تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 23

الموضوع: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

  1. #1

    افتراضي أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    أحْلَى حِكَايَاتِ
    كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ
    .

    مقدمة المؤلف
    هذا كتاب كانت تُرَاودُني نُصوصُه على جَمْعها في مكان واحد منذ أنْ كنتُ فتًى يافِعًا، فقد شُغِفْت قديمًا بتَتبُّع الأخبار والحكايات والقصص الغريبة والعجيبة عن السابقين واللاحقين، وكنتُ أجد في ذلك مُتْعة لا تُقاوَم، وشَهيَّةً لا تنقطع.
    ولا أزال أذكر أنني في سِنِّ الثامنة عشرة أو قبلها كنتُ أجتمع مع أختنا الكبرى «
    أم عمر» وأحمِلُها على تسطير عجائب الحكايات التي كنت أجمعها من كتب شتى، وكانت تتأبَّى عليَّ في أول الأمر لانشغالها بأمور المنزل، لكنني ما كنت أتركها حتى تكتب لي ما أريد ولو اضطررتُ إلى أنْ أدفع لها شيئًا من حقير المال على سبيل المداعبة والتلطُّف كي تستجيب لرغبتي.
    ولا يزال حتى الآن في أدراجي الخاصة مجموعة من الكراريس التي تحتوي على أقاصيص شتى من حكايات العلماء والأدباء والزهاد والأذكياء وغيرهم. وربما سمَّيْتُ كلَّ كُرَّاس أو كراسَيْن باسمٍ خاص على غِرَار التآليف القديمة.
    ففي محفوظي أني سمَّيْتُ بعضها باسم: «
    نسماتُ الأسحار في عجائب الأخبار»، وسمَّيْتُ غيرها بنحو ذلك.
    حتى إذا اشتدَّ
    عُودِي، وأشرَقَتْ في نَيْل المعارف شمسُ وجُودي، واستكثرْتُ من الارْتِشافِ من أنهار الأخبار، واستزَدْتُ من التبَصُّر في عُيون القَصص والآثار، اجتمع لي مما كنتُ أسعى إليه شيئٌ كثير، واتَّسع صدري لحِفْظِ طَرَفٍ من نوادر الأخبار، ولطائف الحكايات والأشعار.
    وقد قوِيَ العزْمُ أخيرًا على استنهاض الهِمَّة في تسطير تلك القصص في نَسَقٍ واحد، وبدأتُ أنشرها في حلقات مترادفة على شبكة المعلومات الدولية، في عدة منتديات عِلْمية وأدَبِيَّة.
    وكان مما قلتُه في ديباجة كلامي في تلك المنتديات:
    « هذا موضوع أكتبه على فترات متقاربة، لأُسجِّل فيه كل شاردة ووارِدة ، مما وقع لي قديمًا وحديثًا أثناء المطالعة، وما اقتَنَصَتْه شِبَاكُ أفكاري من أوْدِيَةِ فنون تلك المعارف الساطِعة.
    وجعلته على غِرَار ( بدائع الفوائد ) للشمس ابن القيِّم، و( الفنون ) لابن عَقِيل الحنبلي، و( الكشكول ) و( المِخْلاة ) كلاهما للبهاء العامِلي، و( جُؤْنَة العطَّار ) لأبي الفيض الغُمَاري، وما جرَى مجْرَى هاتيك المؤلَّفات، وكان على طِراز تِلْكُم المُصَنَّفات.
    وقد قسَّمْتُه أقسامًا، وجعلتُ لرءوس مواضيعه أعْلامًا، ومداخِلَ يَتَطرَّق بها المتصفِّحُ إلى المُجْمَل من أطرافه والمُفَصَّل، وسبيلًا يهتدي به الطالب لأبوابه ويَتوَصَّل ...
    وهي ذي : ( غريبة ) و( عجيبة ) و( نادرة ) و( لطيفة ) و( فائدة ) و( عبرة ) و( داهية ) و(عاصمة ) و( قاصمة ) و( طريفة ) و( مُضْحِكة ) و( مُبْكِتة ) و( موعظة)....
    ولستُ في هذا الموضوع بحمَّالة حَطَب، ولا خائضًا- فيما أُورِدُ- بحور الجُزَاف والعَطَب، بل ننْقُد ما ننْقُل، ونتَثبَّتُ فيما نعمَل، وننْسِبُ كل قول إلى قائله، ونعزو كل حرفٍ إلى لافِظِه، مع التحرِّي في كل ذلك، و النَّصَفَة بين الغُرَماء فيما هنالك ...
    وقد عزمْتُ على كل من يريد أن يغْترِف من سَوَاقي تلك الأنهار، أو يُحصِّل ما شاء من بديعات ما أسطره من أخبار، أن يُشِيدَ بالمَصْدر الذي نهَل منه، ويرفع رأسًا لهذا النهر الذي صدر عنه، إنْ هو احتاج إلى هذا في بعض الأوقات، أو اضطر للنقل منه مرة أو مرات، فيقول مثلا : ( نقلتُ كذا بواسطة كذا ؟ ) فإن من بركة العلم أن يُنْسَب إلى أهله، وعَدَم شُكْرَانِه التفريطُ فيه والقعود عن دَرَكِه .
    ونسأل الله الثبات حتى الممات، ومزيدًا من الأعمال الباقيات الصالحات، فإنه بكل جميل كفيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ... وهذا آوان الشروع في المراد ... ».


    هذا ما قُلْتُه قبل سنوات...
    ثم لمَّا قدَّر الله أن يكون هذا المجموع مطبوعًا بين يدي القُرَّاء، رأيتُ أن أنْتخِب من الحكايات أعجَبَها، وأن أنْتَقِي من الروايات أغرَبَها. مع جملة من الفوائد التي وقفتُ عليها بعد ذلك ورأيت المناسَبةَ ملائِمة لإدراجها فيه.
    حتى إذا تمَّ لي جملة من ذلك جمعْتُه في هذا الكتاب اللطيف الذي هو بين يديك الآن. وإذا رأينا قبولا له –إن شاء الله – فإنا عازمون على جَمْعِ أجزاء أخرى تكون ضمن سلسلة بعنوان:
    ( أحلى الحكايات من كهف الغرائب ومغارة العجائب ).
    ومنهجنا في هذا الكتاب يتلخص في الآتي.
    انْتَخَبْنا فيه جملة من الغرائب والعجائب ومأثور الأخبار والمواقف والقَصص. كل ذلك في إطار التراث العربي القديم والحديث.
    وقد نتدخَّل في صياغة وتوضيح بعض الحكايات أو كثير منها، إلا أننا نُنَبِّه على ذلك بالهامش قبل العَزْو إلى المصادر والمراجع.
    كما قد نتدَخَّل مِرارًا في تفسير المعاني والكلمات، ولكن نجعل كلامنا بين قوسين هكذا: ( .... ) حتى لا يختلط بأصل الحكايات والأخبار المنقولة.
    وأنا سائلٌ اللهَ تعالى أن يتقبل منا سائر الأعمال بقبول
    حَسَن، وأن يُنْبِتَها لنا في غَرْسِ فضْلِه الواسع المُسْتَحْسَن. وأنْ لا يجعل أجْرَنا على أحدٍ من العالمين سُواه، ولا يكون فلاحُنا معقودًا بيَمِين راحمٍ إلا إيَّاه.
    آمِينَ آمِينَ لا أرْضَى بواحِدةٍ ... حتى أُكرِّرَها ألْفَيْنَ آمِينَا

  2. #2

    افتراضي رد: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    هذه كانت مقدمة كتابي الجديد: (أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ). وقد صدر منذ أيام عن (دار الكتاب العربي/القاهرة-دمشق)، وسيكون في معرض القاهرة الدولي القادم إن شاء الله.
    وقد رأيتُ أن أُتْحِف إخواني هنا بسلسلة من حكايات الكتاب كاملة بهوامشها، وربما أذكر قصصًا ليست في الكتاب المشار إلي أصلا، من باب التتمة واستدراك ما فاتني من النظائر.
    وأشترط في هذا الموضوع أن لا أذكر حكاية قد سطرتُها من قبل في موضوعي القديم: (كَهْفُ الغَرَائِبِ، وَمَغَارَةُ العَجَائِبِ ) وهو موجود في هذا المنتدى الشريف وغيره.
    ونستعين بالله أول ما نستعين، والحمد لله رب العالمين.

  3. #3

    افتراضي رد: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    أنا الأمل؟
    حُكِيَ عن شيخ من الصالحين المجاهدين أنه كان يُرابِط (1) بالساحل في صخرة موسى(2) ، فبَيْنا هو على السُّور ينظر إلى البحر فرأى غُرابًا قد انحطَّ على سمكة مطروحة على الشطِّ فأدخل في عين السمكة مِخْلابه ثم اكتحل به!
    قال الشيخ: فتعجبت من ذلك، ثم انحدرت إلى السمكة وأخرجت مِيْلًا (3) فاكتحلتُ من عينها، فرأيت أشياء لم أكن أراها من قبل ذلك! ورأيت عجائب.
    فبينا أنا في بعض الأيام في جنازة وقد وُضِعَتْ وإذا رجل يضحك في وجوه الناس ويتلَهَّى! (4) فكثر ذلك منه، فاغْتظتُ عليه، فلَحقْتُه عند انصراف الناس من الجنازة.
    فقلت: يا عبد الله قِفْ عليَّ.
    فالتفت إليَّ فقال لي: مالَك؟
    فقلت: ما تستحي من الله الناس في الجنازة وأنت تضحك وتتَلَهَّى في وجوه الناس؟ فقال: أنت تراني!
    فقلت: نعم.
    قال: وتُبْصِرُني!
    قلت: نعم. وقد رأيتك تضحك في وجوه الناس.
    فقال: يا هذا أنا الأمل، بعثني الله في هذه الصورة أضحك في وجوه الناس، وما هو ضَحِكٌ وإنما أُسَلِّيهم وأبْسُط لهم الأمل حتى يرجعوا إلى ما كانوا عليه، حتى لا تخرب الدنيا، ولولا ذاك ما عَمَرَت الدنيا، ثم غاب عني.(5) انتهى.
    قلت: لا شك أن الأمل في القادم، ونسيان مآسي الماضي، كلاهما من نِعَمِ الله على عباده، ولولاهما ما استساغ الناس طعامًا ولا شَرابًا!
    وقد ورد عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى». (6)
    «وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أطلعه الله على ما لم يُطْلِع عليه أُمَّتَه، أطلعه على أهوال الآخرة، وعلى أفزاعها وشدائدها، وعلى ما فيها من الآلام والعذاب.
    فالإنسان لو علم ذلك وتفاصيله، وعلم ما بعده لما تلذَّذ بهذه الحياة، ولما تنعَّم بالنعيم الذي فيها، ولما استقرَّت له الحياة على هذه الحال، بل لتكدَّر عليه صفْوُ عيشه، وأفزعه ذلك الذي يعلمه، ولأسهر ليله بالدعاء والعبادة، ولأظمأ نهاره وأتعب جسمه وأنهَكه خوفًا من العذاب.
    وقد ذُكِرَ مثل هذه الأحوال عن كثير من العبّاد الصالحين الذين لا يهنأ لهم المنام، كلما نام أحدهم ونعس قليلًا قام فزِعًا يقول: لم أهنأ بالمنام وأنا أتذكر النار، منعني ذِكْرُ النار من أن أنام نومة كاملة أو نومة مستمرة، أو نحو ذلك.
    هؤلاء هم أهل المعرفة بالله الذين عرفوا أو أيقنوا، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول في هذا الحديث: « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا » أي: لكان بكاؤكم أكثر من ضحككم.
    ومعلوم أن البكاء لا يكون إلا من الخوف، يعني: إنكم ستخافون مما أمامكم خوفًا شديدًا يحملكم على أن لا تهنأوا بالمقام، وأن يكثر بكاؤكم ونحِيبكم خوفًا من سوء العاقبة، ولا تغرنكم زينةُ الدنيا، ولن تضحكوا من المضحكات ولا العجائب ولا غيرها»(7) .
    ---------------------
    (1) المرابطة: هي الإقامة على جِهَاد العَدوّ بالحرب. أو هي رَبْطُ الْغَازِي فَرَسَهُ بِأَقْصَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْتَعِدًّا لِلْجِهَادِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ . وموضع المرابطة، مثل الحِصْن وغيره يقيم فيه الجيش. انظر: «معجم اللغة العربية المعاصرة» [ص/2884] لأحمد مختار عمر، و«النهاية في غريب الحديث والأثر» [2/461]، لابن الأثير, و«طلبة الطلبة» [3/304]، للنجم النسفي.
    (2) صخرة موسى عليه السلام: هي التي نَسِيَ عندها الحوت في قوله تعالى: { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ }. (سورة الكهف: آية: 63). انظر: «معجم البلدان» [3/ 339].
    (3) المِيلُ: هو آلة من خشَب أو فِضَّة أو ريش أو غيره يُكْتَحَل بها عن طريق غمْسِها في المُكْحلة، ثمَّ إمرارها على مواضع الكحل من العين. ويقال له أيضًا: المِرْوَد. انظر: «معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية » [3/263 ].
    (4) يتلهَّى: يعني يفعل أفعال اللاهين والمُهرِّجين! فلعله كان يُشير بيده ويقفز على رجليه!
    (5) قال ابن عساكر في (تاريخه) [68/ 243 - 244]: قرأت بخط أبي نصر عبد الوهاب بن عبد الله المري سمعت الشيخ أبا محمد بن أبي نصر يقول حدثني أبي أن رجلا حدثه كان يصحب ابن جَوْصا عن نفسه أو عن شيخ حدَّثه: «أنه كان يُرابِط بالساحل .... » وساق القصة.
    (6) حديث حسن: أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد وجماعة من حديث أبي ذر الغفاري، وحسَّنه الإمام الألباني في «السلسلة الصحيحة» [رقم/1722]، وفي «صحيح الجامع الصغير» [رقم/4214].
    (7) نقلا: عن «شرح عمدة الأحكام/أشرطة صوتية» للشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جبرين.

