(3)
باب
باب الخوف من الشرك
وقول الله عز وجل:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء :46].
وقال الخليل عليه السلام:{وَاجْنُب ْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}[إبراهيم :35].
وفي الحديث:"أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه قال:الرياء".
وعن ابن مسعود أن رسول الله r قال:"من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار" رواه البخاري.
ولمسلم عن جابر t أن رسول الله r قال:"من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار".
الشرح:
هذا مجمل ما استدل به المؤلف_رحمه الله تعالى_ على هذه الترجمة العظيمة:(الخوف من الشرك).
قال العلامة صالح آل الشيخ:" كل من حقق التوحيد فلا بد أن يخاف من الشرك ولهذا كان سيد المحققين للتوحيد محمد عليه الصلاة والسلام يُكثر من الدعاء بأن يبعد عنه الشرك وكذلك كان إبراهيم عليه السلام يكثر من الدعاء لئلا يدركه الشرك ، أو عبادة الأصنام. فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة وهي أن تحقيق التوحيد عند أهله لا بد أن يقترن معه الخوف من الشرك وقَلَّ من يكون مخاطرا بتوحيده أو غير خائف من الشرك ويكون مع هذا على مراتب الكمال بل لا يوجد فكل محقق للتوحيد وكل راغب فيه حريص عليه: يخاف من الشرك وإذا خاف من الشرك فإن الخوف الذي هو فزع القلب وهلعه يجعل العبد حريصا كل الحرص على البعد عن الشرك والهروب منه والخوف من الشرك يثمر ثمرات منها:
1_ أن يكون متعلما للشرك بأنواعه حتى لا يقع فيه.
2_ منها أن يكون متعلما للتوحيد بأنواعه حتى يقوم في قلبه الخوف من الشرك ويعظم ، ويستمر على ذلك.
3- ومنها أن الخائف من الشرك يكون قلبه دائم الاستقامة على طاعة الله مبتغيا مرضاة الله فإن عصى أو غفل كان استغفاره استغفار من يعلم عظم شأن الاستغفار وعظم حاجته للاستغفار لأن الناس في الاستغفار أنواع ، لكن من علم منهم حق الله - جل وعلا - وسعى في تحقيق التوحيد وتعلم ذلك، وسعى في الهرب من الشرك:فإنه إذا غفل وجد أنه أشد ما يكون حاجة إلى الاستغفار ولأجل صلاح القلب بوب الشيخ - رحمه الله - هذا الباب الذي عنوانه ( باب الخوف من الشرك ) فكأنه يقول لك:إذا كنت تخاف من الشرك كما خاف منه إبراهيم - عليه السلام - وعرفتَ ما توعد الله به أهل الشرك من أنه لا يغفر لهم شركهم ، فينبغي لك أن تعلم وأن تتعلم ما سيأتي في هذا الكتاب فإن هذا الكتاب موضوع لتحقيق التوحيد وللخوف من الشرك والبعد عنه فما بعد هذين البابين: ( باب من حقق التوحيد),و( باب الخوف من الشرك) تفصيل لهاتين المسألتين العظيمتين اللتين هما: تحقيق التوحيد والخوف من الشرك؛ يان معناه وبيان أنواعه. وقال العلامة صالح الفوزان:"ولهذا قال الشيخ: (باب الخوف من الشرك) أي:أن الموحّد يجب أن يخاف من الشرك، ولا يقول أنا موحّد وأنا عرفت التّوحيد، ولا خطر علي من الشرك، هذا إغراء من الشيطان، لا أحد يزكي نفسه، ولا أحد لا يخاف من الفتنة ما دام على قيد الحياة([1]).
فالإنسان معرّض للفتنة، ضلّ علماء أحبار، وزلّت أقدامهم، وخُتم لهم بالسّوء، وهم علماء، فالخطر شديد، ولا يأمن الإنسان على نفسه أن تَنْزَلِق قدمه في الضلال، وأن يقع في الشرك، إلاَّ إذا تعلم هذه الأمور من أجل أن يجتنبّها، واستعان بالله، وطلب منه العصمة والهداية:{رَبَّن َا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} خافوا من الزّيغ بعد الهداية، والمهتدي يكون أشد خوفاً أن يزيغ، وأن تزلّ قدمه، وأن تسوء خاتمته، وأن يكون من أهل النار، نسأل الله العافية.
