وقال شيخ الإسلام معلقا على كلام الرازي – وسيأتي - : " إن الرجل – يعني الرازي - قد أقر أنه لا نزاع بينهم وبين المعتزلة من جهة المعنى في خلق الكلام بالمعنى الذي يقوله المعتزلة، وإنما النزاع لفظي ، حيث إن المعتزلة سمت ذلك المخلوق كلام الله ، وهم لم يسموه كلام الله، ومن المعلوم بالاضطرار أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم لما ابتدعت القول بأن القرآن مخلوق ، أو بأن كلام الله مخلوق ؛ أنكر ذلك عليهم سلف الأمة وأئمتها ، وقالوا : القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فلو كان ما وصفته المعتزلة بأنه مخلوق هو مخلوق عندهم أيضا ، وإنما خالفوهم في تسمية كلام الله ، أو في إطلاق اللفظ ؛ لم تحصل هذه المخالفة العظيمة والتكفير العظيم بمجرد نزاع لفظي ، كما قال هو : إن الأمر في ذلك يسير ، وليس هو مما يستحق الإطناب ؛ لأنه بحث لغوي وليس هو من الأمور المعقولة المعنوية .
فإذا كانت المعتزلة فيما أطلقته لم تنازع إلا في بحث لغوي ؛ لم يجب تكفيرهم وتضليلهم وهجرانهم بذلك ، كما أنه هو وأصحابه لا يضللونهم في تأويل ذلك ، وإن نازعوهم في لفظه ، ومجرد النزاع اللفظي لا يكون كفرا ، ولا ضلالا في الدين "
[56] .
ـ وقال السفاريني في لوامع الأنوار البهية : " والحاصل : أن المعتزلة موافقة الأشعرية ، والأشعرية موافقة المعتزلة في أن هذا القرآن الذي بين دفتي المصحف مخلوق محدث ، وإنما الخلاف بين الطائفتين أن المعتزلة لم تثبت لله كلاما سوى هذا ، والأشعرية أثبتت الكلام النفسي القائم بذاته تعالى ، وأن المعتزلة يقولون : إن المخلوق كلام الله ، والأشعرية لا يقولون إنه كلام الله ، نعم يسمونه كلام الله مجازا ، هذا قول جمهور متقدميهم ، وقالت طائفة من متأخريهم : لفظ كلام يقال على هذا المنزل الذي نقرؤه ونكتبه في مصاحفنا ، وعلى الكلام النفسي بالاشتراك اللفظي "
[57].
ـ وصرّح جمع من محققي الأشاعرة بأن القرآن مخلوق ، وبأن الخلاف مع المعتزلة لفظي .
ـ قال الجويني : " إن معنى قولهم - يعني المعتزلة - : وهذه العبارات كلام الله ؛ إنها خلقه ، ونحن لا ننكر إنها خلق الله ، ولكن نمتنع من تسمية خالق الكلام متكلماً به "
[58] .
ـ أما الرازي فيحكي قول المعتزلة في صفة الكلام لله ، وأن الله يخلقها في الأجسام ، فيقول : " إنه تعالى إذا أراد شيئا ، أو كره شيئا ؛ خلق هذه الأصوات المخصوصة في جسم من الأجسام ، لتدل هذه الأصوات على كونه تعالى مريدا لذلك الشيء المعين ، أو كارها له ، حاكما به بالنفي أو بالإثبات ، وهذا هو المراد من كونه تعالى متكلما " "
[59]
ثم ذكر مخالفة الأشاعرة لذلك : " وقد نازعهم أصحابنا فيه ، وقالوا : إنه يمتنع أن يكون متكلما بكلام قائم بالغير ، كما أنه يمتنع أن يكون متحركا بحركة قائمة بالغير ، وساكنا بسكون قائم بالغير " .
ثم قال : " وعندي : أن هذه المنازعة ضعيفة ؛ لأن هذه المنازعة ، إما أن تكون في المعنى ، أو في اللفظ " .
ثم ذكر الوجهين ، ثم قال : " فثبت بما ذكرناه : أن كونه تعالى متكلما بالمعنى الذي يقوله المعتزلة ؛ مما نقول به ونعترف به ، ولا ننكره بوجه من الوجوه .
إنما الخلاف بيننا وبينهم في أن نثبت أمرا آخر وراء ذلك ، وهم ينكرونه ، وسنذكر أن ذلك الشيء ما هو "
[60].
وهو الكلام النفسي ، كما ذكرت من قبل .
ونقل شيخ الإسلام كلاما مثل هذا له من نهاية العقول ، قال الرازي : " أجمع المسلمون على أن الله تعالى متكلم لكن المعتزلة زعموا أن المعنى بكونه متكلما أنه خلق هذه الحروف والأصوات في جسم، ونحن نزعم أن كلام الله تعالى صفة حقيقية مغايرة لهذه الحروف والأصوات، وأن ذاته تعالى موصوفة بتلك الصفة.
واعلم أن التحقيق أنه لا نزاع بيننا وبينهم في كونه متكلما بالمعنى الذي ذكروه، لأن النزاع بيننا وبينهم إما في المعنى وإما في اللفظ "
[61] .
ـ وقال الآمدي : " وَأما مَا قيل من أَن الْقُرْآن معْجزَة الرَّسُول فَيمْتَنع أَن يكون قَدِيما ؛ فتهويل لَا حَاصِل لَهُ ؛ فَإنَّا مجمعون على أَن الْقُرْآن الحقيقى لَيْسَ بمعجزة الرَّسُول ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف فِي أَمر وَرَاءه ، وَهُوَ أَن ذَلِك الْقُرْآن الحقيقى مَاذَا هُوَ ؟ ، فَنحْن نقُول : إِنَّه الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ ، والخصم يَقُول : إِنَّه حُرُوف وأصوات أوجدها الله تَعَالَى "
[62] .
فجعل القرآن الذي يتلوه المسلمون ليس القرآن ( الحقيقي ) ، وإنما القرآن الحقيقي هو الكلام النفسي .
وقال : " لَا تنَازع فِي أَن مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول من الْحُرُوف المنتظمة والأصوات الْمُقطعَة ؛ معْجزَة لَهُ ، وَأَنه يُسمى قُرْآنًا وكلاما ، وَأَن ذَلِك لَيْسَ بقديم ، وَإِنَّمَا النزاع فِي مَدْلُول تِلْكَ الْعبارَات ، هَل هُوَ صفة قديمَة أزلية أم لَا "
[63] .
ـ وقال الإيجي حاكيا قول المعتزلة : " وقالت المعتزلة : كلامه تعالى أصوات وحروف كما ذهبت إليه الفرقتان المذكورتان ، لكنها ليست قائمة بذاته تعالى ، بل يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي "
[64] .
ثم صحح قول المعتزلة في أن حروف القرآن يخلقها الله في اللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي ، فقال : " وهذا الذي قاله المعتزلة ؛ لا ننكره نحن ، بل نقول به ، ونسميه كلاما لفظيا ، ونعترف بحدوثه ، وعدم قيامه بذاته تعالى ، لكنا نثبت أمرا وراء ذلك ، وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ ، ونقول هو الكلام حقيقة "
[65] .
ـ ويقول التفتازاني في سياق كلامه عن الأسماء الحسنى ، وهل هي مخلوقة – وقد ذكرنا هذ من موجبات الإكفار بالقول بخلق القرآن - : " الثابث في الأزل معنى الإلهية والعلم، ولا يلزم من انتفاء الاسم بمعنى اللفظ انتفاء ذلك المعنى "
[66].
ـ ويصرح الباجوري بخلق القرآن ، بمعنى الحرف ، فيقول : " فإذا سمعت أشعريا يقول : القرآن كلام الله ؛ فاعلم أن مراده أن ألفاظ القرآن تسمى كلام الله ، بمعنى أن الله خلقها .
وأما كلام الله حقيقة ؛ فهو النفسي وهذا غير مخلوق "
[67] .
ويقول : " " واطلاقه عليهما – أي إطلاق الكلام على النفسي واللفظي – قيل بالاشتراك ، وقيل : حقيقي في النفسي مجاز في اللفظي .
وعلى كلّ من أنكر أن ما بين دفتي المصحف كلام الله فقد كفر ، إلا أن يريد أنه ليس هو الصفة القائمة بذاته تعالى ." أي فلا يكفر حينئذ "
[68] .
وقال : " ومع كون اللفظ الذي نقرؤه حادثا ؛ لا يجوز أن يقال : القرآن حادث ، إلا في مقام التعليم "
[69] .
وكتبه :
عمرو بسيوني
فجر الأربعاء ، الرابع عشر من شوال ، سنة 1434 من الهجرة الشريفة ، الموافق 12/8/2013 م
[1] السنة لعبد الله بن أحمد 25 ، والعلو للذهبي 140 .
[2] شرح أصول الاعتقاد للالكائي 2/298 ، 474 .
[3] شرح أصول الاعتقاد للالكائي 2/547 .
[4] أول من قرر تلك القاعدة الخطابي ، كما نقل عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 5/58 ، والذهبي في العلو 236 ، ثم ذكرها الخطيب في الكلام على الصفات 1/20 ، ثم انتشرت عند العلماء وتلقوها بالقبول .
[5] مجموع الفتاوى 12/243 – 244 ، باختصار يسير .
[6] شرح أصول الاعتقاد 2/344 .
[7] العلو للذهبي 161 .
[8] الطحاوية 41 .
[9] الإبانة 71 .
[10] الشريعة للآجري 3/1109 .
[11] الإبانة 69 .
[12] السنة للخلال 5/138 .
[13] الإبانة 73 .
[14] نقض المريسي 1/158 .