  4. #4

    افتراضي رد: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    لِحْية الشيخ جمال الدين!
    قال ابن بطوطة في «رحلته»(1) في وصْف مدينة دمياط:
    «وبها زاوِية الشيخ جمال الدين السَّاوي قُدْوة الطائفة المعروفة بالقَرَنْدَرِيّ َة (2) وهم الذين يحلقون لِحَاهم وحواجِبَهم!
    يُذْكَر أن السبب الداعي للشيخ جمال الدين الساوي إلى حَلْق لحيته وحاجبيْه أنه كان جميل الصورة حسَنَ الوجه، فعلَقَتْ به امرأة (يعني: أحبَّتْه) من أهل ساوة (3) وكانت تُراسِلُه وتعارِضُه في الطرُق، وتدعوه لنفسها، وهو يمتنع ويتهاوَن.
    فلما أعياها أمْرَه دسَّتْ له عجوزًا تصدَّتْ له إَزاء دارٍ على طريقه إلى المسجد وبيدها كتاب مخْتُوم. (يعني: جواب )
    فلما مرَّ بها قالت له يا سيدي: أتُحْسِن القراءة؟
    قال: نعم.
    قالت له: هذا الكتاب وجَّهَهُ إليَّ ولَدِي وأُحِبُّ أنْ تقرأه عليَّ.
    فقال لها: نعم.
    فلمَّا فتح الكتاب قالت له: يا سيدي إن لولدي زوجة وهي باسْطُوان الدار (يعني: في وسط الدار)، فلو تفضَّلْتَ بقراءته بين بابَيِ الدار بحيث تُسْمِعُها؟ فأجابها لذلك.
    فلما توسَّط بين البابين غلقَتْ العجوز الباب، وخرجت المرأة وجواريها فتعلَّقْنَ به وأدخلْنَه إلى داخل الدار، وراوَدتْه المرأة عن نفسه، فلما رأى أنْ لا خلاص له!
    قال لها: إني حيث تريدين ( يعني: أنا تحت أمرك!) فأرِيني بيت الخلاء( يعني: الحمَّام وحيث يقضي الناس حاجتهم) فأرَتْه إيَّاه، فأدخل معه الماء، وكانت عنده مُوسَى ( يعني: حديدة يحلق به شعره ) فحلَق لحيَته وحاجبَيْه وخرج عليها!
    فاستقبحتْ هيئته واستنكرتْ فِعْله! وأمرَتْ بإخراجه، وعَصمَه الله بذلك، فبقى على هيئته فيما بعد، وصار كلُّ مَنْ يسلك طريقته يحلِق رأسه ولحيته وحاجبيه»! انتهى.
    قلت: وهذا من جهْل هذا الشيخ القرندري وجماعته! لأن حَلْقَه للحْيَته وحاجبيه إنما كان لضرورة الفِرار من كيد تلك المرأة، فلمَّا نجَّاه الله منها بأيِّ شيء يتعلَّق بحلْقِه للحيته وحاجبيه بعد ذلك؟ ألا يعلم أن هذا من باب تغيير خلْقِ الله! ألا يدري أنه مأمور شرعًا بتوفير لحْيته وعدم التعرُّض لحواجِبه!
    ولا شكَّ في أنه أحسن التلخص من الوقوع في شِرَاك تلك المرأة اللَّعُوب! وإن كان الله لم يُضّيِّق عليه في مَخْرَج آخرَ غير أن يحلق لحيته وحاجِبه! (4)
    وهلَّا فعل كما فعل الشاب الصالح الذي لقَّبه الناس بـ «المِسْكِي»؟! ذلك الشاب الفقير المتعفِّف! الذي كان مِن خَبَره ما كان، وسارت بحديثه الرُّكْبان! حتى كان عبرة لمن اعتبر، وآية لمن كان له سمعٌ وبَصَر.
    إنْ أردتَّ أن تعرف قصته فانظرها في الصفحة التالية ...
    ----------------------------------------------
    (1) انظر: «رحلة ابن بطوطة» المسماة: «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» [ص/53/بتعليقي/ طبعة دار الكتاب العربي/دمشق].
    (2) القرندرية: هم مجموعة من الدراويش التائهين! كما يقول الأستاذ عبد الهادي التازي في تعليقه على «رحلة ابن بطوطة» [1/199/طبعة أكاديمية المملكة المغربية].
    (3) ساوة: مدينة إيرانية مشهورة.
    (4) كما فعل أبو دهبل الشاعر! فهل تعرف خبره؟ فحكايته قريبة جدًا من هذه القصة التي وقعت للشيخ القرندري، لكن ختام قصته لم يكن فيها حَلْقٌ للحواجب والذقون! بل كانت نهاية سعيدة! حيث عرض أبو دهبل –واسمه وهب بن زمعة الشاعر المشهور ( توفي 63 هـ / 682 م )- على المرأة التي راودتْه الزواج! فقبلتْ على الفور، فتزوجها وأنجب منها عدة أبناء.
    وقصته: أخرجها أبو الفرج الأصبهاني في «الأغاني» [7/ 142 - 143 ]، وابن عساكر في «تاريخه» [63/64]، وأبو جعفر السراج في «مصارع العشاق» [ص/ 43]، وغيرهم.

  5. #5

    افتراضي رد: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    رائحة المِسْك
    كان هناك شاب يبيع البَزَّ (القُماش) ويضعه على ظهره ويطوف بالبيوت، وكان هذا الشاب مستقيم الأعضاء، جميل الهيئة، مَنْ رآه أحبَّه لِمَا حَبَاه الله من جمال ووسامة زائدة على الآخرين ..
    وفي يوم من الأيام وهو يمرُّ بالشوارع والأزِقَّة والبيوت رافعًا صوته ينادي على سِلْعته، إذْ أبصرتْه امرأة فنادته، فجاء إليها، فأمرتْه بالدخول إلى داخل البيت، فلمَّا دنتْ منه وتأمَّلتْ محاسنه أُعْجِبتْ به وأحبَّتْه حبًّا شديدًا.
    فقالت له: إنني لم أدْعُك لأشتري منك .. وإنما دعوتك من أجل محبَّتي لك، ولا يوجد في الدار أحد غيري وغيرك، فهلمَّ إليَّ فقد هيَّأت لك نفسي!
    فلما سمع الشاب ذلك منها بكى وجعل يُذكَّرُها بالله، ويُخوِّفها من أليم عقابه .. ولكن دون جَدْوَى أو فائدة .. بل ما كان يزيدها ذلك إلا إصرارًا ..
    فلما رأتْه ممتنِعًا من الحرام قالت له: إذا لم تفعل ما آمُرَك به صِحْتُ في الناس وقلت لهم: هذا الرجل دخل داري بغير إذني ويريد أن ينال من عِفَّتي دون موافقتي!
    وسوف يُصدِّق الناس كلامي لأنك داخل بيتي .. فلما رأى إصرارها على الإثم والعدوان .. قال لها : هل تسمحين لي بالدخول إلى الحمَّام من أجل النظافة؟ ففرحتْ بما قال فرحًا شديدًا وظنت أنه قد وافق على المطلوب ..
    ودخل الحمام وجسُدُه يرتعش من الخوف والوقوع في وَحَل المعصية.. فالنساء حبائل الشيطان، وما خلى رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما ...
    وجعل يُحَدِّث نفسه: يا إلهي ماذا أعمل؟ دُلَّني يا دليل الحائرين .. وفجأة جاءت في ذهنه فكرة، فذكر الحديث الشريف الصحيح الذي يقول: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظِله» وذكر منهم: « ورجلٌ دعتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله » .. وتذكر المقولة المشهورة: « من ترك شيئا لله عوضه الله خيرًا منه» .. ومقولة: «رُبَّ شهوة تُورِث ندَمًا إلى آخر العمر» ..
    وجعل يقول لنفسه: ماذا سأجْنِي من هذه المعصية غيرأن الله سيرفع من قلبي نور الإيمان ولذَّتَه .. لا لا لن أفعل الحرام .. ولكن ماذا سأفعل؟ هل أرْمي نفسي من النافذة! لا أستطيع ذلك .. فإنها مُغْلقة جدًا ويصعب فتْحُها ..إذًا سأُلَطِّخ جسدي بهذه القاذورات والأوساخ (يعني: غائط الإنسان ) فلعلها إذا رأتْني على هذه الحال تركتْني وشأني ..
    وفعلًا صمَّم على ذلك الفعْل الذي تتقزَّز منه النفوس .. مع أنه يَخْرُج من النفوس !
    ثم بكى وقال : ربَّاه إلهي وسيدي خوْفُك جعلني أعمل هذا العمل .. فأخْلِفْ عليَّ خيرًا.. وخرج من الحـمام.
    فلما رأتْه المرأة صاحتْ به : اُخْرُجْ يا مجنونُ ؟ فخرج خائفًا يترقَّب من الناس وكلامهم وماذا سيقولون عنه .. وأخذ متاعه والناس يضحكون عليه في الشوارع حتى وصل إلى بيته... وهناك تنفس الصُّعَداء وخلع ثيابه ودخل الحمام واغتسل غسلًا حَسنًا ثم ماذا ؟ ..
    هل يترك الله عبده ووليَّه هكذا ... فعندما خرج من الحمام عوَّضه الله شيئًا عظيمًا بقي في جسده حتى فارق الحياة وما بعد الحياة .. لقد أعطاه الله سبحانه رائحة عِطْرِيَّة زَكِيَّة فوَّاحة كعطر المسك تخرج من جسده .. يشُمها الناس على بُعْد عدة مترات.
    وأصبح ذلك لقبًا له: «المِسْكي» فقد كان المسك يخرج من جسده . . وعوَّضه الله بدلًا من تلك الرائحة الي ذهبت في لحظات رائحةً بقيَتْ مدى الوقت .. وعندما مات ووضعوه في قبره .. كتبوا على قبره هذا «قبر المِسْكي».(1)
    قلت: ما هذه القصة ببعيدة عن التصديق، ويُشْبهها قصة ذلك الرجل المسكين في سُجُون طاغية العراق الحَجَّاج بن يوسف الثقفي!؟ فهل تعرف خبره؟ انظره في الصفحة القادمة.
    ----------------
    (1) هذه حكاية مشهورة سمعناها من أفواه المشايخ قديمًا وحديثًا، وبعضهم يزيد منها وينقص! وقد رأيت من يعزوها لبعض كتب ابن الجوزي، ولم أتحقق ذلك الآن. وقد فتشْتُ في مظانها من كتبه فلم أعثر عليها! ولعلي لم أُمْعِن البحث!

