ولما عَطلتْ النفاةُ والمعطلةُ عقولَهم عطَّلوا خالقهم من أسمائه وأخلوه من صفاته ، فقالوا : سميع بلا سمع وبصير بلا بصر لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ، حتى ذكر صاحب المقالات السنية في كشف ضلالات الفرقة الحبشية (1 / 207) القصة التي دارت بين شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصمه أمام الحاكم، ولما تبين للحاكم ضلال هؤلاء العلماء الذين يقولون كما يقول أحباش اليوم بأن الله ليس في مكان قال الحاكم: "هؤلاء قوم أضاعوا ربهم".
ثم ذكر شيخ الإسلام أن أهل السنة والجماعة ليسوا معطِّلة ولا مجسِّمة.
وقال: "الحقيقة أن المجسِّم يعبد صنَما والمعطِّل (أمثال الحبشي) يعبد عدَّماً".
ثم قال الشيخ الألباني "إننا لو قلنا لأفصح رجل باللغة العربية: صف لنا المعدوم الذي لا وجود له، لما استطاع أن يصفه بأكثر مما يصف هؤلاء معبودهم وربهم!"
فالمعدوم هو الذي ليس داخل العالم ولا خارجه، فهل الله كذلك؟ حاشَ لله، كان الله ولا شيء معه".أ هـ المراد
وعلى العكس منهم المشبهةُ الذين جعلوا صفات الخالق كصفات المخلوقين , فصاروا إلى ضلال مبين , حين قالوا ( له سمع كسمعنا وبصر كبصرنا ويد كأيدينا) إعمالاً لآرائهم المضلِّلة , وعقولهم المعطَّلة , في مصادمة النصوص الشرعية , فردَّ الله قول الطائفتين فقال: (..لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير) [الشورى:11].
في حين أننا نجد أناساً قد أغرقوا في إعمال عقولهم واستحسان زبالة أذهانهم في معارضة الأدلة ومضاهاة الشرع , كما حصل هذا من الفلاسفة وأرباب الكلام , ومع أن العقل السليم لا يخالف النص الصحيح الصريح - فيما ذكره شيخ الإسلام - , إلا أن هؤلاء أتكأوا على نظرتهم العقلية ومفاهيمهم الفكرية, دون العمل بمدلولات الشريعة , فزلَّت أقدامُهم وندموا على ما قضوه من أيامهم في زمنهم الغابر , متابعةً لفلسفات العقول , وزبالات الأذهان .
قال العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله : وقد كان من المعلوم أن مذهب الفلاسفة من أخبث المذاهب، وأنهم من أضل الناس، وأبعدهم عن سلوك الصراط المستقيم، وإتباع سبيل المؤمنين، وإنما غالب علومهم النظر في العقليات، وأما ما كان عليه الرسل وأتباعهم فهم لا يعرفونه، ولذلك كانوا يعارضون ما بلغهم من النقليات بما عندهم من العقليات بآرائهم الفاسدة، وأوهامهم الكاسدة، فليسوا في الحقيقة من أهل الإسلام وعلومهم في شيء , وقد ذهب طوائف من المتكلمين وغيرهم من أهل الإسلام إلى ما وضعوه من العقليات، واستحسنوا ذلك، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ...الخ من كتابه : (إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل) ( 1/48 )
قلت : حتى قال فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي صنفه :
[ أقسام ] اللذات :
نهايةُ إقـدامِ العقـولِ عِقـالُ * * * وغـايةُ سعْـي العـالمين ضـلالُ
وأرواحُنا في وحشةٍ من جُسومنا * * * وحاصلُ دنيـانـا أذىً ووبـالُ
ولم نستفد من بحثنا طـولَ عمْرنـا * * * سوى أنْ جمعنـا فيه : قيل وقالوا
لقد تأمَّلت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلا ًورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات : "الرحمن على العرش استوى" , "إليه يصعد الكلم الطيب" , وأقرأ في النفي : "ليس كمثله شيء" , "ولا يحيطون به علما" , ثم قال : ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي .
(أ هـ بتصرف من شرح العقيدة الطحاوية) (1 / 208)
وكان أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ يقول : يَا أَصْحَابَنَا لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ ، فَلَوْ عَرَفْتُ أَنَّ الْكَلَامَ يَبْلُغُ بِي إِلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْتُ بِهِ . وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ : لَقَدْ خُضْتُ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ ، وَخَلَّيْتُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ ، وَدَخَلْتُ فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ ، وَالْآنَ فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الْجُوَيْنِيِّ ، وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي , أو قَالَ : عَلَى عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ .كما في (شرح العقيدة الطحاوية) (1 / 483)
قلت : ومن شؤم هذا المنهج الذميم أن من أغرق فيه ولو على سبيل الرد على أتباعه أنه ربما لا يسلم منه , ولا يتخلص من آثاره حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد – يعني الغزالي - بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم، فما استطاع . كما في ترجمته من سير أعلام النبلاء .
قلت : وذلك أن الإمام الشافعي رضي الله عنه تكلم على أهل الكلام ومن قلدهم فقال رحمه الله: (حكمي فيهم أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام والعقل فإنهم أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوماً أعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. ومن كان عليماً بذلك ظفر له من الفرقة المستثناة كيف كان حذقهم وفضلهم وعلمهم ,وان من لم يقتصر على ما جاء عن الله ورسوله لم يزدد من الله إلا بعداً , فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم) .كما نقله سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب في (التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق) (1/ 112)
قلت : هذا وإن لهذه النماذج العقيمة والمفاهيم السقيمة والمعايير الذميمة أتباعاً يظهرون في كل جيل ، وأنصاراً يبرزون في كل عقب ، وإن اختلفت مشاربهم وتعددت مساربهم وتغايرت هيئاتهم وطقوسهم إلا أن النتيجة تبقى واحدة , وهي مصادمة الشرع بالآراء الفاسدة , والمفاهيم الكاسدة .
* فهذا عبد الله القصيمي كان آية في الفهم والذكاء والرد على المخالفين فأوغل في الرد على اليهود والنصارى وأرباب الفلسفة بما آتاه الله من قوة الحجة والحافظية , فما زال كذلك حتى داخله الغرور والعجْب فكان يقول :
إذا مشيتُ رأيتُ الناس في أثَري * * *وإنْ وقفتُ فما في الناس من يجري
فكان ذلك سبباً في انتكاسته وانحرافه عن دين الإسلام ، بل بلغت به الحال إلى أنْ يؤلِّف كتباً يطعن بها في الإسلام , ويرد بها عليه , مثل كتابه الأغلال ، أي أن الإسلام قيود وأغلال ، نسأل الله العافية .
هذا , وإنه مما يؤسَفُ له أن يسمى هذا الصنف في عصرنا الحاضر بالمفكِّرين الإسلاميين ، في حين أن فكْرهم مناهض للإسلام ومناقض للعمل بنصوصه الشرعية ، لأن من كليات هذا الدين وأصوله الثابتة الإيمانَ بالغيبيات , وقد امتدح الله أهل الإيمان في أول سورة البقرة بهذه الصفة فقال عنهم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) [البقرة : 3] .
غير أننا نجد أن هؤلاء المفكرين قد سطَّروا ما يخالف عقيدة المؤمنين بالغيبيات .
قلت : أراد أن ينسب إلى مذهب السلف القول في الصفات الإلهية بالتفويض المطلق , فنسب إليهم منهج المفوِّضة , وليس هو بمعتقد أهل السنة , وإنما معتقدهم أنهم يثبتون صفات الله عز وجل , على الوجه اللائق به سبحانه , جمعاً بين النصوص , ويفوِّضون العلم بكيفية تلك الصفات .
* وهذا حسن الترابي الذي يقول عن الحديث الذي أخرجه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الْآخَرِ دَاءً ) هذا كلام رسول الله في أمر طبي آخذ فيه بقول الطبيب الكافر ولا آخذ بقول رسول الله ولا أجد في ذلك حرَجاً البتة)كما في كتابه .
قلت : ولا عجب فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي مسعود البدري مرفوعاً : ( إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ) .
* يقول عن الحديث : الذي أخرجه البخاري ومسلم من طريق عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: (أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِى إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ - قَالَ - فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أَىْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ. قَالَ فَالآنَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ » وهذا لفظ مسلم