بسم الله الرحمن الرحيم



(موقف عقلاء كفار قريش من حصار الشِعْب وموقف المسلمين من حصار غزة)


عندما يفشل الأعداء من مقارعة الحجة بالحجة مع المسلمين يلجأون إلى الحرب الإعلامية فيشوهون سمعة المصلحين ويشككون في نواياهم ويرمونهم بالتهم، وعندما يستمر الدعاة في دعوتهم يكسبون ثقة الناس ويزداد اقبالهم عليهم ، عنها يبدأ الأعداء في تغيير أسلوب حربهم للدعاة وذلك بحربهم في أرزاقهم أو بسجنهم أو بتصفيتهم جسديا!



وهذا ما حدث من كفار قريش حينما رأوا ازدياد عدد الذين يسلمون ويتبعون النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما أن شريحة المقبلين على الإسلام تجاوزت الضعفة والعبيد إلى الأشراف والسادة! ففكر زعماء الكفر في القضاء على الدعوة بتصفية شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتمع أمرهم على ذلك.



فقرر أبو طالب تأكيد حماية النبي صلى الله عليه وسلم داخل شعب أبي طالب، ودخل معهم في الحماية بني هاشم وبني المطلب مسلمهم وكافرهم، فلما رأى المشركون ذلك قاموا بمقاطعتهم اقتصاديا واجتماعيا، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يُنكحوهم ولا يَنكحوا إليهم حتى يُسلِّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا ولا تأخذهم به رأفة حتى يسلموه للقتل.



فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، من السنة السابعة إلى السنة العاشرة، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركون طعاما يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه، حتى سُمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب وهم يتضاغون من الجوع ، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا حال إخواننا اليوم في غزة ، محاصرين من اليهود على مرأى ومسمع من العالم أجمع مسلمهم وكافرهم، يُمنع عنها الاستيراد والتصدير حتى بلغت خسائرهم بملايين الدولارات، ويمنع السفر للعلاج حتى بلغ عدد الوفيات بسبب نقص العلاج المئات، فالوضع ينذر بكارثة كبيرة جراء ذلك الحصار الظالم الذي يراد منه تركيعهم ولي أذرعهم ليتنازلوا عن مبادئهم وحقوقهم، عن طريق إضعافهم من الناحية المالية، والحيلولة بينهم وبين الموارد التي ترفع اقتصادهم وتمنحهم شيئا من القوة والمنعة، وتمنحهم شيئا من أساسيات الحياة الكريمة التي لا غنى للناس عنها اليوم كمستلزمات النساء والأطفال وأدوية الضغط والسكر وما يحتاجه الأطباء لإجراء العمليات وغير ذلك من المواد الغذائية. وللأسف يحدث ذلك ولا نصير لهم من زعماء المسلمين، بينما نجد نخوة بعض كفار قريش تحركهم لاتخاذ موقف ضد الظلم والجور والعدوان، مثل موقف أبو البختري من أبي جهل بن هشام حين لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه في الشعب، فتعلق به أبو جهل وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري بن هاشم ، فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أنه يأتيها بطعامها! خَلِّ سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له أبو البختري لّحْيَ بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطأ شديدا.



ثم تلاوم بعض كفار قريش ممن تربطهم صلة ببني عبد مناف وبني قصي وممن ولدتهم أمهاتهم من بني هاشم، مثل أبي البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وزمعة بن الأسود وهشام بن عمرو، تلاوموا على سكوتهم على حصار النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، واعتبروا ذلك من قطيعة الرحم واستخفاف بالحق الواجب عليهم تجاه أبناء عمومتهم وأرحامهم، فاجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه، وعندما نقضوا معاهدة الغدر وتبرءوا منها قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل.



ولحماس ومن في حكمها من المسلمين أسوة حسنة في ثبات النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه حين عذبوا وأوذوا وحوصروا ثلاث سنوات حتى أكلوا ورق الشجر ولحاها، ولم يتنازلوا عن مبدؤهم بل ثبتوا ثبوت الجبال الشامخات حتى سخر الله لهم من ينصرهم ويدفع الظلم عنهم، ولعل أن يكون لأصحاب القرار والكلمة المسموعة من المسلمين أسوة حسنة في عقلاء كفار قريش الذين سعوا لنقض وثيقة الظلم والجور وسعوا في فك الحصار عن المسلمين في شعب أبي طالب، فيسعون لفك حصار اخواننا المستضعفين في غزة، ولعل من المناسب أن أذكر اخواني أئمة المساجد بحق الأخوة الإيمانية التي تربطنا بإخواننا في غزة فلهم حق الدعاء والقنوت دبر الصلوات بأن يرفع الله عنهم الظلم ويكشف الكرب ويفك الحصار ، فهذا أضعف الإيمان وأبرأ للذمة.



وأذكر الجميع بقول الله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}



قال أبو جعفر الطبري: يقول تعالى ذكره للمؤمنين الذين أمرهم بقتال هؤلاء المشركين, الذين نقضوا عهدهم الذي بينهم وبينه بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} الآية, حاضًّا على جهادهم:

{أم حسبتم} أيها المؤمنون أن يترككم الله بغير محنة يمتحنكم بها، وبغير اختبار يختبركم به, فيعرف الصادقَ منكم في دينه من الكاذب فيه.

{ولما يعلم الله الذين جاهدوا}، يقول: أحسبتم أن تتركوا بغير اختبار يعرف به أهل ولايته المجاهدين منكم في سبيله, من المضيِّعين أمرَ الله في ذلك المفرِّطين.

{ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله}، يقول: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم, والذين لم يتخذوا من دون الله ولا من دون رسوله ولا من دون المؤمنين{وليجة} هو الشيء يدخل في آخر غيره, يقالُ منه: " ولج فلان في كذا يلجِه، فهو وليجة ".



وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء، يفشون إليهم أسرارهم {والله خبير بما تعملون}، يقول: والله ذو خبرة بما تعملون، من اتخاذكم من دون الله ودون رسوله والمؤمنين به أولياءَ وبطانةً، بعد ما قد نهاكم عنه, لا يخفى ذلك عليه، ولا غيره من أعمالكم, والله مجازيكم على ذلك، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا.



وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين