المعادلة المفقود كان سيتحقق بدخول الغرب في الدين الحق الذي يجعل حضارة الدنيا طريقا لعمارة الآخرة, ويضع أسس تلك الحضارة ويكملها ويجملها بالأحكام والقواعد التي تضمن عدم تنافرها مع القيم والأخلاق, من عدل ورحمة وإحسان للخلق, لذا لن يكون تطوّر المسلمين في الهرب من هذا الكمال والجمال وتحييده بعيداً عن الهيمنة على السياسة والحياة العامة, بل تطورهم بتبنيه بقوة والسير في نوره نحو كل ما يعلي شأنهم في دنياهم.

فمن مشاكل الحلقة إذا أنها لاتقدم الإسلام كإطار حاكم للتعايش ، بل كمفردة وجزء ينساق في أطار الوطن والمشتركات الإنسانية كغيره من المفردات والإجزاء دون هيمنة وحاكمية, وهذا المشكلة تتعلّق بنظام الدولة الإسلامية, وهناك مشكلة أخرى في علاقة المسلم بالأديان الأخرى وأتباعها.

التعايش وموقف المسلم من الأديان الأخرى وأتباعها

على الرغم من وجود التعايش تحت ظل النظام الإسلامي, إلا أن حال العالم لا يخرج عن سنة وقوع التدافع بينهم كما قال تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }, وكلنا نعلم أن النموذج الأكمل للتسامح والرحمة والعدل كان يتمثل في النبي صلى الله عليه وسلم, وقد كان أعداؤه الساعين لقتله أدرى الناس بصدقه وأمانته وعدله, ولن يكون أتباعه خارجين عن سنة التدافع سالمين مما لم يسلم منه صلى الله عليه وسلم, ولن تنهي نظريات التعايش - مهما بالغت - الكفر والنفاق من العالم ولا العداوة بينه وبين الحق وأهله.

ومن جهة المؤمنين, فلا يمكن أن يكون معنى التعايش بالنسبة لهم أن يخرجوا عن مراد خالقهم وبغضه للكافرين, فالله سبحانه لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا, وأمر عباده بالبراءة منهم وعدواتهم, ونهاهم عن الاستغفار لهم وعن مودتهم وموالاتهم ومناصرتهم, والنصوص كثيرة جدا ومنها ما جاء في الحلقة { لكم دينكم ولي دين }، وهي آية براءة ومفاصلة سبقها في بداية السورة أمره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون }, وهي كقوله تعالى { فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون }.

كما وضع تبارك وتعالى لنا القدوة في إبراهيم عليه السلام فقال: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير }, وجاء بعد ذلك ما يتعلق بالتعايش في انسجام تام لا تعارض فيه, في قوله تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }, ففرقت هذه الآيات وغيرها بين المحبة والموالاة وهي غير أساسية في التعايش, وبين البر والقسط التي لا تتعارض مع البغض والعداوة في الله.

لقد صورت الحلقة بعض الأحكام الشرعية بطريقة تنقلها لسياق آخر يخدم تصوّرا مبالغاً فيه للتعايش، فقد وضعت مشهد إقرار وجود الكنائس والصلبان مقابل تحسّس البعض من الصليب، وكأن من عناصر التعايش المطلوبة تقبل رموز الشرك وعدم التحسّس منها – مع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في البخاري كان لا يترك في بيته شيئا فيه صليب إلا نقضه - ، وربما حاولت الحلقة تعزيز ذلك من خلال مشهد المسجد الضخم والأذان في بريطانيا وأنهم سمحوا بذكر الله, وذلك كنموذج للتصور المنشود للتعايش.

لكن الحقيقة تتجلّى من خلال استعراض كامل الصورة لا أجزاء منها بطريقة تأخذ المشاهد لتصوّر محدّد مسبقا, فنجد من أحكام أهل الذمة التي وردت في القرآن والسنة وسنة الخلفاء الراشدين فرض الجزية والصغار بنص القرآن, وعدم اتخاذهم بطانة أو إيصالهم لمناصب فيها إعلاء لهم على المسلمين أو اطلاع لهم على خاصة شؤونهم, وعدم إظهار الصلبان والخمور في الأماكن العامة, وعدم إحداث كنائس جديدة, إلى غير ذلك.

فإذاً هناك قيود عليهم بسبب الدين تضمن علو الاسلام في دولته، كما أن هناك في نفس الوقت تعايش بعدل وقسط وحسن جوار وصلة اقارب ومصاحبة بالمعروف وبر وإحسان ورحمة وتأليف بهدف الدعوة, فالنماذج المشرقة للعدل والإحسان وحفظ الذمة جاءت في الوحي والسيرة منسجمة مع ظهور الدين وهيمنة حكم الله على مناحي الحياة، كما جاءت منسجمة مع تميز المسلم بدينه وبرائته من الشرك ورموزه وأهله.

التعايش والحضارة ؟

نلاحظ في بعض الطرح الفكري عن الحضارة التركيز على الجوانب الدنيوية وتهميش جانب الحق والباطل وميزان الآخرة, وهذا التركيز برز في الدعوة للمشتركات، والتي ركزت الحلقة فيها على العدل والخدمات والحياة الكريمة ، ولم تبرز دور الشريعة في تحقيق هذه المعاني العامة ، بل أبرزت النموذج الغربي الذي همش دور الدين وعزله عن التأثير في الحياة العامة, في حين أنّ النظام الاسلامي يقيم حضارة الدنيا ويوصل للنجاة في الاخرة ، فهو يجمع ويوازن الجانبين, وليس نظاماً يحقق خدمات وحياة دنيوية كريمة فقط.

وإذا كان الإسلام كما يتكرر في بعض الطروحات الشبيهة قد جاء لتحقيق هذه المعاني العامة وبالتالي يعتبرون التركيز عليها من روح الإسلام فالإسلام خط منهجا وفصل احكاما لتحقيق ذلك ، ولا يمكن الزعم بأننا نسير في هديه ونحن نكتفي بالمعاني العامة المشتركة ونهمل الطريق الذي وضعه لبلوغها, وأتمنى من القارئ هنا أن يراجع مقالا سابقاً يعالج هذا الطرح بعنوان (الاهتمام بروح الإسلام ومبادئه الكبرى عوضاً عن التفاصيل – مآلات الطرح واستحالة اطراد التطبيق ), ورابطه:

ط§ظ„ط§ظ‡ط?ظ…ط§ ظ… ط¨ط±ظˆط* ط§ظ„ط¥ط³ظ„ط§ظ ظˆظ…ط¨ط§ط¯ط¦ظ‡ ط§ظ„ظƒط¨ط±ظ‰ ط¹ظˆط¶ط§ظ‹ ط¹ظ† ط§ظ„ط?ظپط§طµظ?ظ – ظ…ط¢ظ„ط§ط? ط§ظ„ط·ط±ط* ظˆط§ط³ط?ط*ط§ظ„ط © ط§ط·ط±ط§ط¯ ط§ظ„ط?ط·ط¨ظ?ظ‚ #ط§ظ„ط´ط±ظ?ط¹ط© - TwitMail

كما أن الإسلام طلب هذه المعاني العامة لتكون طريقا لتحقيق العبودية وإعلاء كلمة الله وظهور دينه ، في حين هذا الطرح ينزل بالإسلام ليكون مجرد مكون في مجتمع القيم المشتركة وجزءا من فسيفياء العقائد والمناهج لا يخاصمها ويبطلها وينفر عنها، إلا بالقدر المشترك الذي يعطى لبقية المكونات على السوية ، ولايؤثر على التعايش الذي يساوي العقائد والافكار ويجعل تصارعها ضمن إطار الدولة العلمانية التي تقف من كل منها بمسافة متساوية وتعطيها حقوقا متساوية في المشاركة والتأثير في الحياة العامة, وهذا الطرح بعيد عن مقاصد الرسالة ونظام الإسلام الذي أصله الوحي ومارسه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده.

وأخيرا أقول: إن استدعاء النموذج الغربي والمقارنة به منهج غير سليم لا يمكن أن تنهض به الأمة المسلمة لتشيد حضارة تؤدي بها رسالة ربها, وحتى عندما أثارت الحلقة الدعوة لاجتماع المسلمين على ما فيه من جمال وسمو, فإن استدعاء النموذج الغربي لذلك غير سليم, لأن الاجتماع في الإسلام يكون على حبل الله كما قال تعالى (واعتصوا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا), فهو ليس مجرد اجتماع وتعايش بل فيه اعتصام بحبل الله وليس اعتصام بأي شيء آخر كالمشتركات الوطنية أو الإنسانية ، إضافة إلى أن الاجتماع الناجح لا يحصل ألا بعدل الإسلام ، والنموذج الأوروبي يحمل بذور التفكك داخله, وقد يحصل في أي وقت مع تفاقم الازمات الاقتصادية, بينما لدينا نموذج مبارك للتعايش بين المسلمين عبر التاريخ هو أجدر بأن نبرزه, وإن كان قد تكالب عليه أعداء الإسلام ليسقطوه ويحولوا دون رجوعه, ومع ذلك فالتعايش بين الأجناس لا زال موجودا ضمن كثير من الدول الإسلامية, وله صور رائعة تستحق أن تحتذى ضمن مناسك الحج التي يجتمع فيها كل الألوان والأجناس في صورة جميلة تذكر بقوله تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }.

أسأل الله عز وجل أن يعيد للمسلمين عزهم ومجدهم في ظل شريعته, ليمتثلوا الخيرية التي أرادها لهم كما قال تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم }, وأن يقيهم من الانسياق وراء انحراف الأمم الأخرى التي لم توفق للخيرية حين أعرضت عن الإيمان.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



وكتبه أبو محمد طارق عنقاوي