قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ).
ـ هذا شعار التجمد والتحجر في الفكر والرأي والمعرفة والبصيرة...
ـ شعار من استغرب شيئا ليس على هواه وليس له من قبله علم ، فيمجّه ويطرده ويطرحه ولا يعبأ به جملة واحدة...
ـ شعار السيطرة والانغلاق وعدم إعمال الفكر والعقل في أي مسألة تطرح عليه لم يكن له علم بها من قبل ... فسرعان ما يقول: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ... ، لو كان حقا لماذا تركه السابقون ولم ينوهوا له... ،
ـ شعار المتبوع المنغلق الذي يحب أن تملى عليه الأوامر فيؤديها وفقط ...
مثله كمثل الحاسوب الآلي الموضوع فيه المعلومات .. فإذا عرضت عليه معلومة جديدة صحيحة ولكن ليست مدخلة ومدرجة في بياناته.. رفضها وتعدى فقال: ليس هناك شيء صحيح تريد البحث عنه بهذه الصفة...
(فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ )
ـ ولكن الله تعالى أمرنا باستعمال النظر والعقل والبصر والسمع والفهم والتدبر والتأمل ...فلا بد من إعمال هذه الأشياء لكي نكون ممن مدحهم الله بإعمالهم لهذه الأشياء ...
ولا نقتدي بالكافرين في التحجر وضيق الأفق في أمر كأمر الدين الذي لو استخدموه وآمنوا به وأعملوا عقولهم بالتفهم له كما أعملوا عقولهم في الماديات والتجارب والتطور التكنولوجي لكان خيرا لهم وأقوم..

وبعد ذلك يمضي في استعراض مقولات المشركين عن هذا القرآن وعن هذا الدين ; فيحكي اعتذارهم عن التكذيب به والإعراض عنه , اعتذار المستكبر المتعالي على المؤمنين:
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا:لو كان خيرا ما سبقونا إليه . وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم). .
ولقد سارع إلى الإسلام وسبق إليه نفر من الفقراء والموالي في أول الأمر . فكان هذا مغمزا في نظر الكبراء المستكبرين . وراحوا يقولون:لو كان هذا الدين خيرا ما كان هؤلاء أعرف منا به , ولا أسبق منا إليه . فنحن , في مكانتنا وسعة إدراكنا وحسن تقديرنا , أعرف بالخير من هؤلاء !
والأمر ليس كذلك . فما كان يمنعهم عنه أنهم يشكون فيه أو يجهلون الحق الذي يقوم عليه . والخير الذي يحتويه , إنما كان هو الكبر عن الإذعان لمحمد - كما كانوا يقولون - وفقدان المراكز الاجتماعية , والمنافع الاقتصادية , كما كان هو الاعتزاز الأجوف بالآباء والأجداد وما كان عليه الآباء والأجداد . فأما الذين سارعوا إلى الإسلام وسبقوا إليه فلم تكن في نفوسهم تلك الحواجز التي منعت الكبراء والأشراف .
إنه الهوى يتعاظم أهل الكبر أن يذعنوا للحق , وأن يستمعوا لصوت الفطرة , وأن يسلموا بالحجة . وهو الذي يملي عليهم العناد والإعراض , واختلاق المعاذير , والادعاء بالباطل على الحق وأهله . فهم لا يسلمون أبدا أنهم مخطئون ; وهم يجعلون من ذواتهم محورا للحياة كلها يدورون حوله ويريدون أن يديروا حوله الحياة: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم). .
طبعا ! فلا بد من عيب في الحق ما داموا لم يهتدوا به , ولم يذعنوا له . لا بد من عيب في الحق لأنهم هم لا يجوز أن يخطئوا . وهم في نظر أنفسهم , أو فيما يريدون أن يوحوا به للجماهير , مقدسون معصومون لا يخطئون !

وقال السعدي: أي: قال الكفار بالحق معاندين له ورادين لدعوته: { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } أي: ما سبقنا إليه المؤمنون أي: لكنا أول مبادر به وسابق إليه وهذا من البهرجة في مكان، فأي دليل يدل على أن علامة الحق سبق المكذبين به للمؤمنين؟ هل هم أزكى نفوسا؟ أم أكمل عقولا؟ أم الهدى بأيديهم؟ ولكن هذا الكلام الذي صدر منهم يعزون به أنفسهم بمنزلة من لم يقدر على الشيء ثم طفق يذمه ولهذا قال: { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } أي: هذا السبب الذي دعاهم إليه أنهم لما لم يهتدوا بهذا القرآن وفاتهم أعظم المواهب وأجل الرغائب قدحوا فيه بأنه كذب وهو الحق الذي لا شك فيه ولا امتراء يعتريه.