  6. #6

    افتراضي رد: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    راوَدَتْه عن نفْسِه فأبَى

    أمر الحجَّاج بن يوسف الثقفي يومًا جُنْده بأن يعرِضُوا عليه ضحاياه في السجون، فجاءوه بِرَجُلٍ فَقَالَ لَهُ: مَا كَانَ جُرْمُكَ؟
    فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَخَذَنِي عَسَعسُ الْأَمِيرِ ( يعني: الشُّرْطة والجنود) وَأَنَا مُخْبِرٌ بِخَبَرِي، فَإِنْ يَكُنِ الْكَذِبُ يُنَجِّي فِالصِّدْقُ أَوْلَى بِالنَّجَاةِ.
    فَقَالَ له الحجَّاج: وَمَا قِصَّتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَخًا لِفُلَانٍ فَضَرَبَ الْأَمِيرُ عَلَيْهِ الْبَعْثَ إِلَى خُرَاسَانَ، (يعني: أرسله إلى خرسان) وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَهْوَانِي وَأَنَا لَا أَشْعُرُ، فَبَعَثَتْ إِلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ رَسُولًا أَنْ قَدْ جَاءَنَا كِتَابُ صَاحِبِكَ فَهَلُمَّ لِتَقْرَأَهُ (تعني: جاءني جواب من زوجي الذي هو صديقك).
    فَمَضَيْتُ إِلَيْهَا فَجَعَلَتْ تَشْغَلُنِي بِالْحَدِيثِ حَتَّى صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَظْهَرَتْ لِي مَا فِي نَفْسِهَا مِنِّي، وَدَعَتْنِي إِلَى الشَّرِّ (يعني: طلبَتْ منها فِعْل الحرام ) فَأَبَيْتُ ذَلِكَ.
    فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَأَصِيحَنَّ وَلَأَقُولَنَّ: إِنَّكَ لِصٌّ!
    قال: فَخِفْتُهَا وَاللَّهِ أَيُّهَا الْأَمِيرُ (يعني بالأمير: الحجَّاج بن يوسف، فقد كان أمير العراق) عَلَى نَفْسِي.
    فَقُلْتُ لها: انتظري حَتَّى يأتيَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا صَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ (يعني: العشاء) خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا هَارِبًا، وَكَانَ الْقَتْلُ أَيْسَرَ عَلَيَّ مِنْ خِيَانَةِ أَخِي، فَلَقِيَنِي عَسَسُ (يعني: الشرطة ) الْأَمِيرِ فَأَخَذُونِي، وَقَدْ قُلْتُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ:
    رُبَّ بَيْضَاءَ بَضَّةٍ ذَاتِ دَلٍّ ... قَدْ دَعَتْنِي لِوَصْلِهَا فَأَبَيْتُ

    لَمْ يَكُنْ شَأْنِيَ الْعَفَافَ, وَلَكِنْ ... كُنْتُ نَدْمَانَ زَوْجِهَا (1) فَاسْتَحَيْتُ

    فعرف صِدَق حديثه، وأمر بإطلاقه (2) . انتهى.
    قلت: قد أضاع هذا الرجل ثوابه عند الله بِشِعْرِه في آخر قصته! إذ أنه اعترف أنه لم يكن من شأنه العفاف! ولكن منَعَه من المعصية أن المرأة هي زوجة صديقه ورفيقِ دَرْبِه! ولو لم تكن كذلك لأغضب ربَّه ووقع في المعصية! لأنه ليس من شأنه العفاف!
    لقد كان أشرف لنفسه أن يفعل مثل ذلك الشيخ الغرناطي بدلا من أن يتهم نفسه بعدم العفاف!
    فهل سمع القارئ بقصة هذا الرجل الغرناطي؟ فلْنقرأ خبره في الصفحة القادمة.
    -----------------------
    (1) ندمان زوجها: يعني صاحبه ونديمه.
    (2) نقلا عن «اعتلال القلوب» [1/ 200] للخرئطي، و«أخبار النساء» [ص/ 52]، لابن الجوزي.

  7. #7

    افتراضي رد: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    حكاية الشيخ الذي قطَعَ ذَكَرَه!
    قال ابن بطوطة في «رحلته» في ذِكْرِ تِعْدَاد المُؤذِّنين بالحرَم المدني الشريف:
    «والشيخ المجاور الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد الغرناطي المعروف بالتَّرَّاس، قديم المجاورة، وهو الذي جَبَّ نَفْسه ( يعني قطع عُضْوَه الرجولي ) خوفًا من الفتنة!
    يُذْكَر أن أبا عبد الله الغرناطي كان خديمًا لشيخ يُسَمَّى عبد الحميد العجمي، وكان الشيخ حسنَ الظن به يطمئن إليه بأهله وماله، ويتركه متى سافر بداره.
    فسافر مرة وتركه على عادته بمنزله فعلَقَتْ به زوجة الشيخ عبد الحميد ( يعني أحبَّتْه ) وراوَدَتْه عن نفسه، فقال: إني أخاف الله ولا أخون مَن ائتمنني على أهله وماله!
    فلم تزل تُراوِده وتعارضه، حتى خاف على نفسه الفتنة وجبَّ نَفَسه ( يعني قطع عُضْوَه الرجولي ) وغُشيَ عليه!
    ووجده الناس على تلك الحالة فعالجوه حتى برِئ، وصار من خُدَّام المسْجِد الكريم ومُؤذِّنًا به ورأسَ الطائفتين، وهو باقٍ بقيد الحياة إلى هذا العهد». (1) انتهى.
    قلت: كأنَّ المخارِج قد ضاقت بهذا الشيخ فلم يجد سبيلًا للهروب من تلك المرأة إلا إهدار ذُكُوريَّته! وهذا من جَهْلِه بالله! لأن الله لم يأمره بذلك في أوقات الفِتَن! وقد كان يمكنه التخلُّص من الوقوع في أُحْبُولة المعصية بطرق أخرى قد أحلَّها الله.
    وأين هو من عبد العزيز علَّام الهندي! ذلك الشاب العفيف النظيف الشريف! الذي اختار الموت بالرصاص على أن يقع في المعصية مع امرأة أخرى لا تخاف الله؟
    فهل يعرف القارئ الكريم قصته؟ انظرها في الصفحة القادمة.
    ---------------------
    (1) انظر: «رحلة ابن بطوطة» المسماة: «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» [ص/ 114/بتعليقي/ طبعة دار الكتاب العربي/دمشق-القاهرة].

  8. #8

    افتراضي رد: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    إني أخاف الله رب العالمين

    في «مذكراته» وهو يحْكِي قصصًا أغرب من الخيال عن أناس عرفهم واجتمع بهم بمدينة الإسماعيلية:
    «وهذا الأخ عبد العزيز علام الهندي الذي يعمل «تَرْزِيًّا»(1) في المعسكر الإنجليزي (يعني بمدينة الإسماعيلية) تدعوه زوجة أحد كبار الضُّبَّاط لبعض الأعمال الخارجية بمهنته.
    لتنفرد به في المنزل، وتُغْرِيه بكل أنواع المُغْرِيات، فيَعِظُها وينصح لها، ثم يُخوِّفُها ويزْجُرها. فتُهدِّد بعكْس القضية تارة (يعني: تريد أن تتهمه بأنه هو الذي تهجَّم عليها!)، وبتصويب المسدس إلى صدْره تارة أخرى! وهو مع ذلك لا يتزحزح عن موقفه قائلا: إني أخاف الله رب العالمين».
    يقول الشيخ البنَّا: «وكم كان جميلا ومُضْحِكًا في وقت واحد أن تُوهِمَه (يعني المرأة ) في إصرار أنها قد قرَّرتْ قتْلَه، وستعتذر عن ذلك بأنه هاجمها في منزلها وهَمَّ بها! وتُصَوِّب المسدس إليه فيغمض عينَيْه ويصرخ في يقين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فتفاجئها الصيْحة! ويسقط المسدس على الأرض! ويُسْقَطُ في يديها ( يعني تنقطع بها الحيلة مع هذا الشاب العنيد! ) فلا ترى إلا أن تدفعه بكِلْتا يدَيْها إلى الخارج، حيث ظل يعْدُو (يعني: يجري ويُسْرِع) إلى دار الإخوان المسلمين». (2) انتهى.

    قلت: هذا هو الثبات على طاعة الله حتى الممات، وهذا الرجل عندي أفضل من جميع مَنْ مضى خبرُهم! كــ: «الشيخ القرندري» و«المِسْكِي» و«الرجل السجِين» وغيرهم!
    لأن فتنة هذا الخياط كانت أشد، ومِحْنَته أعظم. أضاء الله مرقده إن كان قد مات، ولا أظنه الآن إلا في عالم الأموات!
    وأين تلك الهِمَم العالية من هِمَّة الشباب في تلك الأيام! فما هي إلا نظرة واحدة من امرأة تمشي متمايلة الجسم مُتكسِّرَة الخطوات أمام رجل أو فتى إلا وسقط من نَظْرتها على وجهه تحت قدَميْها!
    فكيف لو أشارت إليه بيدها أنْ: «تعالَى»! إذًا لحَمْلَق بعينيه يَمْنَة ويَسْرَة وما صدَّق نفْسه!
    فكيف لو قالت له: «هلمَّ إليَّ فأنت غايتي»! إذًا لوجدتَّه أزْبَدَ وأرْغَى واندلع لسانُه كالكلب يلْهَث عطَشًا!
    وما أجمل ما قاله العلامة الشيخ مصطفى السباعي في كتابه القيم «هكذا علَّمتْني الحياةُ»
    «إذا همَّتْ نفسك بالمعصية فذَكِّرْها بالله.
    فإذا لم ترجع فذَكِّرْها بأخلاق الرجال.
    فإذا لم ترجع فذَكِّرْها بالفضيحة إذا علم بها الناس.
    فإذا لم ترجع فاعلم أنك تلك الساعة قد انقلبتَ إلى حيوان!».(3)
    ------------------------------------
    (1) يعني: خيَّاطًا.
    (2) نقلا عن مذكرات المسمَّاة «مذكرات الدعوة والداعية» [ص/91].
    (3) انظر كتابه النفيس: «هكذا علمتني الحياة» [ص/39/طبعة المكتب الإسلامي].

