بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله , والصلاة على رسول الله , وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ,
أما بعد :
فإنه لما أظهر الجعد بن درهم مذهبَه في التعطيل , وتابعه عليه تلميذُه الجهمُ بن صفوان , لم يتوقف أحدٌ من أئمة السلف في أن هذه المقالة – مقالة التعطيل لصفات رب العالمين – أنها كفر أكبر مخرج من الملة , بل قال الإمام البخاري رحمه الله – بعد أن نقل عدداً من فتاوى أئمة السلف في تكفير الجهمية - : ( نظرتُ في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيتُ قوماً أضلَّ في كفرهم منهم ( أي الجهمية ) وإني لأستجهلُ من لا يُكَفِّرهم إلا من لا يَعرف كفرَهم )
( خلق أفعال العباد 2/24 تحقيق د 0فهد الفهيد )
وقال – أيضاً – ( ما أبالي أصليتُ خلف الجهمي والرافضي أم صليتُ خلف اليهود والنصارى, ولا يُسلَّمُ عليهم ولا يُعادون ولا يُناكحون ولا يُشهدون ولا تُؤكل ذبائحُهم ) ( السابق 2/33 )
وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة – بعد أن ذكر أن الجهمي يُستتاب فإن تاب وإلا ضُربت عنقه وألقي على بعض المزابل – قال رحمه الله : هذا مذهبي ومذهب من رأيت من أهل الأثر في الشرق والغرب من أهل العلم .
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 6/170 )
وكلام الأئمة في تكفير الجهمية المحضة لا يمكن حصره إلا بكلفة ,
وقد ذكر الإمام ابن القيم في قصيدته النونية أنه قد حكم بكفر الجهمية خَمْسُمِائةِ عالمٍ من علماء المسلمين , وذلك في قوله :
ولقد تقلَّد كفرَهم خمسون في *** عشرٍ من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمامُ حكاه عنـ***ـهم بل حكاه قبله الطبراني
( شرح النونية للهراس 1/126 )
فمن يشكك بعد هذا في اتفاق السلف على كفر الجهمية المحضة فهو أحد رجلين :
إما جاهل بأقوال الجهمية , لا يعرف كفرَهم , كما قال الإمام البخاري رحمه الله
وإما شخص اشتبه عليه بعض كلام العلماء فلم يُحسن فهمه وتخريجه ,
وسوف أجيب عن بعض هذه الشبهات بعون الله وتوفيقه :
فمنها : قول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم : أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولك كفر وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال, وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم ) الرد على البكري ( 1/383-384 )
وقال نحوه في بيان تلبيس الجهمية ( 1/10 )
والجواب عن هذا : أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هذا هو موجهٌ لجماعة من الأشاعرة , وليس إلى الجهمية المحضة التى اتفق السلف على كفرها ومروقها من الدين , وذلك أن المحنة التى أشار إليها شيخ الإسلام هى استجوابه الشهير في مجلس الأمير حول العقيدة الواسطية , وكان خصومه فيها هم علماء الأشاعرة : ابن الزملكاني وابن الوكيل وصفي الدين الهندي وفيهم قضاة وشيوخ وأمراء , فهؤلاء هم الجهمية الحلولية عند شيخ الإسلام , وهو رحمه الله يسميهم جهمية بهذا الاعتبار أنهم ينفون العلو للعلي الغفار , ويسميهم حلولية بهذا الاعتبار أيضاً , وقد أشار إلى هذا المجلس في بيان تلبيس الجهمية ( 6/71-72 )وهو يناقش الرازي في قوله تعالى ( فأينما تولوا فثم وجه الله )
قال رحمه الله : ( والكلام على هذه الآية من وجوه :
أحدها : أن يقال نحو ما ذكرته في بعض المجالس , فإن هذه الآية هي التي أوردها عليَّ بعض أكابر الجهمية , لما ذكرت أن السلف لم يتأولوا آيات الصفات وأخبارها , وجرى في ذلك مناظرة مشهورة وكانوا أياماً يكشفون الكتب ويطالعون ما قدروا عليه ويفتشون الخزائن حتى وجدوا ما زعموا أنهم يعارضون به , فلما اجتمعنا في المجلس الثاني أو الثالث ... )