وقال:"إذاً لا يعرف قيمة التّوحيد، وفضل التّوحيد، وتحقيق التّوحيد إلاَّ من عرف الشرك وأمور الجاهلية حتى يتجنّبها، ويحافظ على التّوحيد، ومِن هنا يظهر خطأ هؤلاء الذين يقولون: لا داعي أن نتعلم العقائد الباطلة ونعرف المذاهب الباطلة، ونرد على المعتزلة والجهمية، لأنهم بادوا وذهبوا،علموا الناس التّوحيد ويكفي! أو بعضهم يقول لا تعلّموهم التّوحيد لأنهم أولاد فطرة! ونشأوا في بلاد المسلمين!، علّموهم أمور الدنيا: الصناعات والاختراعات والأمور الحديثة، أما التّوحيد فيحصلونه بفطرتهم وبيئتهم!
نعم وجُد من يقول هذا، وبعض الناس يقول:الناس تجاوزوا مرحلة الخرافات،لأنهم تثقفوا وعرفوا، فلا يمكن أنهم يشركون بعد ذلك، لأن الشرك كان في الجاهلية، يوم كان الناس سذج ويسمون الشرك في العبادة شركاً ساذجاً!، والشرك عندهم ما يسمونه بالشرك السياسي أو شرك السلاطين أو شرك الحاكمية!
ولذلك لا يهتمون بإنكار هذا الشرك الذي بعثت الرسل لإنكاره، وإنما ينصبّ إنكارهم على الشرك في الحاكمية فقط. وقال أيضا:"بعدما ذكر أبواب التّوحيد وفضله، وما يكفر من الذنوب، وتحقيق التّوحيد وهذه نعمة عظيمة لكن إذا حازها الإنسان، فإنه يخشى من ضدها فلابد أن يعرف ضدّها حتى يتجنّبه، فلنتنبّه لهذا الأمر، فإن هناك أناساً الآن كثيرين يزهِّدون في تعلم هذه الأمور:تعلّم التّوحيد، تعلّم الشرك، معرفة الشُّبَه والضلال، يزهدون في هذه الأمور، وهذا إما من جهلهم، وعدم معرفتهم، وإما لأنهم يريدون الدّس على المسلمين، وإفساد عقيدة المسلمين فلنحذر من هذا الأمر، سمعنا من يقول إن الذي يدرس عقائد المعتزلة والرد عليهم مثل الذي يرجم القبر، لأنهم ماتوا، يقولون كذا، نقول: يا سبحان الله هم ماتوا بأشخاصهم، لكن مذاهبهم باقية، وشبهاتهم باقية، وكتبهم، تطبع الآن وتحقق، وينفق عليها الأموال، وتُرَوّج، فكيف نقول نتركهم لأنهم ماتوا، والله تعالى ذكر شبهات المشركين من الأمم السابقة: فرعون وهامان وقارون وقوم ونوح وعاد وثمود، مع أنها أمم بائدة، ذكر شبهها ورد عليها، فالعبرة ليست بالأشخاص، العبرة بالمذاهب، والعبرة بالشُّبَه الباقية ولكل قوم وارث.
وقال في قوله تعالى:{لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}. فهذا فيه خطورة الشرك، فالله لا يغفر للمشرك مع أن رحمته وسعت كل شيء، ولكن المشرك لا يدخل فيها، لعِظم جريمته- والعياذ بالله، فمن مات على الشرك فإنه لا يغفر له، وهذا يدلّ على خطورة الشرك، فإذا كان الشرك بهذه الخطورة، فإنه يجب الحذر منه غاية الحذر، كل الذنوب مَظِنّة المغفرة ورجاء المغفرة إلاَّ الشرك. والشرك لا يمكن تجنبه إلاَّ إذا عرف وعرف خطره([2]).
وقال العلامة ابن عثيمين:"في الباب الأول ذكر المؤلف رحمه الله تحقيق التوحيد، وفى الباب الثاني ذكر أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث بهذا الباب رحمه الله تعالى، لأن الإنسان يرى أنه قد حقق التوحيد وهو لم يحققه، ولهذا قال بعض السلف:"ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص" وذلك أن النفس متعلقة بالدنيا تريد حظوظها من مال أو جاه أو رئاسة، وقد تريد بعمل الآخرة الدنيا، وهذا نقص في الإخلاص، وقل من يكون غرضه الآخرة في كل عمله، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله ما سبق من البابين بهذا الباب، وهو الخوف من الشرك، وذكر فيه آيتين:
الأولى قوله:{إن الله لا يغفر أن يشرك به}{لا}:نافية،{أن يشرك به} فعل مضارع مقرون بأن المصدرية، فيحول إلى مصدر تقديره: أن الله لا يغفر الإشراك به، أو لا يغفر إشراكاً به، فالشرك لا يغفره الله أبداً، لأنه جناية على حق الله الخاص، وهو التوحيد.
أما المعاصي، كالزنى والسرقة، فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال من شهوة،أما الشرك، فهو اعتداء على حق الله تعالى، وليس للإنسان فيه حظ نفس، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده، ولكنه ظلم،ولهذا قال الله تعالى:{ إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13]. وهل المراد بالشرك هنا الأكبر، أم مطلق الشرك؟
قال بعض العلماء:إنه مطلق يشمل كل شرك لو أصغر، كالحلف بغير الله، فإن الله لا يغفره، أما بالنسبة لكبائر الذنوب، كالسرقة والخمر، فإنها تحت المشيئة، فقد يغفرها الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة، فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال:الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر، وعلى كل حال فيجب الحذر من الشرك مطلقاً، لأن العموم يحتمل أن يكون داخلاً فيه الأصغر، لأن قوله:{أن يشرك به} أن وما بعدها في تأويل مصدر، تقديره: إشراكاً به، فهو نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.
وقوله:{ويغفر ما دون ذلك}،المراد بالدون هنا:ما هو أقل من الشرك، وليس ما سوى الشرك. قال ابن كثير:" أخبر تعالى أنه {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي من الذنوب لمن يشاء من عباده" انتهى.
فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به، وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله؛ لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم([3]). وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به؛ كما قال تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}،ول نه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين،والاست كبار عن طاعته والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما قال r:" لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " رواه مسلم.
ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى، ومشاركة في خصائص الإلهية:من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل، وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، شبيها بمن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، واليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم.
فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية:الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء والإنابة; والتوكل والتوبة والاستعانة، وغاية الحب مع غاية الذل. كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن فعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. فلهذه الأمور وغيرها أخبر - سبحانه وتعالى - أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله([4]).
هل يدخل الشرك الأصغر تحت المشيئة؟
قال الشيخ صالح آل الشيخ:"ومعنى قوله - جل وعلا - في هذه الآية ( لَا يَغْفِرُ ) أي: أبدا فقوله:{ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } هذا وعيد بأنه - تعالى - لم يجعل مغفرته لمن أشرك به ، وقد قال العلماء في قوله:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } إن في هذه الآية دليلا على أن المغفرة لا تكون لمن أشرك شركا أكبر أو أشرك شركا أصغر فإن الشرك لا يدخل تحت المغفرة ، بل يكون بالموازنة ، فهو لا يغفر إلا بالتوبة ، فمن مات على ذلك غير تائب فهو غير مغفور له ما فعله من الشرك ، وقد يغفر الله - تعالى - غير الشرك كما قال { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فجعلوا الآية دليلا على أن الشرك الأكبر والأصغر لا يدخل تحت المشيئة.
وجه الاستدلال من الآية:أن (إن) في قوله تعالى:{ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } موصول حرفي فتؤول مع الفعل الذي بعدها وهو يشرك بمصدر- كما هو معلوم - ، والمصدر نكرة وقع في سياق النفي وإذا وقعت النكرة في سياق النفي عمت، قالوا:فهذا يدل على أن الشرك الذي نفي هنا يعم الأكبر والأصغر والخفي فكل أنواع الشرك لا يغفرها الله- جل وعلا - وذلك لعظم خطيئة الشرك لأن الله- جل وعلا - هو الذي خلق ورزق وأعطى ، وهو الذي تفضل فكيف يتوجه القلب عنه إلى غيره ؟! لا شك أن هذا ظلم في حق الله جل وعلا ولذلك لم يغفر وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وأكثر علماء الدعوة.
وقال آخرون من أهل العلم إن قوله هنا:{ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } دال على العموم لكنه عموم مراد به خصوص الشرك الأكبر فالمقصود بالشرك في قوله:{ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} هو:الشرك الأكبر فقط دون غيره وأما ما دون الشرك الأكبر فإنه يكون داخلا تحت المشيئة فيكون العموم في الآية مرادا به الخصوص،لأنه غالبا ما يرد في القرآن هذا اللفظ:{ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } ونحو ذلك ويراد به الشرك الأكبر دون الأصغر،وهذا في الغالب كما سبق فالشرك غالبا ما يطلق في القرآن على الأكبر دون الأصغر ومن شواهد ذلك قوله: جل وعلا { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } فقوله في الآية: يُشْرَكَ هو أيضا: فعل داخل في سياق الشرط فيكون عاما ، لكن هل يدخل فيه الشرك الأصغر والخفي ؟؟
الجواب:أنه لا يدخل بالإجماع؛لأنه تحريم الجنة،وإدخال النار والتخليد فيها ، إنما هو لأهل الموت على الشرك الأكبر فدلنا ذلك على أن المراد بقوله:{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72]. أهل الإشراك بالله الشرك الأكبر فلم يدخل فيه الأصغر ، ولم يدخل ما دونه من أنواع الأصغر. فيكون المفهوم إذًا من آيتي سورة النساء كالمفهوم من آية سورة المائدة ونحوها وهذا كقوله في سورة الحج:{ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [31]. فهذا ونحوه وارد في الشرك الأكبر فيكون على هذا القول المراد بما نُفي هنا في قوله:{ لَا يَغْفِرُ أَنْ } الشرك الأكبر.
ولما كان اختيار إمام الدعوة ، كما هو اختيار عدد من المحققين:كشيخ الإسلام:ابن تيمية،وابن القيم وغيرهما أن العموم هنا شامل لأنواع الشرك:الأكبر والأصغر والخفي كان الاستدلال بهذه الآية صحيحا؛لأن الشرك:أنواع وإذا كان الشرك بأنواعه لا يغفر فهذا يوجب الخوف منه أعظم الخوف فإذا كان الشرك الأصغر:كالحلف بغير الله،وتعليق التميمة والحلقة والخيط ،ونحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر كقولك:ما شاء الله وشئت ونسبة النعم إلى غير الله إذا كان ذلك لا يغفر فإنه يوجب أعظم الخوف كالشرك الأكبر".
وقال الشيخ صالح_حفظه الله تعالى_:"وإذا وقع أو حصل الخوف والوجل من الشرك في القلب فإن العبد سيحرص على معرفة أنواعه حتى لا يقع فيه،ويطلب معرفة أصنافه وأفراده حتى لا يقع فيها وحتى يحذِّر أحبابه ومن حوله منها ؛ لذلك كان أحب الخلق أو أحب الناس ، وخير الناس للناس:من يحذرهم من هذا الأمر ولو لم يشعروا به ولو لم يعقلوه قال جل وعلا:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }[آل عمران:110]. لأنهم يدلون الخلق على ما ينجيهم ، فالذي يحب للخلق النجاة هو الذي يحذرهم من الشرك بأنواعه ، ويدعوهم إلى التوحيد بأنواعه؛لأن هذا أعظمُ ما يُدعي إليه ؛ ولهذا لما حصل من بعض القرى في زمن إمام الدعوة تردد وشك ورجوع عن مناصرة الدعوة وفَهْمِ ما جاء به الشيخ رحمه الله وكتبوا للشيخ وغلَّظوا له القول وقالوا:إن ما جئت به ليس بصحيح وإنك تريد كذا وكذا لمّا حصل منهم ذلك أجابهم بكتاب قال في آخره بعد أن شرح التوحيد وضدَّه ورغَّب ورهَّب: ولو كنتم تعقلون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنت أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم ولكنكم قوم لا تعقلون . انتهى كلامه - رحمه الله - وهو كلام صحيح ولكن لا يعقله إلا من عرف حق الله - جل وعلا - فرحمة الله على هذا الإمام ، وأجزل له المثوبة ،وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء ، ورفع درجته في المهديين،والنبي ين،والصالحين.
قوله تعالى:{وَاجْنُبْ نِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} وصاحب هذه الدعوة هو إبراهيم عليه السلام ومر بنا في الباب قبله:أن إبراهيم قد حقق التوحيد وقد وصفه الله بأنه كان أمة قانتا لله حنيفا وبأنه لم يك من المشركين فهل يطمئن من كان على هذه الحال إلى أنه لن يعبد غير الله ولن يعبد الأصنام أو يظل مقيما على خوفه ؟؟!! وهل حال الكمَّل الذين حققوا التوحيد أنهم يطمئنون أم يخافون؟؟! هذا إبراهيم - عليه السلام - كما في هذه الآية خاف الشرك وخاف عبادة الأصنام فدعا الله بقوله:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ }{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ }[إبراهيم:36]. فكيف بمن دون إبراهيم ممن ليس من السبعين ألفا ، وهم عامة هذه الأمة ؟؟!! والواقع أن عامة الأمة لا يخافون من الشرك ، فمن الذي يخافه إذًا؟ الذي يخافه هو الذي يسعى في تحقيق التوحيد.
قال إبراهيم التيمي_رحمه الله_ وهو من سادات التابعين لما تلا هذه الآية قال:ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟!إذا كان إبراهيم-عليه السلام- وهو الذي حقق التوحيد وهو الذي وُصِفَ بما وُصِفَ به وهو الذي كسَّر الأصنام بيده يخاف من الفتنة بها فمن يأمن البلاء بعده ؟!
إذًا فما ثمَّ إلا غرور أهل الغرور والمقصود:أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك لأن إبراهيم - عليه السلام مع كونه سيد المحققين للتوحيد في زمانه بل وبعد زمانه إلى نبينا r ما أعطي الضمان والأمان من الوقوع في الشرك وألا يزيغ قلبه وكذلك الحال مع نبينا محمد:r. فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به وبما يخلصه منه: من العلم بالله، وبما بعث به رسوله من توحيده، والنهي عن الشرك به.
قال الشيخ صالح الفوزان:" في قوله:{وَاجْنُبْن ِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} الخليل هو إبراهيم عليه السلام سمي بالخليل لأن الله سبحانه اتخذه خليلاً، كما قال تعالى:{وَاتَّخَذ َ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} من الخُلَّة وهي أعلى درجات المحبة أي: أن الله يحبه أعلى المحبة، وهذه مرتبة لم ينلها إلاَّ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
قوله:{وَاجْنُبْن ِي} أي:أبعدني واجعلني في جانب بعيد{أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} خاف من عبادتها. مع هذه المنزلة العظيمة التي نالها إبراهيم عليه السلام من ربه، ومع أنه قاوم الشرك وكسر الأصنام بيده، وتعرض لأشد الأذى في سبيل ذلك حتى ألقي في النار([5]). مع ذلك خاف على نفسه من الوقوع في الشرك، لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، والحي لا تؤمن عليه الفتنة، ولهذا قال بعض السلف:"ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ فإبراهيم خاف على نفسه الوقوع في الشرك لما رأى كثرة وقوعه في الناس، وقال عن الأصنام:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}. وفي هذا أبلغ الرد على هؤلاء الذين يقولون: لا خوف على المسلمين من الوقوع في الشرك بعدما تعلموا وتثقفوا، لأن الشرك بعبادة الأصنام شرك ساذج يترفع عنه المثقف والفاهم، وإنما الخوف على الناس من الشرك في الحاكمية! ويركزون على هذا النوع خاصة، وأما الشرك في الألوهية والعبادة فلا يهتمون بإنكاره، وعلى هذا يكون الخليل عليه السلام وغيره من الرسل إنما ينكرون شركاً ساذجاً!! ويتركون الشرك الخطير وهو شرك الحاكمية كما يقول هؤلاء!!!([6]).
وعن ابن مسعود y أن رسول الله r قال:"من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار". رواه البخاري. وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر عن النبي:r قال:"الشرك أخفى من دبيب النمل. قال أبو بكر:يا رسول الله، وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله؟ قال: ثكلتك أمك، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل " الحديث. وفيه: " أن تقول أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان قتلني فلان....
ولمسلم عن جابر y أن رسول الله r قال:"من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار". قوله:"من مات وهو يدعو من دون الله ندا". أي يجعل لله ندا في العبادة، يدعوه ويسأله ويستغيث به دخل النار.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا ... كان من حجر ومن إنسان
يدعوه، أو يرجوه ثم يخافه ... ويحبه كمحبة الديان.
واعلم أن اتخاذ الند على قسمين:
الأول: أن يجعله لله شريكا في أنواع العبادة أو بعضها كما تقدم، وهو شرك أكبر.
والثاني:ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل: ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت. وكيسير الرياء، فقد ثبت أن النبي r لما قال له رجل:"ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده". رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه. وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد([7]).
يتبع تتمة الباب.............