  9. #9

    افتراضي رد: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    [الزيادات على الكتاب]
    قلت: وقد تجمَّع لديَّ مجموعة لا بأس بها من أنباء جماعة ممن تعرَّضوا لفتنة النساء فعصمهم الله، وقد شرَعْتُ في نَظْمِ تلك الأنْباء في كتابِي الجديد: ( النبأ الأعْظَم بأخبار من راودتْه امرأةٌ عن نفسه فأبَى واسْتَعْصَم)
    ، ولم أقْصُرْه على الرجال وحسب، بل للنساء فيه نصيب معلوم، وقد قسَّمْتُه ثلاثة أقسام:
    1-
    القسم الأول
    : أخبار من ابتلاه الله بذلك من الأنبياء.
    2-
    القسم الثاني
    : أخبار من ابتلاه الله بذلك من الأئمة وأصناف الناس.
    3-
    القسم الثالث: أخبار من ابتلاهن الله بذلك من النساء.

  10. #10

    افتراضي رد: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    تسعة وواحد؟!
    قال ابن بطوطة في (رحلته ) في وصْف مدينة «سِرْمين» بالشام:
    (وأهلها سبَّابون (يعني: شتَّامون ) يُبْغِضون العَشَرة ( يعني العشرة المبشَّرِين بالجنة)(1) ومن العجب أنهم لا يذكرون لفظ العشرة، وينادي سَماسِرَتَهم بالأسواق على السِّلَع، فإذا بلغوا إلى العشرة قالوا: تسعة وواحدا!
    وحضر بها ( يعني بمدينة سرمين ) بعض الأتراك يوما فسمع سِمْسارًا ينادي: تسعة وواحد، فضربه بالدّبُّوس على رأسه، وقال: قُلْ عشرة بالدبوس!
    وبها مسجد جامع فيه تِسْع قِباب، ولم يجعلها عشرة؛ قيامًا بمذهبهم القبيح»(2)! انتهى.

    قلت: كلُّ مَنْ أبغض أحد الصحابة فهو فاسد الاعتقاد! فمن استطال في أعراضهم فهو هالك! أمَّا من كفَّر أحدهم فهو خارج من دائر الإسلام جملة!
    ولا شك أن «أشد الناس محاربة لله مَنْ عادى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسبَّهم وتنقَّصَهم، وقد صارت مُعاداة الصحابة وسبُّهم دِينًا وعقيدة عند بعض الطوائف الضالة!
    نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه، ونسأله العفو والعافية، فإن الله تبارك وتعالى قد اختار نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- واختار له أصحابا وأصهارًا مدحهم في كتابه الكريم في مواضع عديدة، وأثنى عليهم وأرشد إلى فضْلهم، وبيَّنَ أنهم خير الأمم رضوان الله تعالى عنهم» (3) .
    «فإياك إياك يا محبَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تُبْغِض أصحابه فتكون مبغِضًا لرسولك -صلى الله عليه وسلم- فيا خسارتك ويا سوء عاقبتك إنْ كنت تُبْغض نبيك محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بل عليك يا مَنْ أحببتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تحب مَنْ أحب حبيبك ومَنْ أمرك بحبِّه، فلقد كان -صلى الله عليه وسلم- لا يحب إلا طَيِّبًا ولا يأمر إلا بحب الطَّيِّبين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
    ولتعلم يا عبد الله أن سب صحابة نبيك -صلى الله عليه وسلم أعظمُ جُرْمًا من بُغْضِهم، فأدْنَى أحوال السابِّ أن يكون مُبغِضًا، فلتحذر من ذلك ولتتأمل قول نبيك -صلى الله عليه وسلم- : «لا تَسبُّوا أصحابي» (4) فستجد فيه النهي الواضح منه عن سبِّ أصحابه رضوان الله تعالى عنهم ». (5).
    ---------------------------------------
    (1) وهم: الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأبو عبيد ابن الجراح. رضي الله عنهم أجمعين.
    (2) انظر: «رحلة ابن بطوطة» المسماة: «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» [ص/ 76/بتعليقي/طبعة دار الكتاب العربي/دمشق].
    (3) نقلا –ببعض التصرف- عن «الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد» [ص/ 298] للشيخ صالح بن فوزان آل فوزان.
    (4) حديث صحيح: أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري به.
    (5) نقلا –ببعض التصرُّف- عن «أوجز الخطاب في بيان موقف الشيعة من الأصحاب» لأبي محمد الحسيني.

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    الدولة
    أكناف بيت المقدس
    المشاركات
    137

    افتراضي رد: أحْلَى حِكَايَاتِ كَهْفِ الْغَرَائِبِ ومَغَارَةِ العَجَائِبِ.

    كتب الله أجرك
    يا رب : إليك وإلا لا تشد الركائب وعنك وإلا فالمحدث واهم وفيك وإلا فالغرام مضيع

  12. #12

    افتراضي

    التوأمَان المُلْتَصِقان
    قال ابن الجوزي:
    «ذكر جماعة كثيرة العدد من أهل الموصل وغيرهم من الموثوقين بهم، ويقع لنا العلم بصحة ما حدَّثُوا به لكثرته وظهوره وتواتره، أنهم شاهدوا بالموصل سنة ثلثمائة وأربعين رجلين أرسلهما صاحب مدينة «أرمينية» إلى ناصر الدولة للأعجوبة منهما.
    وكان لهذين الملْتَصقَيْن نحوًا من ثلاثين سنة وهما مُلْتزِقان من جانب واحد، وكان معهما أبوهما فذكر لهم أنهما وُلِدا كذلك توأمًا، تراهما يلبسان قميصين وسِرْوالَيْن كل واحد منهما لباسهما مُفْرَد، إلا أنهما لم يكن يمكنهما لالتزاق كتفيْهما وأيديهما فى المشْي لضيق ذلك عليهما، فيجعل كل واحدِ منهما يده التى تلِي أخاه من جانب الالتزاق خلْف ظهر أخيه ويمشيان كذلك.
    وهما يركبان دابة واحدة ولا يمكن أحدهما الانصراف إلا أن ينصرف الآخر معه، وإذا أراد أحدهما الغائط قام الآخر معه وإنْ لم يكن محتاجًا، وأنهما لَمَّا وُلِدا أراد أن يُفرِّق بينهما فقيل له: إنهما يتوفَّان لو فعلتَ ذلك، لأن التزاقهما من جانب الخاصِرة، وأنه لا يمكن أن يَسْلَما من الأذى، فترَكَهما أبوهما.
    وكانا من المسلمين فعطف عليهما السلطان ناصر الدولة وخَلَع عليهما بجائزة قيِّمة، وكان الناس بالموصل يذهبون إليهما فيتعجبون منهما ويَهَبُون لهما بعض الأموال!
    وقد ذكر جماعة أنهما خرجا إلى بلدهما فاعتلَّ أحدهما وأصابه مرض فمات، وبقَى الآخر أيامًا حتى خرجت رائحته وبدأ في التحلُّل، وأخوه حَيٌّ لا يمكنه التصرُّف، ولا يمكن أبوهما أن يدفن الميت منهما!
    إلى أن أُصِيبَ الأخر الحيُّ بمرض من الغمِّ والرائحة الكريهة المنبعثة من أخيه، فمات أيضًا، وهنا قام أبوهما بدفنهما جميعًا، وكان السلطان ناصر الدولة قد جمع لهما الأطباء وقال: هل من حيلة فى الفصْل بين الأخويْن؟
    فسألهما الأطباء عن الجوع هل تجوعان فى وقت واحد؟
    فقال أحدهما: إذا جاع الواحد منا فإن الآخر يجوع بعده بشيء يسير من الزمان، وإنْ شرب أحدنا دواء مُسَهِّلًا انحلَّ طبْعُ الآخر بعد ساعة (يعني: جرتْ بطنه وأصابه الإسهال!)، وقد يلحق أحدنا الغائط (يعني: إذا احتاج للذهب إلى الخلاء لقضاء حاجته) ولا يلحق الآخر، ثم يلحقه بعد ساعة.
    وقد نظرالأطباء فيهما وقام بفحْصِهما فإذا لهما جوف واحد، وسُرَّة واحدة، ومَعِدة واحدة، وكبد واحد، وطحال واحد، وليس من الالتصاق أضلاع فعلموا أنهما لو تمَّ فصْلُهما ماتا من ساعتهما.
    وكان هذان التوأمان ربما وقع بينهما خلاف، ويتشاجران فيتخاصما أعظم خصومة حتى ربما حلف أحدهما أنه لن يُكلِّم الآخر أيَّامًا! ثم بعد ذلك يصطلحان (1)
    حول القصة:
    قلت: لعل هذه الحادثة قد تكررت كثيرًا في الأزمان الغابرة، لكن قصَرَتِ الهِمَم عن نقْلِها لعدم توافر وجود آلات النقل المرئية والمسموعة والمقروءة المتاحة الآن في هذا العصر، ولذلك فقد شاهدنا الكثير من هذه التوائم الملتصِقة في هذا الزمان، ورأينا ذلك وسمعنا به وقرأنا عنه ساعة بساعة. وذلك من آيات الله يبثُّها في خلْقِه متى شاء.
    -------- الحاشية ----------
    (1) نقلا - ببعض التصرف والإيضاح- عن «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة» [4/ 240 - 241]، ومن طريقه ابن الجوزي في «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» [14/ 151]: «أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا عليّ بن المحسّن التنوخي، عن أبيه، قال: حدّثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، وأبو عمر أحمد ابن محمد الخلّال، قالا: حدّثنا جماعة كثيرة العدد من أهل الموصل وغيرهم» وساق القصة.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    المشاركات
    10,732

    افتراضي

    جزاك الله خيرا يا أبا المظفر
    لا إله إلا الله
    اللهم اغفر لي وارحمني ووالديّ وأهلي والمؤمنين والمؤمنات وآتنا الفردوس الأعلى

  14. #14

    افتراضي

    مُحَدِّث له وجْهُ حمار!
    يُحْكَى أن بعض علماء الحديث الشريف رحل إلى دمشق لأخذ الحديث عن شيخٍ مشهورٍ بها، فقرأ عليه جملة، لكنه كان يجعل بينه و بينه حجابًا، ولم ير وجهه، فلما طالتْ ملازمتُه له، ورأى حرصه على الحديث، كشف له السِّتْر، فرأى وجهه: وجه حمار، فقال له: احذر يا بُنيَّ أن تسبق الإمام، فإني لَمَّا مرّ بي في الحديث استبعدتُ وقوعه، فسبقتُ الإمام، فصار وجهي كما ترى (1)
    حول القصة
    قلت: قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ - أَوْ: لاَ يَخْشَى أَحَدُكُمْ - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ، أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ» (2)
    وقد اختلف العلماء حول ظاهر هذا الحديث! فذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالتحويل هنا هو شيء معنوي غير حقيقي، يعني أن المراد من الحديث: هو النهي عن مسابقة الإمام في أفعال الصلاة، من الركوع والرفع منه والسجود والرفع منه وغير ذلك.
    وذهب كثير من العلماء إلى أن الحديث على ظاهره، وأن الله إذْ توعَّد بأن يجعل من يخالف الإمام في أفعال الصلاة صورته صورة حمار، أو رأسه رأس حمار فهو صادق لا محالة. فلا رادَّ لحُكْمِه، ولا مُعَقِّب لقضائه.
    فإن قيل: قد رأينا من يخالف الإمام في بعض أفعال الصلاة، ومع ذلك لم نره انقلب حمارًا! أو أصبح رأسه رأس حمار!
    فالجواب: أن عدم الوجود ليس دليل العدم! يعني أن عدم رؤيتنا لهذا الذي صارت صورته صورة حمار أو رأسه رأس حمار لا يدل على كونه لم يتحول إلى حمار في الأصل! فقد يكون هناك من رآه ولم يذكر ذلك لأحد، لأنه أراد الستر عليه وعدم فضْحِه بين الناس!
    وقد يكون هناك مَنْ تحوَّل إلى حمار ولم يشعر به أحد! فليس في الحديث السابق أن المَسْخ المذكور سيقع على صاحبه مباشرة! بل ربما صار المخالف لإمامه حمارًا بعد خروجه من المسجد أو المُصَلَّى إلى زمن غير معلوم.
    فقد ينقلب حمارًا في الطريق فلا يشعر به الناس لانشغالهم بأمور معاشهم! وربما ينقلب أمام إنسان فلا يُصَدِّق نَفْسَه ويظن أن في عينه شيئًا! هذا مُحْتَمَل كما ترى.
    وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه سيكون في هذه الأمة مسْخ لبعض أبنائها بسبب الذنوب والمعاصي. فالمسْخ حقيقة واقعة.
    فالحاصل: أن جواز أن يوجد رجل ممسوخ، أو امرأة ممسوخة، بين الناس في الماضي والحاضر: هو أمر غير منكر ولا مستبعد!
    لكن أكثر الحكايات في هذا لا تكون صحيحة! لعدم وجود الدلائل الصحيحة على ذلك.
    ومنها تلك القصة هنا! فقد أنكر وقوعها بعض العلماء وذكر أسبابًا قوية على ذلك (3).
    لكنه لم ينكر ثبوت المسخ في حق بعض الناس! بل أيَّده وأثبت وقوعه.
    وقد شاهدنا في هذا العصر صور ومرئيات فيها أُناس ممْسوخوين في صورة خنزير أو حمار أو أسد أو غير ذلك من الحيوانات! وعندما تحققتُ من ذلك وجدتها ألاعيب لبعض المُهرِّجين.
    كالصورة المشهورة للفتاة الخليجية التي تحولت إلى خنزير لكونه استهزأتْ بالقرآن الكريم وشتمَتْ أمها!
    --------- الحاشية ----------
    (1) نقله الشيخ مشهور حسن سلمان في كتابه النافع «القول المبين في أخطاء المصلين» [ص 252 / طبعة ابن عفان] عن صاحب «فتح الملهم شرح صحيح مسلم» [2/ 64] أنه قال - وهو بصدد شرح حديث: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يُحوِّلَ اللهُ رأسَه رأسَ حمار».
    قال: (قال ابن حجر عن بعض المحدّثين: .... ) وذكر الحكاية.
    قلتُ: هذه حكاية منقطعة عمن لا يُدْرى مَنْ هو؟ وقد طال تتبُّعِي لها في كتب ابن حجر المطبوعة فلم أقف لها على أثر؟!
    ثم رأيت الشيخ مشهور قد عاد وذكر تلك القصة في كتابه: «قصص لا تثبت» [8/ 263 - 267/طبعة دار الصميعي] ثم قال: «انطلى عليَّ أمر هذه القصة في كتابي: «القول المبين في أخطاء المصلين» وانتشرتْ بسبب ذكري لها فيه، ولم أتبيَّن حينئذٍ مصدرها، وكنت أظن أن ابن حجر هو العسقلاني، حتى يسَّر الله لي نسخة خطِّيَّة محفوظة في مكتبة «شستربتي» بأيرلندا لابن حجر الهيتمي بعنوان: «الإجازة في علم الحديث» وفيها [ق3/أ-ب]، تعليقًا على حديث: «نضَّر الله امرأً سمع مقالتي» وأن جميع وجوه أهل الحديث منضَّرة جميلة، ثم قال .... ». وساق كلام ابن حجر لتلك القصة في سياق أتم.
    ثم نقل عن أبي الفيض الغماري في كتابه «جُؤْنة العطار» أنه أنكر تلك القصة إنكارًا بليغًا، وأجاد في ذلك جدًا، وكان من قوله: «وأما الحكاية فما أراها إلا خرافة من وضْعِ القُصَّاص ... ».
    (2) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري [رقم/ 691]-واللفظ الماضي له- ومسلم [رقم/ 427]، من حديث أبي هريرة به ...
    (3) انظر كلامه في كتاب: «قصص لا تثبت» [8/ 263 - 267/طبعة دار الصميعي] للشيخ الفاضل البحاثة مشهور حسن سلمان.

  15. #15

    افتراضي

    نساء ظَلَلْنَ عشرات الأعوام لا يأكُلْنَ ولا يَشْرَبْن!
    قلتُ: وقع ذلك في حكايات ثابتة صحيحة لا مطعن فيها، نقلها الثقات الأُمَناء عن مثلهم شاهدوا طائفة من النساء مَكثْنَ عشرات الأعوام لا يأكلن ولا يشربن!
    وهذا الأمر لا يخص النساء وحدهم! بل وقع أيضًا لجماعة من الرجال. إلا أنه في النساء أشهر منه في غيرهن! ومن هاتيك النِّسْوة:
    1 - رحمة بنت إبراهيم الخوارزمية (1)
    قال إمام أهل اللُّغَة في زمانه عيسى بن محمد بن عيسى الطهماني: «رأيت بخوارزم امرأة لا تأكل ولا تشرب، ولا تَرُوث. عاشت كذلك نَيِّفًا (2) وعشرين سنة».
    قال الإمام الذهبي: «سُقتُ قصتها في «تاريخ الإسلام»، وهي رحمة بنت إبراهيم، قُتِل زوجها، وترك ولَدَيْن، وكانت مسكينة، فنامت فرأت زوجها مع الشهداء، يأكل على موائد، وكانت صائمة، قالت: فاستأذنهم، وناولني كسرة، أكلتها، فوجدتها أطيب من كل شيء. فاستيقظت شَبْعَانة واستمرَّتْ. وهذه حكاية صحيحة، فسبحان القادر على كل شيء». (3)
    قلتُ: ونحن نسوق تلك القصة العجيبة كاملة حتى يقف القارئ على عجيب قُدرة الله في خلْقه، وأنه سبحانه وتعالى لا تحول دون مراده الأسباب! بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأمره لشيء إذا أراده أن يقول له: كُنْ فيكون.
    قال الإمام عيسى بن محمد بن عيسى الطهماني:
    «إنّ الله يُظْهِر إذا شاء ما شاء من آياته، فيزيد الإسلام بها عِزًّا وقوّة، وإنّ ممّا أدركنا عَيَانًا، وشاهدناه في زماننا أنْ وَرَدْتُ «عان» (عان: هو اسم مدينة.) مدينةً من مدائن خوارزم، بينها وبين المدينة العُظْمَى نصفَ يوم.
    فأُخْبِرْتُ أنّ بها امرأة من نساء الشُّهداء رأتْ رؤيا كأنها أُطْعِمَتْ في منامها شيئًا، فهي لا تأكل ولا تشرب منذ عهد عبد الله بن طاهر (4)، ثمّ مررتُ بها سنة اثنتين وأربعين، فرأيتها وحدَّثتْني بحديثها، ثمّ رأيتُها بعد عشر سنين مشْيَتُها قوية، وإذا هي امرأة نَصَف (يعني: متوسطة العمر. فلا هي صغيرة ولا هي كبيرة.) جيدة القامة، حَسنة البِنْية، مُتَورِّدة الخَدَّيْن، فسايرَتْني وأنا راكب. فعرَضْتُ عليها مَرْكبًا، فأبَتْ وَبَقِيَتْ تمشي معي.
    وحضرتُ مجلس محمد بن حَمْدَوَيْه الحارثيّ، وهو فقيه قد كتب عنه موسى بن هارون (5)، وَكَهْلٌ له عبارة وبَيَان يُسَمّى: عبد الله بن عبد الرحمن، وكان قد تخلَّف (يعني: جلس وقعد.) أصحاب في ناحيته، فسألتهم عنها، فأحسنوا القول فيها، وأثنوا عليها، وقالوا: أمرُها ظاهر، ليس فينا مَنْ يختلف فيه.
    قال عبد الله: أنا أسمع أمرها من أيَّام الحَدَاثة (يعني منذ كنت صغيرًا.)، وقد فرَّغْت بالي لها، فلم أر إلّا ستْرًا وعَفَافًا. ولم أعثر على كذِب في دعواها. وذكر أنّ مَنْ كان يَلِي خوارزم كانوا يُحْضِرونها الشَّهر والشَّهْرين في بيتٍ، ويُغْلِقون عليها.
    قَالَ: فلمّا تواطأ أهل النّاحية على تصديقها سألتُها، فقالت: اسمي رَحْمة بنت إبراهيم، كان لي زوج نجّار يأتيه رزقه يومًا فيومًا. وأنّها وَلدَتْ عدّة أولاد.
    وجاء الأقْطَع (6) ملك التُّرْك الغَزّيّة، فعَبَر الوادي عند جموده إلينا في زُهَاء (الزُّهاء: هو الأمر المتقارب. وهي بمعنى كلمة: «حَوَالَيْ»). ثلاثة آلاف فارس.
    قَالَ الطَّهْمانيّ: والأقطع هذا كان كافرًا عاتِيًا، شديد العداوة للمسلمين، قد أثَّر على أهل الثُّغور، وألح عن أهل خُوارزم، وكان وُلاةُ خُوارزم يتألَّفونه، ويبعثون إليه بمالٍ وأَلْطاف. وأنه أقبل مرّةً في خيوله، فعاثَ وأفسدَ وقتل، فأنهض (يعني: بعث وأرسل.) إليه ابن طاهر (7) أربعةً من القُوَّاد.
    قالت المرأة: فعبَرَ الكافر، وصار إلى باب الحُصَيْن (8)، فأراد النّاس الخروجَ لقتاله، فمنعهم العامل دون أن يَتَوَافَى العسكر. فشدَّ طائفة من شُبَّان الناس، فتقاربوا من السُّور، وحَمَلُوا على الكَفَرَة، فتهازموا، واسْتَجَرُّوهم بين البيوت، ثمّ كَرُّوا عليهم، فحاربوا أشدَّ حرْب، وثبَتُوا حتّى تقطّعت الأوتار، وأدركهم اللُّغوب (اللغوب: هو التعب والإرهاق) والجوع والعَطَش، وقُتِل عامَّتُهم، وأُثْخِن (يعني: أُصِيبَ وجُرِح.) مَنْ بقي. فلمّا جنّ عليهم اللّيل، تحاجَزَ (يعني: توقفوا عن أماكن القتال.) الفريقان.
    قالت: ورفعت النّيران من المناظر ساعة عُبُور الكافر (9)، فاتّصلت بجُرْجَانية خُوارزم، وكان بها ميكال (10) مولى طاهر في عسكر، فخفَّ وركض (يعني: أسرع.) إلى حِصْننا في يومٍ وليلة أربعين فرسخًا (11)، وغدا التُّرْك للفراغ من أمْر أولئك.