فتأمل في قوله عنهم ( أكابر الجهمية ) وهم كانوا جماعة من أشاعرة الشام في ذلك الوقت , كما بينته آنفاً , فمن ظن أن خطاب شيخ الإسلام بقوله ( وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال ) موجهٌ للجهمية الغلاة من أتباع الجهم أو ابن عربي وابن سبعين فقد أبعد النجعة وغلط على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , كيف وهؤلاء الجهمية الغلاة أصحاب وَحدة الوجود هم عند شيخ الإسلام ( منافقون مرتدون زنادقة ) كما في كتابه بيان تلبيس الجهمية ( 5/91 )

ومن الشبه أيضاً : أن بعض الناس وقف على أن الإمام أحمد لم يكفر المأمون الخليفة العباسي الداعي إلى مذهب الجهمية كما لم يكفر كثيراً من رجال دولته من وزارء وأمراء وحراس , كلهم كانوا على دين الجهمية ويمتحنون العلماء به , فظن أن للإمام أحمد قولين في تكفير الجهمية , وهذا هو الغلط بعينه على الإمام أحمد , فإن الإمام أحمد رحمه الله – كغيره من الأئمة – يُفرقون بين الاطلاق والتعيين , فهم يطلقون الحكم في الجهمية أنهم كفار , وعند التعيين قد يكفرون الشخص المعين وقد لا يكفرون لقيام مانع يمنع من كفره , فهذا الحكم الخاص على الأشخاص لا يُبطل به الحكم العام المطلق على الجهمية , ففرق بين الحكم المطلق والمعين , وهذا واضح بيَّن لا يلتبس على طلبة العلم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره , ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر , ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم , فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع , وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الين كانوا يقولون : القرآن مخلوق , وأن الله لا يرى في الآخرة . وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفَّر به قوماً معينين , فأما أن يُذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر , أو يُحمل الأمر على التفصيل , فيقال : من كفَّره بعينه ؛ فلقيام الدليل على أنه وُجدت فيه شروط التكفير , وانتفت موانعه , ومن لم يكفِّره بعينه ؛ فلنتفاء ذلك في حقه . هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم ) 0 المجموع ( 12/489 )
ومن الشبه أيضاً : قول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأما القدرية المقرون بالعلم والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج فيذكر عنه ( أي الإمام أحمد ) في تكفيرهم روايتان )0 المجموع ( 12/486 )
والجواب : أنه قد سبق مأخذ من زعم أن للإمام أحمد قولين في تكفير الجهمية , وأن شيخ الإسلام بيَّن ما فيه من النظر , فهذا النص محمول على هذا الغلط , الذي رده شيخ الإسلام في الموضع السابق , والله أعلم .
وقد قال رحمه الله بعد هذا الكلام بخمسة أسطر : ( والجهمية عند كثير من السلف : مثل عبدالله بن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التى افترقت عليها الأمة . . . ( قال ): وهذا هو المأثورعن أحمد وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون : من قال القرآن مخلوق فهو كافر . ومن قال إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر . ونحو ذلك . )
وأقول في خاتمة هذا المقال : هذه كتب السلف بين أيدينا , فليأت هذا الذي يزعم أن السلف لم يتفقوا على تكفير الجهمية بنصٍ واحد عن إمام من أئمة السلف لا يُكفِّر فيه الجهم وأتباعه من الجهمية المحضة , شريطة أن يأتي بكلام واضح صريح , لا كتلك الشبهات التى أجبنا عنها فيما تقدم .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

وكتبه / عبدالحميد بن خليوي الجهني
الجمعة 7 ذي القعدة 1431هـ
ينبع