[15] نقض المريسي 1/161 .
[16] النقض 1/163 – 164 .
[17] النقض 1/166 .
[18] مجموع الفتاوى 6/185 – 187 ، باختصار .
[19] الفتاوى الكبرى 6/480 .
[20] النقض 1/184 – 185 .
[21] الفتاوى الكبرى 6/482 .
[22] ابن بطة في الإبانة 2/44 .
[23] بيان التلبيس 3/518 ، 519 .
[24] مجموع الفتاوى 12/497 .
[25] مجموع الفتاوى 12/489 .
[26] درء التعارض 1/264 .
[27] درء التعارض 1/264 .
[28] درء التعارض 1/265 .
[29] مجموع الفتاوى 7/134 ، كتاب الإيمان الكبير .
[30] مقالات الإسلاميين 584 .
[31] التسعينية 2/683 .
[32] نهاية الإقدام 111 .
راجع للشهرستاني أيضا : الملل والنحل 1/96 ، والجويني في لمع الأدلة 91 ، وفي الإرشاد 104 – 108 ، والبغدادي في أصول الدين 102 ، والإسفراييني في التبصير 135 ، والغزالي في الإحياء 1/108 ، وفي المستصفى 1/64 ، وفي الاقتصاد في الاعتقاد 54 – 58 ، وفي معيار العلم 75 – 77 ، والإيجي في المواقف 294 .
[33] نهاية الإقدام 111 ، واستفاض الشيخ في خلاف الأشاعرة والكلابية والكرامية والسالمية في ذلك البحث على أربعة أقوال والفروق بينهم في التسعينية 1/435 – 436 .
[34] وإنما نسبه إليه جماعة من الأشعرية وغيرهم ، كابن فورك في المجرد 67 ، والجويني في الإرشاد 120 ، والشهرستاني كما تقدم ، وغيرهم كثير .
[35] الفلسقة الرواقية لعثمان أمين 298 – 299 .
[36] Kneale , The development of logic . 139 .
[37] الفرق الإسلامية وأصولها الإيمانية ، الجزء الأول ، لعبد الفتاح أحمد فؤاد ، 298 .
[38] في إحصاء العلوم مثلا ، 17 – 18 .
[39] في الرسائل – الرسالة العاشرة 1/276 – 277 .
[40] في الشفا 20 .
[41] في مناهج الأدلة 162 – 163 .
[42] شرح القطب الرازي على الشمسية 1/176 – 177 ، وحاشية العطار على شرح الخبيصي للتهذيب 55 .
[43] التمهيد 283 .
[44] مجموع الفتاوى 7/139 .
[45] راجع في ذلك كلام الشيخ في المجموع 6/533 .
[46] رسالة السجزي لأهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت 121 .
[47] مجموع الفتاوى 6/297 .
[48] مجموع الفتاوى 7/139 .
[49] الإنصاف 96 – 98 ، باختصار .
[50] مجموع الفتاوى 12/266 .
[51] مجموع الفتاوى 12/271 ، وانظر درء التعارض 1/258 .
[52] وناقش الشيخ في التسعينية باستفاضة أنه ليس مع الأشاعرة دليل صحيح أن الخبر – شطر الكلام – يخالف العلم ، بحيث يكون كلامهم في إثبات الكلام النفسي مخالفا لحقيقة قول المعتزلة ، وأما الإنشاء ( الأمر والنهي ) – شطر الكلام الثاني – فإن الشيخ حقق أن الأشاعرة ليس لهم دليل قوي في مخالفته للإرادة ، بحيث يكون كلامهم في الكلام النفسي مخالفا لقول المعتزلة ، فيرجع قول الأشاعرة في الكلام النفسي إلى العلم والإرادة ، وينقشع خلافهم مع المعتزلة ، هذا ويرجع بعض من يرد على الأشاعرة من أهل السنة الأمر والنهي إلى العلم أيضا ، فيرجع الكلام النفسي جملة إلى العلم ، كقول المعتزلة .
راجع في ذلك : التسعينية 2/632 – 667 .
[53] رسالته لأهل زبيد 116 – 117 .
[54] الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار 2/544 .
[55] الرسالة الواضحة في الرد على الأشاعرة 2/408 .
[56] التسعينية 2/618 .
[57] لوامع الأنوار البهية 1/165 .
[58] الإرشاد 117 .
[59] الأربعين في أصول الدين للفخر الرازي 1/248 .
[60] الأربعين 1/248 – 249 .
[61] نقله شيخ الإسلام عن نهاية العقول للفخر الرازي في التسعينية 2/597 ، والنهاية مطبوع في رسالة ماجستير .
[62] غاية المرام 107 .
[63] غاية المرام 108 .
[64] المواقف 202.
[65] المواقف 203 .
[66] شرح المقاصد 3/253 .
[67] شرح الجوهرة 72 .
[68] شرح الجوهرة 72 .
[69] شرح الجوهرة 72 .