    (تابع بقية القصة....)

    ------ الحاشية ----------
    (1) ترجم لها القزويني في كتابه «آثار البلاد وأخبار العباد» [ص/234] فقال: «رحمة بنت إبراهيم ... المشهورة بأنها ما تناولت ثلاثين سنة طعامًا. وحكى أبو العباس عيسى المروزي أنها إذا شمَّتْ رائحة الطعام تأذَّت، وذكرت أن بطنها لاصق بظهرها، فأخذت كِيسًا فيه حَبُّ القُطْن وشدَّتْه على بطنها لئلا يقْصِف ظهرها، وبقيتْ إلى سنة ثمان وستين ومئتين».
    (2) النَّيِّفُ في اللغة: من واحدة إلى ثلاث. و لا يقال: ( نَيِّفٌ ) إلا بعد عقد نحو عشرة ونيّف ومائة ونَّيف وألف ونيّف.
    (3) ذكر ذلك الإمام الذهبي في ترجمة «عيسى بن محمد الطهماني المروزي» من «سير أعلام النبلاء» [13/ 572].
    (4) عبد الله بن طاهر (182 - 230 هـ = 798 - 844 م): هو أمير خراسان في ذلك الزمان. وكان ومن أشهر الولاة في العصر العباسي.
    (5) هو أحد كبار علماء الحديث في الإسلام.
    (6) الأقْطَع: هو لقب ملك ظالم غزا بلاد خوارزم وقتل أهلها كما سيذكر راوي القصة.
    (7) هو أمير خرسان عبد الله بن طاهر.
    (8) يبدو أنه اسم لمكان كان معروفًا عند تلك المرأة.
    (9) تقصد بالكافر: ذلك الأقطع الملك الظالم المعتدي.
    (10) ميكال: هو اسم قائد عسكري من قُوَّاد الأمير عبد الله بن طاهر.
    (11) الفرسخ: حوالي 5544 مترًا. كما ذكره صاحب: «تعريفات ومصطلحات فقهية في لغة معاصرة» لعبد العزيز عزت عبد الجليل حسن.

  16. #16

    افتراضي


    بقية
    : نساء ظَلَلْنَ عشرات الأعوام لا يأكُلْنَ ولا يَشْرَبْن!
    فبينا هم كذلك إذا ارتفعت بهم الأعلام السُّود (1)، وسمعوا الطُّبول، فأفرجوا عن القوم، ووافَى ميكال موضعَ المعركة، فارتَثَّ القتلى (يعني: حملهم من أرض المعركة.)، وحَمَل الجَرْحَى، ودخل الحِصْن عشيّئذ (يعني: عشية ذلك اليوم.) زهاء أربعمائة جَنَازة.
    وارتجَّت الناحية بالبكاء والنَّوْح، وَوُضِع زوجِي بين يَدَيَّ قتيلًا، فأدركني من الجَزَع والهَلَع عليه ما يُدرِك المرأة الشّابّة المسكينة، على زوج أبي أولاد، وكاسِب عيال.
    فاجتمع النّاس من قَرَاباتي والجيران، وجاء الصِّبْيان، وهم أطفال يطلبون الخُبْز، وليس عندي ما أعطيهم، فَضِقْتُ صَدْرًا، فَنِمْتُ، فرأيت كأنّي في أرض حسناء ذات حجارة وشَوْك، أَهِيمُ فيها وَالِهَةً (يعني: أسير فيها تائهة.) حُزْنًا أطلب زوجي؟
    فناداني رجل: خُذِي ذات اليمين.
    فأخذتُ، فَرُفِعَتْ لي أرض سهْلة الثَّرَى (يعني: أرض مستوية يسهل المشي فيها.)، طيّبة العُشْب، وإذا قصور وأبنيةٌ لا أُحْسِنُ أن أَصِفُها، وأنهار تجري من غير أخاديد (2)، فانتهيت إلى قوم جُلُوس حِلَقًا، عليهم ثيابٌ خُضْر، قد علاهم النُّور، فإذا همُ الّذين قُتِلوا، يأكلون على موائد. فجعلت أبغي زوجي (3)، فناداني: يا رَحْمة، يا رَحْمة. فيمَّمْتُ الصَّوت (4)، فإذا به في مِثْل حال الشُّهداء، ووجْهُه مثل القمر ليلة البدْر، وهو يأكل مع رِفْقة.
    فَقَالَ لهم: إنّ هذه البائسة جائعة منذ اليوم، فتأذنون أن أُناولها؟
    فأذِنوا له، فناولني كِسْرةً أبيضَ من الثّلج، وأحْلَى من العَسَل، وألْينَ من الزُّبْد، فأكلتُها. فلمّا استقرّت في جوفي قَالَ: اذهبي. فقد كفاك الله مَئونة الطّعام والشّراب ما حَييتِ.
    فانتبهت وأنا شَبْعَى رَيًّا، لا أحتاج إلى طعام ولا إلى شرابٍ، فما ذقتُهما إلى الآن.
    قَالَ الطَّهْمانيّ: وكانت تحضُرنا، وكنّا نأكل، فتتنحَّى، وتأخذ على أنْفها (يعني تضع يدها على أنفها.)، تزعم أنّها تتأذَّى برائحة الطّعام، فسألتها: هل يخرج منك رِيح؟ قالت: لا.
    قلت: والحيض؟، أظنها قالت: انقطع.
    قلت: فهل تحتاجين حاجة النساء إلى الرجّال؟ (5)
    قالت: أمَا تستحي منّي، تسألني عن مثل هذا؟
    قلت: لعلِّي أُحدِّث النّاس عنكِ.
    قالت: لا أحتاج.
    قلت: فتنامين؟ قالت: نعم.
    قلت: فما تَرَيْن في منامك؟
    قالت: مِثْل النّاس.
    قلت: فتَجِدين لفَقْد الطَّعام وَهَنًا في نفسك؟
    قالت: ما أحسسْتُ بالجوع منذ طَعِمْتُ ذلك الطّعام.
    وكانت تَقْبل الصَّدَقة، فقلت: ما تصنعين بها؟
    قالت: أكْتَسي وأكْسِي ولدي.
    قلت: فهل تجدين البْرْد؟
    قالت: نعم.
    قلت: فهل يُدركُك اللُّغُوب والإعياء إذا مشِيتِ؟
    قالت: نعم، ألستُ من البَشَر؟
    قلت: فتتوَضِّين للصّلوات؟
    قالت: نعم.
    قلت: ولِمَ؟
    قالت: أمرني بذلك الفقهاء.
    فقلت: إنهم أفتوها على حديث «لا وضوء إلا من حدَثٍ أو نَوْم» (6)
    وذُكِرَ أنّ بطنها لاصِق بظهرها! (يعني: أن قَوامَها الأعلى ضعيف جدًا! فلا يكاد يُعْرَف لها بطن من ظهر!)
    فأمرتُ امرأةً من نسائنا، فنظَرَتْ، فإذا بطنها كما وصَفَتْ، وإذا قد اتّخذت كِيسًا وشدَّتْه على بطنها كي لا ينقَصِف ظهرها إذا مَشَتْ.
    قَالَ: ثمَ لَمْ أزل اختلف إلى هزاراسب (هي مدينة مشهورة بخوارزم.) بين السنتين والثلاث فتحضرُني فأعيد مسألتها، وهي تتكلم بلغة أهل خُوارزم، فلا تزيد في الحديث، ولا تنقص منه.
    فعرضتُ كلامها كله على عبد الله بن عبد الرحمن الفقيه، قَالَ: أنا أسمع هذا الحديث منذ نشأْتُ، فلا أرى مَنْ يدْفعه (يعني: من يُكَذِبه، لكونه كلامًا صادقًا مشهورًا.).
    وأجريْتُ ذِكْرها لأبي العبّاس «أحمد بن محمد بن طَلْحة بن طاهر» والِي خُوارزم في سنة ستِّ وستّين (يعني: ومئتين. 266 للهجرة).
    فَقَالَ: هذا غير كائِن (يعني: هذا أمر مستحيل!).
    قلت: فالأمر سهل، والمسافة قريبة. فَأمُرْ بها، فَتُحْمَلُ إليك، وتمتحنُها بنفسك.
    فأمرني، فكتبت عنه إلى العامل، فَأَشْخَصها على رِفْق (يعني: جاء بها إليه.). فأخبرني أبو العبّاس أحمد أنّه وكّل أُمَّه دون النّاس بمُرَاعاتها، وسألها أن تسْتَقْصي عليها، وتتفقَّدها في ساعات الغَفَلات. وأنّها بقِيَتْ عند أمّه نحوًا من شهريْن، في بيتٍ لا تخرج منه، فلم يَرَوْها تأكل ولا تشرب. وكثُرَ من ذلك تَعَجُّبُه، وقال: لا يُنْكَرُ لله قُدْرَة.
    وَبَرَّها (يعني: أعطاها مالًا وهدايا.) وصَرَفها، فلم يأتِ عليها إلّا القليل حتّى ماتت، رحمها الله»(7)
    حول القصة:
    قلتُ: وهذه قصة صحيحة ليس فيه خَدْشة! إلا أن تكون تلك المرأة من الدجاجلة الذين يحتالون للكذب على الناس! والأصل في المسلمين خلاف هذا الظن الكاذب! خصوصًا وقد أثنى عليها غير واحد من أُمَناء مدينتها، كما سبق في أول حكايتها ...
    ثم ما جرى لها: قد جرى لغيرها كما يأتيك خبرُه الآن! وكرامات الأولياء والصالحين من المؤمنات والمؤمنين، فيها أعظم من حكاية تلك المرأة ومثيلاتها، بل وأجلُّ من ذلك وأكثر خَطرًا كما سوف نأتيك بجُمَلِها تِباعًا بعون الله وتوفيقه ...

    (تابع بقية القصة......)

    ------- الحاشية -------
    (1) الأعلام السود: هي رايات بني العباس. وتعني بها قدوم جيش الأمير ميكال.
    (2) الأخاديد: جمْعُ «أخدود» وهو الشَّقُّ المستطيل في الأرض.
    (3) يعني: أبحث عن زوجي.
    (4) يعني: بحثت عن مصدر الصوت.
    (5) يعني: هل تشعرين بشهوة نحو الرجال!
    (6) يعني: أفتاها الفقهاء بالوضوء لكونها كانت تنام، والنوم -كما هو معروف- من نواقض الوضوء.
    (7) قد ساق الذهبي قصة تلك المرأة مطوَّلة في عدة ورقات من «تاريخه الكبير» [22/ 218 - 221/طبعة دار الكتاب العربي]، وكذا ساقها التاج ابن السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» [8/ 8 - 15 / طبعة عيسى الحلبي] وكلاهما نقلاها من «تاريخ نيسابور» لأبي عبد الله الحاكم صاحب «المستدرك على الصحيحين».

  17. #17

    افتراضي

    ومن تلك النسوة أيضا:
    2 - عائشة بنت عبد الله بن عاصم الأندلسية:
    قال الإمام الذهبي عنها: «أقامت عشرين سنة وأزيد لا تأكل شيئا البتة، وأمْرُها فى ذلك شائع لا ريب فيه ... وكانت مقيمة بغُرْفة لها بأعلى الجامع المُعلَّق بالجزيرة الخضراء بالأندلس.
    ماتت سنة 705 للهجرة، وذكر الشيخ عز الدين الفاروثي أن امرأة كانت بناحية «واسط» أقامت مُدَّة مثل هذه لا تأكل شيئًا وذلك بعد (سنة ست مئة للهجرة)، وأخرى كانت فى دولة المعتضد بخوارزم وقصتها صحيحة ذكرها الحاكم فى تاريخ نيسابور ... » (1)
    وقال الإمام الصفدي (2): «عائشة بنت أبي عاصم وخالة القائد الأجَلِّ أبي إسحاق ابن بلال، وهي أندلسية تُعْرَف بالصائمة؛ بَقِيَتْ أزْيَدَ من عشرين سنة لا تأكل شيئًا قط».
    3 - المرأة الواسِطِيَّة:
    قال الذهبي عنها: «ذكر الشيخ عز الدين الفارُوثِي أن امرأة كانت بناحية «واسِط» (3) أقامت مُدة مثل هذه (يعني: مثل رَحْمة بنت إبراهيم السابقة) لا تأكل شيئًا، وذلك بعد سنة ست مئة للهجرة». (4)
    4 - ومنهن المرأة التِّلْمِسانيَّ ة:
    التي يحكي خبرها صاحب كتاب «المحاضرات» (5) فقال: «ورَدَتْ على تلمسان في العشرة الخامسة من المائة الثامنة امرأةٌ من «رندة» (6) لا تأكل ولا تشرب ولا تبول ولا تتغوَّط وتحيض! فلما اشتهر هذا من أمرها أنكره الفقيه أبو موسى ابن الإمام وتلا {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} (7) (سورةالمائدة:75)
    فأخذ الناس يبثُّون ثقات نسائهم ودُهاتهن إليها فكشَفْن عنها بكل وجه يمكنهن فلم يقِفْن على غير ما ذُكِرَ.
    وسُئِلَتْ: هل تشتهين الطعام؟
    فقالت: هل تشتهون التِّبْنَ بين يَدَي الدواب! (8)
    وسُئِلَتْ: هل يأتيها شيء؟
    فأخبرتْ أنها صامت ذات يوم فأدركها الجوع والعطشن فنامت فأتاها آتٍ في النوم بطعام وشراب، فأكلت وشربتْن فلما أفاقت وجدتْ نفسها قد استغنتْ فهي على تلك الحال تُؤْتَى في المنام بالطعام والشراب إلى الآن.
    ولقد جعلها السلطان في موضع بقصره، وحفَظَها بالعُدُول».
    ثم ذكر صاحب كتاب: «المحاضرات» أنهم كانوا يُفتَّشون أمها عند زيارتها لها إن كانت تُخبِئ لها الطعام معها في ملابسها، فلم يجدوا ذلك! وهكذا ظلوا يفعلون مع أمها أكثر من أربعين يومًا من زيارتها لبنتها في تلك الحجرة التي وضعها السلطان فيها وأقام على بابها جماعة من الحَرَس.
    ثم قال: «غير أني أردت أن يزاد في عدد العُدُول (يعني المراقبين لتك المرأة.) ويُجْمَع إليهم الأطباء ومَنْ يخوض في المعقولات (9) من علماء المِلَل المسلمين وغيرهم، ويُوَكَّل من نساء الفِرَق مَنْ يبالِغ في كشْف مَن يدخل إليه، ولا يُتْرَك أحدٌ يخلو بها (10)
    وبالجملة: [ينبغي المبالغة] في ذلك، ويُسْتَدام رعْيُها عليه سنة 11) لاحتمال أن يغلب عليها طبْعٌ فتستغْنِي في فصْل دون فَصْل» (12)
    ثم اقترح بعد التأكد من ثبوت كون تلك المرأة لا تأكل ولا تشرب أن يقوم السلطان بكتابة هذه الحكاية الغريبة العجيبة هذا في العُقُود والكتب، حتى يُشاع أمْرُها في العالم.
    لأن في صحة تلك الحكاية ما يهدم بعض قوانين الطبيعة التي بعضها أضرُّ الأشياء على الشريعة الإسلامية (13).
    ولأن في صحة تلك الحكاية ما يُبَيِّن أن الحيض ليس من فَضَلات الغذاء (14)
    ولأن في صحة تلك الحكاية يُوجِب أن الاقترانات بالعادات لا باللزوم، وعند الأسباب لا بها، (15) إلى غير ذلك.

    تابع بقية القصة : ....

    ------- الحاشية --------
    (1) نقله عنه الحافظ في ترجمة تلك المرأة من «الدرر الكامنة» [3/ 3 - 4 / طبعة دائرة المعارف العثمانية].
    (2) في كتابه «الوافي بالوفيات» [16/ 348 / طبعة دار إحياء التراث].
    (3) واسط: اسم مدينة مشهورة.
    (4) نقله عنه الحافظ في ترجمة تلك المرأة من الدرر الكامنة [3/ 3 - 4 / طبعة دائرة المعارف العثمانية].
    (5) هو محمد بن محمد أبو عبد الله القرشي المُقْري (000 - 758 هـ = 000 - 1357 م) وحكايته هنا نقلها عنه حفيده في «نفح الطيب» [5/ 305 / طبعة دار صادر].
    (6) رندة: هي مدينة مشهورة بالأندلس.
    (7) يعني: إذا كان عيسى بن مريم وأمه - وهما من هما - يأكلان الطعام كما وصفهما الله - والوصْف بالأكل جاء لضرورة الحاجة إليه من جميع المخلوقات وإلا ماتت- فكيف يكون مَنْ دُونهما من الناس يستطيع أن يستغني عن الطعام والشراب؟
    (8) تقصد: كما أن الناس لا يشتهون طعام الحيوانات بل يتقزَّزون منها، فكذلك طعامكم عندي مثل طعام الدواب! لا أشتهيه! بل أتقزَّز من رؤيته ورائحته!
    (9) يقصد: المهتمين بعلوم العقل وشؤون الطبيعيات والعلوم التجريبية.
    (10) يعني: من أجل التأكد من كون تلك المرأة صادقة فيما تقول، وأنها حقًّا لا تأكل ولا تشرب، فربما تكون كاذبة في قولها، وأن هناك من الناس مَنْ يُدخِل لها الطعام سِرًّا.
    (11) يعني: مراقبتها مدة لا تنقص عن سنة، حتى نتأكد يقينا أنها لا تكذب في كلامها.
    (12) يقصد: أنه ربما تكون تلك المراة تُعاني مرضًا يجعلها تمتنع عن الطعام في بعض فصول السنة دون البعض الآخر. فلذلك اقترح أن يقوم السلطان بمراقبتها سنة كاملة للتأكد من كونها لم تأكل ولم تشرب خلالها شيئًا!
    (13) مثل مَنْ ينكر معجزة انشقاق القمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوى أن ذلك مخالف لقوانين الطبيعة! كما يقول بذلك المادِّيُّون والطبيعيُّون وكثير من العلمانيين والليبراليين والعقلانيين!
    (14) يعني: أن الفكر السائد في ذلك الزمان وقبله هو الاعتقاد بأن سبب أو من أسباب نزول الحيض هو الطعام والشراب! وأن الطعام والشراب هما اللذان يتولَّد وينتج عنهما دم الحيض، فلو صحتْ حكاية تلك المرأة لظهر فساد ذلك الاعتقاد. لأنها كانت لا تأكل ولا تشرب ومع ذلك كان ينزل عليها الحيض في معاده الطبيعي!
    (15) يعني: أن عادات الناس هي في الحقيقة قوانين لكل فرد منهم، وليست لوازم سائرة على كل الناس، فهناك من يتحمَّل الاستغناء عن الطعام يومين أو ثلاثة، وهناك من لا يصبر على ذلك ساعتين أو ثلاث ساعات وربما أقل! فعادات الناس هي الحاكمة عليهم، وليس لذلك قوانين عامة تجري على الجميع كما كان معروفًا في كلام بعض الأطبَّاء وأكثر العقلانيين والمادِّيين قديمًا وحديثًا.

  18. #18

    افتراضي

    لكن للأسف! لم يجد صاحب كتاب «المحاضرات» أحدًا يأخذ باقتراحه ويعمل به! بل ما اهتم البعض بكلامه! حتى كان يتأسَّف ويقول: «إن الرَّزِيَّة كلَّ الرزية تضييع أمْرِ المرأة الرُّنْدِيَّة». (1)
    يقصد بالمرأة الرندية: هي تلك المرأة صاحبة القصة هنا، وهي منسوبة إلى مدينة «رُنْدَة» الأندلسية.
    وأقول أنا أبو المظفر السناري مؤلف هذا الكتاب: إن صحت حكاية تلك المرأة فيكون ما جرى لها هو كرامة من الله؛ لأنها كانت امرأة صوَّامة كانت تتحمَّل الجوع والعطش في سبيل الله، فلذلك أكرمها الله بالطعام والشراب في منامها كل ليلة كما تقول عن نفسها فيما سبق، فلم تشعر بالجوع والعطش عندما تستيقظ طول يومها.
    ثم قال صاحب كتاب: «المحاضرات»: «وذُكِرَ أن امرأة أخرى كانت معها على تلك الحالة، وحدَّثَني غير واحد من الثقات ممّن أدرك «عائشة الجزيرية» أنها كانت كذلك، وأن عائشة بنت أبي يحيى اختبرَتْها (يعني: راقبتْها طوال تلك المدة فلم ترها تأكل أو تشرب!) أربعين يومًا أيضًا».
    5 - ومنهن امرأة بَصْرِيَّة (2)
    فقال صاحب «تاريخ إربل» (3) في ترجمة شيخه «عبد الله بن أبي الفضل»: (589 - 643 هـ):
    «وحدثنا من لفْظه حديث المرأة التي بالبصرة المشهور ذِكْرُها (يعني التي اشتهر خبرها بالبصرة.) وكنا نسمع بحديثها منذ سنين عِدَّة، وهي التي لا تأكل ولا تشرب ولا تتغوَّط، إنما تتغذَّى بالذِّكْر (يعني: بالقرآن وذكِر الله. فهذا كان طعامها وشرابها.) ..
    قال: وكنتُ أسمع عنها ذلك ولا أُصدِّقه، حتى سمعت بحالها من الأمير «باتكين» (4) والِي البصرة، وقال لي: لا يجوز أن يُشَكَّ في حديثها، فإنه صحيح، شاهدتُها وعرفتُه. قال: ولها كرامات كثيرة لا تعرفها هي، حدَّث ببعضها.
    قال: وسمع بها «ابن أمسينا» (5) فأحضرها وأغلق عليها بابًا نحوًا من ثلاثة أشهر، فما أكلَتْ ولا شرِبَتْ ولا غاطتْ ولا أراقتِ الماء (يعني: ما دخلتْ الخلاء للتبوُّل أو غيره.).
    وحدَّثَتْ: أن سبب ذلك أن أباها صُودِر وَلَها ومن العمر ثلاث عشرة سنة (6)، فرأت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام يَسقيها شرابًا، فانتبهْتُ وأقمتُ أيامًا لا أشتهي طعامًا ولا شرابًا، ثم تمادتْ بِيَ الحال. فلِي خمسٌ وعشرون سنة على هذه الحال».
    قلت (أبو المظفر السناري): فكأنَّ الله أكرمها بتلك الكرامة عِوَضًا لها عن أبيها الذي كان يرعاها ويأتيها بالطعام والشراب، ويبدو من حديثها أنها كانت متعلقة بأبيها، فلعل أمها ماتت وهي صغيرة، فتولَّى أبوها أمرها، فشبَّتِ الفتاة على حُبِّه، فلما مات وهي لا تزال صغيرة، لم تتحمَّل فُقْدَانه! فأكرمها الله بما أكرمها به. وذلك فضْل الله يؤتيه من يشاء.
    وهناك جماعة من النسوة أُخْرَيات وقع لهن مثل ما وقع لمن ذكرناهنَّ سابقًا.
    وهذا الذي جرى معهن: سبيله التصديق إذا ثبتت دلائله، واستقام الطريق إلى قائله؛ إذ ليس هناك ما يمنع من حدوث هذا في شريعتنا أصلًا.
    ومحْمَل كل ذلك: على كونه آية من آيات الله ينزل بها على من يشاء، وكرامة منه على بعض عباده يختصه بها متى شاء ...
    وهذه الأعصار التي نعيشها الآن: قد وُجِدَ فيها مَنْ يصبر على الطعام والشراب شهْرًا وشهرين وشهورًا! ومنهم من يصبر على الطعام ولا يصبر على الماء!
    وهذا الصِّنْف: منه كثيرون الآن!
    وقد حدَّث الإمام الألباني (7) - وهو الثقة الثَّبْتُ المأمون - فقال:
    «لقد جوَّعْتُ نفْسي في أواخر سنة (1379هـ) أربعين يومًا متتابعًا، لم أذُقْ في أثنائها طعامًا قطّ، ولم يدخل جَوْفي إلّا الماء! وذلك طلبًا للشفاء من بعض الأدواء (8)، فعُوفِيتُ من بعضها دون بعض، وكنتُ قبل ذلك تداويْتُ عند بعض الأطباء نحو عشر سنوات دون فائدة ظاهرة، وقد خرجتُ من التجويع المذكور بفائدتين ملموستين:
    الأولَى: استطاعة الإنسان تحَمُّل الجوع تلك المدَّة الطويلة، خلافًا لظنِّ الكثيرين من الناس.
    والأخرى: أن الجوع يفيد في شفاء الأمراض الامْتلائيّة (9)؛ كما قال ابن القيّم رحمه الله تعالى، وقد يفيد في غيرها أيضًا كما جرَّب كثيرون، ولكنه لا يُفِيد في جميع الأمراض على اختلاف الأجسام»
    (10)

    ------- الحاشية ---------
    (1) نقلا - ببعض التصرّف - عن «نفْح الطيب» [5/ 305 - 306] لأبي العباس المقري.
    (2) نسبة إلى مدينة «البصرة».
    (3) انظر: «تاريخ إربل» [ص 408 - 409 / طبعة وزارة الثقافة والإعلام العراقية].
    (4) هو باتكين بن عبد الله الرومي الناصري، أبو المظفر شمس الدين (560 - 640 هـ = 1165 - 1242 م) تولّى ولاية البصرة، فأقام بها 23 سنة، فعمرها، وبنى لها سورا مُحْكَمًا، وجدَّد بها مدارس شتى. انظر: «الأعلام» [3/ 40 - 41] للزركلي.
    (5) ابْن أمسينا: هو مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ أَبُو الْبَدرْ، خدم في الأشغال الديوانية، وتولى أشغال الأمراء، وناب فِي الوزارة، وَكَانَ كَاتبا سديدا مليح الْخط حسَنَ السِّيرَة مَحْمُود الطَّرِيقَة. انظر: «الوافي بالوفيات» [2/ 78] للصفدي.
    (6) لعله يقصد بالمصادرة هنا: الموت. يعني أن أباها مات وهي لا تزال صغيرة لم تتمتَّع بأبيها كغيرها من الصغيرات.
    (7) هو أحد أئمة الإسلام في هذا الزمان، وممن نَفع الله بأعمالهم وكتبهم في الأدوار الأخيرة. ولِدَ عام (1333/للهجرة) الموافق (1914م). وتوفي قبيل يوم السبت في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة (1420/للهجرة)، الموافق الثاني من أكتوبر (1999م)، ودُفِنَ بعد صلاة العشاء.
    (8) الأدواء: الأمراض. مفرد داء.
    (9) الامتلائية: يعني الأمراض التي يكون سببها كثرة الطعام والشراب.
    (10) انظر: «السلسلة الضعيفة» [1/ 419].

  19. #19

    افتراضي

    وافَقَ شَنٌّ طبَقَة (1)

    كانَ رجُلٌ من دُهاة العرَب وعُقلائِهِم يُقال له: شَنٌّ، ذكروا عنه أنه قال يومًا: واللهِ لأطوفَنّ حتى أجِدَ امْرأةً مِثْلي فأتزوّجَها.
    فبينما هو في بعضِ مَسيرِه إذْ رافقَه رجُلٌ في الطّريق فسألَه شنٌّ: أتَحْمِلُني أم أحمِلُك؟ فقال له الرّجل: يا جاهِلُ أنا راكِبٌ وأنتَ راكِبٌ فكيفَ أحْمِلُك أو تحمِلُني؟
    فسكت عنه شنٌّ، وسارَ حتى إذا قرُبَا من القَرْيةِ إذا هما بزَرْعٍ قد استُحْصِد (يعني: تمَّ حصَادُه.)
    فقال شَنٌّ: أتُرَى هذا الزّرْعَ أُكِلَ أم لا؟
    فقال له الرّجلُ: يا جاهلُ تَرى مُسْتَحصَدًا فتَقول: أُكِلَ أم لا؟ (يعني: كيف يكون قد أُكِلَ وهو لم يزل محصودًا أمامك؟).
    فسكتَ عنه شنُّ، حتى إذا دَخلا القَريةَ لقِيَتْهُما جَنازة فقال شنٌّ:
    أتُرَى صاحب هذا النّعْشِ حيًّا أو مَيِّتًا؟
    فقال له الرّجل: ما رأيتُ أجْهَلَ منْك! تَرى جِنازةً تسألُ عنها: أميِّتٌ صاحِبُها أمْ حيّ؟ فسكَتَ عنه شَنٌّ، فأرادَ مفارقَتَه فأبَى ذلك الرّجلُ أن يتْرُكَه حتى يَسيرَ به إلى منْزِله، فمضَى معه.
    وكانَ للرّجل بنْتٌ يُقالُ لها: طَبَقةُ، فلمّا دخَل عليها أبوها سألَتْه عن ضَيْفِه فأخْبَرَها بمُرافقَته إيّاه، وشَكا إليها جَهْلَه، وحدَّثَها بحَديثِه فقالتْ: يا أبَتِ ما هذا بجاهِلٍ.
    أما قولُه: أتَحْملُني أم أحْمِلُك؟
    فأرادَ أتُحدِّثُني أم أحدِّثُك حتى نقْطَعَ طريقَنا ...
    وأما قولُه: أتُرى هذا الزّرعَ أُكِل أم لا؟
    فإنّما أرادَ هلْ باعَهُ أهلُه فأكَلوا ثمنه أم لا؟
    وأمّا قولُه في الجِنازة: فأرادَ هل ترَكَ عَقِبًا يحيا بهم ذِكْرُه أم لا؟ (2)
    فخرَج الرّجُلُ فقَعَدَ مع شنٍّ فحادَثَه ساعةً ثم قال: أتُحِبُّ أن أُفسِّرَ لك ما سألْتَني عنه؟ قال: نعَم ففسّره، فقال شنٌّ: ما هذا من كَلامِك فأخْبِرْني عن صاحِبِه؟ فقال: ابنةٌ لي، فخطبَها إليه وزوَّجَها له وحملَها الى أهلِه ....
    ومنه قيل: وافقَ شنٌّ طبَقَة وكذا: صادَفَ شنٌّ طَبَقَةَ.
    قلتُ: إنْ صحتْ تلك الحكاية فَمَنْ لي بِطَبَقة مثل تلك الطبَقة؟
    ------- الحاشية -------
    (1) قلتُ: هذا مثَل عربي معدود من جملة الأمثال العربية السائرة، وقد فسَّرَه جماعة بأقوال متابينة، وهذا التفسير هنا هو أطرف ما وقفتُ عليه في تفسيره، وقد ذكره جماعة، منهم المرتضَى الزَّبيدي في «تاج عروسه» [26/ 53 - 54/ طبعة دار الهداية] عن الشّرْقيِّ بن القُطامِيِّ أنه قال: «كانَ رجُلٌ من دُهاة العرَب وعُقلائِهِم ... » وذكر القصة كما هنا.
    (2) ولذك يقال عندنا في الأمثال المصرية العامية: «الِّلي خَلِّف ما مات» ومعنى المثل: أن الذي أنجب أولادًا قبل موته لم يَمُتْ ذِكْرُه بين الناس، بل هو موجود بوجود أولاده.

  20. #20

    افتراضي

    عِجْلٌ يتكلم!

    قال الشيخ المؤرِّخ قطب الدين اليونيني: حكى جماعة كثيرة من أهل دمشق واستفاض ذلك فى دمشق وكثُرَ الحديث فيه عن قاضى جبَّة أعسال، وهي قرية من قُرَى دمشق، أنّه تكلّم ثَوْر بقرية من قُرَى «جبّة أعسال».!
    وملخّصها: أنّ الثور خرج مع صبِيٍّ يشرب ماء من هناك فلمّا فرغ حمد الله تعالى فتعجّب الصبي! وحكى لسيِّده مالِك الثور، فشكَّ فى قوله!
    وحضر في اليوم الثاني بنفسه، فلمّا شرب الثور حمد الله تعالى؛ ثم في اليوم الثالث حضر جماعة وسمعوه يحمد الله تعالى؛ فكلَّمه بعضهم فقال الثور: «إنّ الله كان كتب على الأمّة سبع سنين جَدْبًا (يعني: مجاعة وقلة في الطعام.)، ولكن بشفاعة النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أبدلها بالخَصْب.
    وذكر أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أمره بتبليغ ذلك، وقال الثور: يا رسول الله ما علامة صِدْقِي عندهم؟ قال: أن يموت عقب الإخبار. قال الحاكي لذلك: ثم تقدَّم الثور على مكان عالٍ فسقط مَيِّتًا، فأخذ الناس من شعره لِلتَّبرُّك، وكُفِّن ودُفِن.» (1).
    قال المؤرخ ابن تغْرِي بَرْدِي: «هذه الحكاية غريبة الوقوع، والحاكي لها ثقة حُجَّة (2)، وقد قال: إنّه استفاض ذلك بدمشق».
    حول القصة:
    قلت: قد ثبت في «صحيح البخاري» من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، صَلاَةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ. فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ، فَقَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا، أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، - وَمَا هُمَا ثَمَّ - وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ، فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ، فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا: اسْتَنْقَذْتَهَ ا مِنِّي، فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي " فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، قَالَ: «فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ... ».
    قلت: فهذه بقرة وذئب تكلَّما وأخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عنهما.
    وقد صح في «جامع الترمذي» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ الإِنْسَ».
    ------- الحاشية -------
    (1) نقله عنه ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة» [8/ 59/طبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، مصر].
    وساق القصة أيضًا: شمس الدين محمد بن إبراهيم الجزري في تاريخه: «حوادث الزمان» كما ذكره الشهاب النويري في «نهاية الأرب في فنون الأدب» [33/ 186 - 187].
    (2) يعني: الشيخ قطب الدين اليونيني.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •